صدر اعتراف مثير للغاية من أعلى السلطات القضائية في تركيا يكشف أن محاولة الانقلاب في عام 2016 تم تدبيرها من قبل السلطة السياسية من أجل العثور على دليل وذريعة لإعلان حركة الخدمة منظمة إرهابية وتصفية الجيش من غير المرغوبين فيهم بتهمة الانتماء إلى هذه المنظمة.
فقد اعترف النائب العام في أنقرة وعضو المحكمة العليا المسؤول عن تحقيقات الانقلاب الفاشل هارون كودالاك بأنهم لم يتمكنوا من العثور على أدلة تثبت أن حركة الخدمة منظمة مسلحة في مذكرة الادعاء الرئيسية الخاصة بهذه الحركة، المذكرة التي نشرت قبل فترة قصيرة من المحاولة الانقلابية الغاشمة في 15 يوليو / تموز 2016.
وقال كودالاك: “لم نتمكن من العثور على كثير من الأدلة والوثائق التي تثبت الاتهامات الواردة في مذكرة الادعاء المتعلقة بهم. لكنهم كشفوا بأنفسهم ليلة المحاولة الانقلابية أنهم تنظيم إرهابي مسلح بعدما عجزنا عن إقناع الرأي العام بهذه الأطروحة”، مما يدل على أن الانقلاب تم تدبيره لإثبات هذه الأطروحة.
وفيما يلي نصّ ما قاله كودالاك في الحوار الذي أجرته معه صحيفة “خبر ترك” في 15 يوليو / تموز 2017، أي الذكرى السنوية الأولى للانقلاب المزعوم:
“لقد نشرنا مذكرة الاتهام الرئيسية (الخاصة بالكيان الموازي / حركة الخدمة) قبل بضعة أيام من المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016. لكن كنّا نعاني من مشكلة فنيّة / تقنية. لقد كنا فشلنا في إقناع العديد من شرائح المجتمع بأن هؤلاء تنظيم إرهابي مسلح. لم نكن عثرنا على ما يكفي من المعلومات والوثائق لإثبات هذه الحجج في مذكرة الادعاء، إلا حادثة استيقاف شاحنة المخابرات (المحملة بالأسلحة لإرسالها إلى سوريا). لكنهم كشفوا بأنفسهم ليلة المحاولة الانقلابية أنهم تنظيم إرهابي مسلح بعدما عجزنا عن إقناع الرأي العام به”.
الخلفية التاريخية
يذكر أن الرئيس أردوغان بذل جهودًا جبارة لإقناع الجيش أو إجباره على اتخاذ موقف صارم مما سماه في ذلك الوقت الكيان الموازي (حركة الخدمة)، لكنه فشل في ذلك، حيث رفض رئيس الأركان العامة في تلك الفترة نجدت أوزيل طلب أردوغان بإطلاق عملية في صفوف العسكر لتصفية الجيش مما وصفه بأعضاء الكيان الموازي على غرار ما جرى في جهازي الأمن والقضاء بعد تحقيقات الفساد والرشوة في 2013 بقوله: “القوات المسلحة لا تتحرك إلا بناءً على الأدلة والوثائق. لقد طالبنا كلاًّ من الأمن والاستخبارات بتزويدنا بمعلومات في هذا الموضوع، غير أنه لم تصلْنَا أية معلومات عنهما، فلا يمكننا إطلاق عمليات بناءً على بلاغات غير موقعة. نحن نقوم بما يلزم في إطار القوانين”. (1)
وفي الأيام التي سبقت اجتماع أعضاء مجلس الأمن القومي في 31 نوفمبر 2014، قال أردوغان إنه سيتم النظر في أولويات وتهديدات الأمن القومي وتحديدها من جديد، وإن الكيان الموازي سيتم ضمّه إلى “قائمة المنظمات المهددة للأمن القومي”، تمهيدًا لإعلانه تنظيمًا إرهابيًّا في وقت لاحق.
لكن عندما نُشر البيان الختامي لاجتماع الأمن القومي، الذي يتكون معظم أعضائه من العسكريين، تحطمت آمال أردوغان، إذ لم يتضمن البيان أي إشارة إلى “حركة الخدمة” أو “الكيان الموازي”، وإنما ورد فيه عبارة “كيانات غير شرعية تحت غطاء شرعي” فقط. وهذه العبارة كانت تشير حينها عامة إلى اتحاد المجتمعات الكردستانية والهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني، الذي عمل على تشكيل كيانات موازية للدولة في المدن الشرقية والجنوبية الشرقية من خلال تأسيس محاكم خاصة به وإجراء محاكمات بعيدًا عن المحاكم الرسمية.
