يرى كولن أنه إذا أراد الإنسان رضا الله أو أراد أن يصبح إنسانًا كاملًا، فعليه أن يضحي بالكثير من وقته وطاقته وموارده في سيبل الآخرين؛ وإلا فليس له أن يظن أنه مسلم حقيقي أو إنسان حقيقي بذل ما في وسعه لخدمة الإسلام والإنسانية، يميل نشطاء حقوق الإنسان والدعوة الإسلامية إلى دعوة غيرهم للأخلاق الحميدة واحترام القيم الإنسانية، إلا أنهم عمليًّا يقولون ما لا يفعلون، أو هم كمستهلك شره يستغل العمالة المحلية الرخيصة، فهم يستغلون إخوانهم المتدينين والوطنيين.
في ظلّ العقلية الانهزامية التي غذاها وأنبتَ شجرتها نظام تعليم الاحتلال يصعب أن يثق المسلمون بالقوة الأصيلة للرؤى الإسلامية الشاملة.
لم يغفل كولن عما يُبتلى به المتدينون عامة والمسلمون خاصة من إعجاب بالنفس، فجاهد نفسه ليكون أسوة في الإيثار، وهذا من أهم مبادئ الحركة الإسلامية في التربية وخدمة القضايا الإنسانية؛ فمنهج كولن العقلاني في تفعيل القيم الدينية أو الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الحديثة لصالح البشر يتناغم تمامًا مع السياق الاجتماعي السياسي ومع القيم الإنسانية الأُمّ.
ويشرح كورو هذه النقطة قائلًا: “يرى كولن أن الأخلاق والمبادئ أمران أساسيان في تثقيف البشر بشكل حقيقيّ، فللحفاظ على الوفاق والسلام والسعادة في حياة البشر ينبغي تحقيق التثقيف العقلي والروحي للإنسان… فالعقل لا يوافق الوحي فحسب بل يعزّزه”.
حركة كولن ليست حركة رد فعل، وليس لها علاقة بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردودِ فعلها.
هذا الفكر رسالة ثورية لعدة مؤسسات دينية تقليدية تعادي مثل هذه النظرة الشمولية، فالإنسان مخلوق عاقل لا يستطيع أن يقبل عدة ظواهر طبيعية بدون تفسيرات معقولة تؤطر الظواهر بوصفها حقائق عليا جاءت للبشر في فترة نزول الوحي؛ ولما انقطع الوحي زاد الاعتماد على العقل كثيرًا، لكن كثيرًا من علماء العقيدة والعلوم الاجتماعية لا يعيرون اهتمامًا كافيًا للعلاقة التلازمية بين النصوص المقدسة وعملية تثقيف المجتمعات الإنسانية؛ فأدى ذلك إلى نشوب نزاعات بين القوى الدينية والعلمانيين قد تمثل خطرًا على قضايا حقوق الإنسان والعدالة الشاملة.
ظهرت عدة قوى دينية في العالم الإسلامي بوصفها برنامجًا سياسيًّا معاديًا للاحتلال والإمبريالية، ولكن لم ينجح أي منها في اتخاذ دور إيجابي فترة طويلة لأن أنشطتها كانت تُبنى أصلًا على إستراتيجيات رد الفعل؛ لكن يشير «أَنَس أَرْكَنَه» في تحليله إلى أن حركة الخدمة مختلفة جذريًّا؛ فهي لم تنشأ عن رد فعل:
يرى كولن أن الأخلاق والمبادئ أمران أساسيان في تثقيف البشر بشكل حقيقيّ.
“إن «الاستشراق» كان يحمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته، وهكذا وُلدت في العالم الإسلامي الأيدولوجيةُ الإسلامية التقليدية مقابل هذا الاستعمار والاستغلال.
…إن هذه الحركة ليست حركة رد فعل، وليس لها علاقة بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردودِ فعلها”[10].
يُذكِّر كولن بكل ما ارتكبه المحتلّ من شرّ بحق المسلمين، ويطرح عدة إستراتيجيات جديدة لمحاربة قوى الاحتلال الحديثة؛ فهو يرى الجهل والفقر والفُرقة أرضًا خصبة للاحتلال، فيتعاطف كثيرًا مع البسطاء ويشعر بمعاناتهم الاقتصادية والاجتماعية؛ وبهذا يخالف كثيرًا من الدعاة المعاصرين البارزين؛ فبعضهم كغيرهم من رجال الدِّيانات الأخرى همُّهم الحفاظ على العقيدة الصحيحة، ويغفلون تصحيح كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فأدى هذا إلى عزلة عدة جاليات مسلمة رغم أن الأصل في الدين الإسلامي الشمول.
العلمانية المتطرفة والتعصب القوميّ أوقعا تركيا فريسة للصراع الأيديولوجي.
