سؤال: كيف لنا أن نفهم قول الأستاذ سعيد النورسي: “الحاجة تدعو إلى التذكير بالمسلّمات أكثر من تعليم النظريات”[1]؟
الجواب: مع مراعاتنا للزمن الذي عاش فيه الأستاذ النورسي فقد قصد بتعبيره هذا أن يقول: إن التركيز على محكمات الدين والقضايا الأساسية فيه خير من وضع النظريات حول هذه القضايا والاشتغال بها، فمثلًا القضايا العقائدية مثل وجود الله تعالى ووحدانيته، وحقيقة النبوة، والإيمان بالحشر وبالكتب السماوية، أو الأحكام العملية مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ كلها مسلمات دينية ينبغي للمسلمين أن يركزوا عليها في الأصل، كما يجب عليهم أن يستنفدوا كل الوسائل التي تعينهم في ذلك، وأن يستخدموا مختلف الأدلة والبراهين في دحض الشبهات التي تراود الأذهان، وأن يُبْرِزوا هذه المسلمات على أنها حقائق ثابتة لا تتزعزع.
إن الزمان قد انكمش والمسافات قد تقاربت كعلامة من علامات آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وليس من الصواب أيضًا حصرُ المسألة في العبادات وأركان الإيمان فحسب، فثمة أحكام عديدة نصّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية تتعلّق بالحياة الفردية والأسرية والاجتماعية، وما يجب علينا هو تذكير بعضنا البعض بحِكَم هذه الأحكام ومقاصدها؛ لأن المسلمين إن التزموا وتقيدوا بهذه الأحكام الأساسية في الدين أو ما نسميها المسلمات فستنتظم حياتهم الدنيوية وتسلم حياتهم الأخروية، أما دراسة بعض النظريات التي لا نفع فيها دينيًّا أو أخرويًّا والعمل على تطوير النظريات الجديدة والتسلي بها لمجرد الاشتغال بالعلم ليس إلا؛ فليس بالطريق الصائب السليم. أجل، إن إعمالَ الذهن في مسائل بعينها، وإنتاجَ أفكارٍ لا تتجاوز التنظير بحجة تحصيل العلم؛ لا فائدة منها بعدما ثبت أنها لا تقدِّم العلاج المباشر لمشاكل الناس الحالية.
من جانب آخر دلّنا الأستاذ سعيد النورسي بقوله هذا على أساس مسلكه؛ لأنه كان يحرص على إعادةِ إحياء العديد من قضايا الدين التي أصابها الإهمال بأصولها وفروعها، والعملِ -كما يقول- على ترميم قلعة الإيمان الخرِبة منذ قرون؛ فالأولى بالنسبة له إعادة تعمير القيم الخربة؛ ومن أجل ذلك لم يكن يحبّذ الاشتغال بمسائل نظرية لا فائدة لها على أرض الواقع في حين وجود وظيفة مهمة كهذه، وأكد على أنه لا يصح صرف الهمم عبثًا هنا أو هناك، بل لا بد من توجيهها إلى إعادة ترميم هذه القلاع الخربة من جديد.
ليس من الصواب أيضًا حصرُ المسألة في العبادات وأركان الإيمان فحسب، فثمة أحكام عديدة نصّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية تتعلّق بالحياة الفردية والأسرية والاجتماعية.
وكما أنه ليس من الصواب الإقدام على عمل الزينات والزخارف بالقلعة دون ترميم ما أصابها من تصدعات فكذلك لا يصح الاشتغال بالقضايا التافهة دون حل هذه المشاكل؛ في وقتٍ اهتزت فيه القيم الأساسية وتحطمت، فضلًا عن ذلك فإن الانكسارات الحاصلة في المسائل المتعلقة بالمحكمات والمسلّمات ستؤثر بدورها على القضايا الأخرى، وستتهدم في النهاية جميعُ القيم المتصلة بالدين محدِثةً دويًّا شديدًا، ولهذا يجب صرف الهمم نحو توطيد وإحكام المسلَّمات الدينية.
وعند القيام بذلك يجبُ أخذُ ظروفِ الزمان بعين الاعتبار، وإعداد الإحصائيات اللازمة قبل البدء في تشييد البناء، وتمهيد الأرضية جيدًا لمنع وقوع أي انهيار محتمل، أما إذا لم نواكب الزمن الذي نعيش فيه ولم نتعامل مع القضايا الدينية وفقًا لذلك فلن تكون هناك أي فائدة للتذكير بالمسلمات.
روح التجديد
التجديد هو إعادة تفسير الدين والتعامل معه وفقًا لظروف الزمان، ولا يعني التلاعبَ بأصل المسألة، ولا تغييرَ الأصول، ولا إعادةَ إنتاجِ ما هو مشوهٌ بطريقة جديدة، بل هو إرجاعُ الحقيقة التي فقدت لونَها وبريقَها مع مرور الزمن إلى هويتها الأصلية من جديد، وإقامتها بماهيتها الأصلية مرة أخرى.
ويمكن أن نشبه هذا الأمر بترميم الآثار القديمة، والذين يشتغلون بهذا الأمر يعملون على ترميم هذه الآثار ومعالجتها بأدق تفاصيلها، وعلى إعادتها إلى ماهيتها الأصلية من جديد، وعند قيامهم بهذا لا يفسدون نقوشَ هذه الآثار ولا يضرّون بمقرنصاتها، ولا يحطمون الزجاج الملون والأرابيسك فيها، بل يعيدون كل شيء بجميع أجزائه إلى أصله وأصالته من جديد، وعلى الشاكلة نفسها ثمة حاجة ماسة إلى تقديم هذه المسلّمات الدينية التي فقدت أهميتها ومعناها في أعين الناس بشكلٍ يتناسب مع غاية وضعها. وهذا ما نسميه التجديد من ناحية ما.