أردوغان ويلدريم يعترفان
في الوقت الذي كانت أحداث الانقلاب الفاشل ساخنة، ولم يَجْرِ أي تحقيق بعدُ، كان أردوغان ظهر على شاشة قناة سي أن أن (CNN) التركية معلنًا فتح الله كولن “العقل المدبر” لمحاولة الانقلاب، ليطلق في صبيحة تلك الليلة حركة تطهير وتصفية غير مسبوقة في أجهزة الدولة كافة، بل في القطاعات الخاصة أيضًا. لكن السؤال الذي ألحّ نفسه هو أنه كيف توصل إلى هذه النتيجة في بدايات الأحداث؟
أردوغان اعترف بتدخله في عمل جهاز القضاء بشكل علني عندما قال في أبريل 2017: “أتساءل: مَن اعتقل الآلاف من العسكريين والشرطيين والموظفين وأودعهم السجون؟ نحن من اعتقلْناهم باعتبارنا السلطة التنفيذية، ومن ثم أعلن القضاء حكمه في الموضوع”.
كما اعترف يلدريم، في تصريحات أدلى بها لصحيفة “حريت”، بوجود مخططٍ لتلفيق محاولة الانقلاب لحركة الخدمة، عندما أكد أنهم اتخذوا قرارًا، بعد اللقاء مع أردوغان ليلة الانقلاب، بإعلان حركة الخدمة مسؤولة عن المحاولة دون الاستناد إلى أي معلوماتٍ من الاستخبارات العامة أو الأمنية أو العسكرية. إذ قال إنه شكّل بنفسه قناعته الخاصة بمحاولة الانقلاب ثم تابع: “لقد استشرنا مع السيد رئيس الجمهورية وتوصلنا لقناعة أن هذه المحاولة من عمل وتنفيذ أعضاء منظمة فتح الله كولن… في صفوف الجيش. وهذا التشخيص كان قابلاً للخطأ والصواب في تلك اللحظة!” (2) وفق قوله.
فضلاً عن أن يلدريم أدلى بتصريحات صادمة في يوليو 2018 خلال حوار مع رؤساء تحرير وكالة “الأناضول” الرسمية، فعندما وجه أحد رؤساء تحرير الوكالة سؤالاً إليه مفاده: “هل هناك من مشروع أحرجكم وأزعجكم كثيرًا أو قلتم عنه: يا ليتنا لم ننجزه؟! رد يلدريم قائلاً: “عن أي المشاريع (المزعجة) أتحدث؟! فلقد أنجزنا مشاريع كثيرة جدًا، لكن المشروع الذي أزعجني هو أحداث 15 يوليو 2016!”، ليحاول أحد رؤساء تحرير الوكالة إزالة الشبهات التي قد تورثها تصريحات يلدريم في أذهان الرأي العام قائلاً: “يعني المشروع الذي تم تنفيذه على الرغم من انزعاجنا منه!”
ولما لاحظ يلدريم أيضًا خطورة تصريحاته وإيحاءاتها المثيرة للشكوك حول حقيقة الانقلاب، حاول تدارك الأمر وأعاد صياغة جملته، لكن مضمرات قلبه طغت على لسانه مرة أخرى بحيث قال: “يا ليت أحداث الانقلاب الفاشل لم تكن! حمدًا لله لقد بذل الجميع ما بوسعه في تلك الليلة لمنع نجاح الانقلاب، بدءً من رئيس الجمهورية الصارم والشعب الذي حمى عَلَمه وانتهاءًا بالشرطيين والعسكريين الوطنيين الذين انقادوا للأوامر الصادرة لهم وأنتم كإعلاميين. لا شك أن المشاريع التي حققناها حتى اليوم كلها مشاريع طيبة ما عدا انقلاب 15 يوليو 2016!”.
الشبهة كافية.. لا نحتاج إلى أدلة لإدانة حركة كولن!
وكشفت الكاتبة الصحفية ميسر يلديز في موقع أودا تي في، التابع لجناح التجديديين من تنظيم أرجنكون، أن رئيس الأكاديمية العدلية يلماز أكتشيل، والنائب البرلماني من حزب العدالة والتنمية الحاكم أورهان آتالاي، ورئيس المحكمة الجنائية السابعة في العاصمة أنقرة أوغوز ديك، وعضو المحكمة العليا جعفر عاشق، ورئيس المحكمة الجنائية الرابعة المشرفة على تحقيقات حركة الخدمة سلفيت جيراي كانوا أبرز المشاركين في ورشة عمل حملت عنوان “مكافحة حركة كولن”.
وطبقًا لما ورد في الموقع، فإن المشاركين في ورشة العمل طرحوا مجموعة من الاقتراحات لضمان نجاح “الحرب” –على حد تعبيرهم- مع حركة الخدمة، أبرزها كما يلي: “لا يمكن الزج بـ500 ألف شخص في السجن، ولا محاكمتهم في الظروف الراهنة، لذا يجب البدء من قيادات المنظمة العليا ثم الانتقال إلى القاعدة السفلى، وينبغي إجراء تعديلات على القوانين الحالية لفتح المجال أمام اعتبار المعلومات الاستخبارية أدلة إدانة قانونية. يجب علينا أن لا ننسى أننا في حرب مع منظمة فتح الله كولن ستستمر لعدد من الأجيال القادمة، لقد حققنا انتصارا نسبيا في المرحلة الأولى، إلا أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا أن هذه الحرب ستستمر. (3)
في حين أن خير الدين قرمان، شيخ أردوغان قال في يونيو 2019 “إن السلطة الحاكمة قد تخطئ في أمور العدل والحق والصدق والجدارة، وقد تشهد تدهورًا وحيادًا عن الصواب، غير أنه لا يجوز الشكوى من هذه الأمور إذا كانت تدعِّم موقف العدو. ذلك أن تركيا تخوض حربًا ضد الظلم، ويجب على الإنسان أن لا ينظر في ظروف الحرب إلى الصواب أو الخطأ” (4) على حد تعبيره.
تقرير رسمي يسرد أحداث الانقلاب قبل وقوعه!
وكشف الكاتب الصحفي التركي المخضرم أحمد دونماز (5) في فبراير 2019 الستار عن تقرير أعدته السلطات القضائية بشأن المحاولة الانقلابية قبل وقوعها فعليًا ويسرد أحداثًا لم تكن قد وقعت بعد، الأمر الذي يؤيد أطروحة “الانقلاب المدبر” وأنه كان هناك “سيناريو” معد سلفًا.
ونشر دونماز نسخة من الوثيقة التي وصلت إليه عبر مصادره الخاصة، وقال إن الوثيقة محضر رسمي حرره مدعي عام مكتب الجرائم الدستورية في نيابة أنقرة سردار جوشكون، وأدرج ضمن ملفات قضية “قاعدة أكينجي” العسكرية، وهي أحد قضايا المحاولة الانقلابية، ليكون ركيزة وأساس تحقيقات الانقلاب الأولية.
التقرير صدر بتاريخ “16 يوليو 2016” في تمام الساعة الواحدة ليلاً، أي بعد ثلاث ساعات من الانطلاقة الفعلية للمحاولة الانقلابية، ومن ثم تم إرساله للجهات المعنية. لكن الغريب والمثير أنه يروي الأحداث التي لم تكن قد وقعت بعدُ وكأنها حدثت بالفعل. فعلى سبيل المثال يتناول التقرير قصف البرلمان، والقصر الرئاسي للرئيس أردوغان، ومحاصرة القوات العسكرية لمقر المخابرات، وقصف قيادة القوات الخاصة، ووحدة الاستخبارات بمديرية الأمن، وما ماثلها من الأحداث الأخرى، على الرغم من أن هذه الأحداث لم تكن وقعت في تلك اللحظة.
وكان فيديو منتشر في الإعلام الاجتماعي كشف أن وزير العدل السابق بكر بوزداغ يتحدث في مقر البرلمان عن تمكُّن السلطات من إسقاط الطائرة التي قصفت البرلمان أثناء أحداث الانقلاب الفاشل، إلا أنه لم يتم إسقاط أي طائرة في الحقيقة أثناء أحداث الانقلاب، ما يكشف أن إسقاط الطائرة كان ضمن المسرحية الانقلابية لكن لم يجرِ كل شيء كما خُطِّط له.