ويجب عدم الخلط بين التجديد والإصلاح، ففكرةُ الإصلاح في الدين عبارة عن مجرد فانتازيا ورفاهية؛ فمثلًا ظهرت المساعي إلى إبطال العديد من المحكمات الدينية تحت مسمى التاريخانية نتيجة مثل هذه الفانتازيا.. وعلى نفس الشاكلة ظهرت محاولات لتغيير وتحريف بعض القضايا الإسلامية حتى يتقبلها الآخرون أو تبدو لطيفة بالنسبة لهم؛ وهذا أيضًا نوعٌ آخر من الفانتازيا، ومع الأسف غدا كثيرٌ من الناس يهرعون الآن خلف هذه الفانتازيا، والواقع أنه لم يحدث حتى الآن أيُّ تشوُّهٍ في الأسس والضوابط الإسلامية حتى نتحدث عن إصلاحها.
التجديد هو إعادة تفسير الدين والتعامل معه وفقًا لظروف الزمان، ولا يعني التلاعبَ بأصل المسألة، ولا تغييرَ الأصول، ولا إعادةَ إنتاجِ ما هو مشوهٌ بطريقة جديدة.
إن الدين يشعّ نضارة وحيوية في كل وقت وحين، أما ما قد يبلى فهو عقولُ الناس وأفكارُهم، وطالما لم تبلَ أفكارُ الناس ومشاعرُهم ولم تفقد بريقها فيمكن للناس الإحساس بأوامر الدين وكأنها نزَلَت الآن من السماء غضة طرية، وهكذا نطلق التجديد على عملية تقديم القيم التي يجب الإيمان بها ومعايشتها -مرة أخرى- إلى الذين فقدوها، وإعادة ربطهم بها من جديد، بالتزامن مع مواكبة العصرِ.. أما من يقوم بوظيفة التجديد فنطلق عليه المجدِّد.
بعبارة أخرى، إن التجديد تغيير شكلي أو صوري في الحقائق الدينية دون المساس بأصلها، مع تبليغها للناس مرة أخرى وتقديمها إليهم بنضارتها وطراوتها، والبعض يعتبر أولَ المجددين في تاريخ الإسلام سيدَنا أبا بكر الصديق فسيدَنا عمر، ومن بعدهما عمر بن عبد العزيز رضوان الله على الجميع.. كما ظهر في العصور التالية ممثلون لحركة التجديد من أمثال الإمام الغزالي، والإمام الرباني، ومولانا خالد البغدادي، والأستاذ النورسي؛ رحمهم الله جميعًا.
إن التركيز على محكمات الدين والقضايا الأساسية فيه خير من وضع النظريات حول هذه القضايا والاشتغال بها.
فمع تغير الزمان وغلبة العادات والتقاليد وتفشّي الغفلة قد يبتعد الناس عن جو الدين النقي الطاهر، وينتابهم نوعٌ من الإلف والتعود إزاء حتى محكمات الدين، وتختفي بعض الحساسيات الدينية، بل وقد ظهرَت بعضُ الانحرافات في النظرة إلى الدين واستيعاب القضايا الدينية، ولهذا بات من أهم الأوليات التي يجب القيام بها كما فعل الأستاذ النورسي: تقديم المسائل الدينية بشكلٍ يتناسب مع ماهيتها الحقيقية، وعرضها على أعين الناس مرة أخرى بأسلوب ولغة ولهجة جديدة، وإثارة روح الحماس في نفوس الناس إزاء هذه الحقائق.
إن الزمان قد انكمش والمسافات قد تقاربت كعلامة من علامات آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم[2]، والعصر الذي نعيش فيه هو عصر السرعة، والمبادرة في القيام بالوظائف الدينية التي يلزم القيام بها في هذا العصر تَحمِل أهمية بالغة بالنسبة لوارثي دعوة النبوة، ولهذا يُشترط استخدام العقل المشترك، والرجوع إلى الوعي الجمعي، وإدارك روح الزمان ومواكبته، ويجب على الجميع أن يقوم بقدر استطاعته بأداء الوظائف والتكاليف المنوط بها على النحو اللائق، ويجب -إن اقتضت الضرورة- إقامة المؤسسات الفكرية (Think Tanks)، ووضع الخطط والمشاريع المستقبلية، والبحث عن سبل لاختزال الأعمال التي تتم خلال مائة سنة في عشر سنوات مثلًا.. كما يجب تدبّر الأوامر التكوينية أيضًا إلى جانب الأحكام التشريعية، واستخدامها في محلها، وتحقيق السرعة المراد تحقيقها، فهذه كلها جهودٌ ومساعٍ مهمة من أجل جمع وتأليف العالم الإسلامي الكبير الواقع تحت الأسر من جديد، وإيقاظ العقول التي انتابها الضمور والضعف منذ قرون.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، اللوامع، ص 859، دار النيل، (2013م).
[2] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ (وَهُوَ الْقَتْلُ) وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ“. (صحيح البخاري، الجمعة، 103)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ“، والسعفة هي الْخُوصَةُ. (مسند الإمام أحمد، 16/550)