والمعلومات الواردة في التقرير حول توقيت أحداث الانقلاب خاطئة أيضًا، مما يثير تساؤلات حول ما إن كان التقرير قد تم إعداده بناء على محاكاة معدة مسبقًا. ويحفل التقرير بفضائح ستشكك فيما إن كان المدعي العام هو من قام بإعداده أم مسؤولون سياسيون دبروا انقلابًا مصممًا على الفشل لكي يستفيدوا من نتائجه.
وعلى الرغم من أن مذكرة ادعاء قاعدة “أكينجي” تقول بأنه تم الإعلان عن نبأ إغلاق قوات الدرك لجسري البوسفور وفاتح سلطان محمد في إسطنبول في تمام الساعة 22.28 من ليلة الانقلاب، غير أن موعده في تقرير نيابة أنقرة المذكور هو تمام الساعة 21:00، وهو سابق للموعد الفعلي بنحو ساعة ونصف!
وورد في التقرير أيضًا محاصرة قوات عسكرية لمباني المخابرات بحي “يني محلة” في أنقرة، واشتباك المخابرات مع الوحدات العسكرية المحاصرة لها، غير أنه في تلك الليلة لم تحاصر الفرق العسكرية أيا من مباني المخابرات. ولم تتعرض قيادة العمليات الخاصة “العسكرية” للقصف كما يزعم تقرير النيابة، بل تم قصف العمليات الخاصة التابعة للشرطة فقط.
وكذلك لم يتم محاصرة المجمع الرئاسي مثلما زعم تقرير النيابة، كما لم يتم قصفه عشية المحاولة الانقلابية، بل تم قصف مواقف السيارات والتقاطع الجسري المجاور فقط. فبحسب مذكرة ادعاء قاعدة أكينجي فإن قصف المجمع الرئاسي جرى في تمام الساعة 6:19 من الصباح، أي بعد نحو 5 ساعات ونصف من التاريخ الوارد في تقرير النيابة.
من ضمن الأخطاء التي تضمنها تقرير النيابة العامة المعلومات التي تزعم قيام الانقلابيين بتعيينات جديدة في رئاسة الأركان والقيادات العسكرية الأخرى وإعلانها للرأي العام، حيث لم يحدث شيء من هذا القبيل.
ومع أن تصريحات المسؤولين السياسيين التي قدمت فتح الله كولن مدبرًا للمحاولة الانقلابية يمكن فهمها وتبريرها بناء على اعتبارات سياسية، لكن ليس من المنطقي والمعهود أن يعلنه التقرير القضائي الأولي المحرر أثناء استمرار الأحداث مسؤولا عن الانقلاب قبل إجراء أي تحقيقات، ما يكشف أن التقرير سياسي لا قضائي ومعد سلفًا.
ماذا تعني الوثيقة؟
بعد هذا التقرير لنيابة أنقرة الذي أدرج ضمن نظام النيابة التركي الرسمي، انطلقت تحقيقات سريعة ونفذت القوات الأمنية أولى حملات الاعتقالات. وفي اليوم التالي للمحاولة الانقلابية تم اعتقال الآلاف استنادًا إلى هذه الوثيقة المليئة بالأخطاء، وإعلان حركة الخدمة تنظيما إرهابيا، لتمتلئ السجون بعشرات الآلاف من المتهمين بالانتماء إليها قبل بلوغ الواقعة مرحلة التحقيق والمحاكمة والانتهاء منهما.
بالنظر إلى هذه الوثيقة والأحداث التي سبقت وتلت 15 يوليو 2016، وتصرفات الرئيس أردوغان ورئيس المخابرات والعديد من المسؤولين البارزين الآخرين، وتصريحاتهم المتناقضة، وتهربهم من القضاء، وعدم إدلائهم بإفادتهم، والأحداث التي وقعت اعتبارا من توقيع هذا التقرير، وحملات التصفية والمرحلة التي بلغتها تركيا سياسيا، يمكننا القول إن السلطات التركية كانت على علم بجزء كبير من الأحداث التي وقعت في تلك الليلة، ولهذا كان انقلابا تحت السيطرة على أقل تقدير إن لم تدبره منذ البداية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقرير: محمد عبيد الله
المصدر: موقع زمان عربي