لما أخذ كولن بمبدأ تصحيح العقيدة في ضوء العقل وصل إلى كلّ المسلمين من قوميات وأعراق مختلفة عانت أزمة حقيقية في الهويّة؛ إذ العلمانية المتطرفة والتعصب القوميّ أوقعا تركيا فريسة للصراع الأيديولوجي، فعانت من أزمة هويّة معمّقة، وأخفقت المؤسسات الدينية التقليدية والعلمانيون في حلّ هذه المشكلة الخطيرة؛ فبرز كولن ناشطًا اجتماعيًّا ومربِّيًا لأجيال شابة بطرق مختلفة أثمرت تفاعلًا مع المجتمعات الأخرى، ونجح في التوفيق بين قضايا العصر والاكتشافات العلمية وبين الأفكار الدينية، والعكس صحيح؛ فتحدث عن «إسلامية الأناضول» أو «إسلامية الشعب التركي»، وليس إسلامًا تركيًّا إثنيًّا، فذلك لا يناسب حركته التربوية والروحية ألبتة[11]، وميَّزَ فعليًّا بوضوح بين الأبعاد الإيجابية والسلبيّة للهويّة القومية، فرفض القومية بمعنى كل تعصُّب عرقيّ الظلمُ غذاؤه، ودوامه رهن بعداوة الشعوب الأخرى، ونوَّه إلى بعد القومية الإيجابي المتمثل في التعاون والتكافل وغيرهما؛ وفي هذا ضمان لقوة المنفعة، ولتقوية رابطة الأخوة الإسلامية.
مشروع حركة الخدمة الفكري والروحي المتمثل في حراك اجتماعيّ وتربويّ ليست له حدود قومية أو عرقية.
وحينما يتكلَّم المسلمون عن الإسلام في العصر الحديث يظن كثيرون أن التركيز سيكون على الأفكار الدينية المسيسة أو على قيم الحضارة الإسلامية التي ينظر إليها على أنها أيديولوجيا عفا عليها الزمن، ولا تناسب أسلوب الحياة العصرية، وإذا كان الحديث عن الحداثة فلقد أظهروها نظامًا تنصهر فيه أغلب قضايا التقدم الصناعي والتمدين والمرأة بصورة تتجلى فيها قدرة الجميع على التعايش والارتقاء الذاتي؛ فيزعمون أن الدين فيه تناقضات كثيرة وتعارض، وأن الحداثة نظام عملي مناسب للجميع عدا بعض الجماعات الدينية الأصولية؛ لكن كولن أثبت بمسؤوليته وحسّه المجتَمَعِيَّيْن بطلان هذا الافتراض مطلقًا، فهاجمه دعاة الحداثة والمتعصبون دينيًّا بشراسة، ويلخص أَرْكَنَه أسلوب كولن الفريد وطريقته البديلة بما يلي:
“كان طعامه وشرابه وملبسه منسجمًا مع الموقف الاجتماعي والنفسي للجماهير التي يخاطبها، عاش وهو يهتم جدًّا بكل حركة تبدر منه، وبكل كلمة تخرج من فمه، ويتصرف بشعورِ شخص موضوع تحت المراقبة.
…ولكن سرعان ما جاءته انتقادات من بعض الأوساط المحافِظة، لأن هذه الأوساط كانت تهتم بالمشاريع ذات الأمد القصير، بينما كانت مشاريع التربية والتعليم ذات أمد بعيد.
…وما فعالياته في التعليم والتربية على المستوى الدولي وتأسيسُه المدارسَ العديدة في مختلف الدول إلا لكي تكون هذه المدارس جسورًا بين الأديان والحضارات المختلفة”[12].
لم يغفل كولن عما يُبتلى به المتدينون عامة والمسلمون خاصة من إعجاب بالنفس، فجاهد نفسه ليكون أسوة في الإيثار.
فمشروع حركة الخدمة الفكري والروحي المتمثل في حراك اجتماعيّ وتربويّ ليست له حدود قومية أو عرقية، فهو يعالج عمليًّا ما نتج عن الخواء الديني الذي غيَّب التخطيط العملي للحياة، وعن الحداثة التي تتمثل في الأنانية المفرطة والاستهلاكية الفجة؛ وهذا مشروع عملاق جعل من كولن مصلحًا اجتماعيًّا من طراز خاصّ له تأثير عالمي.
ويرى كولن أنه لا أحد يمكنه تسويغ سلطته الخاصة دون أن يقوم بخدمة الناس عامّة وبخدمة شركائه في الوطن خاصَّة؛ لكن في ظلّ العقلية الانهزامية التي غذاها وأنبتَ شجرتها نظام تعليم الاحتلال يصعب أن يثق المسلمون بالقوة الأصيلة للرؤى الإسلامية الشاملة، ومنها واجب خدمة الآخرين، ولما كان مقتضى جوهر الرسالة الإسلامية المقطوع به أنه لا سيادة بالإكراه لمنهج إسلامي في حياة البشر -هذا درس كوني ينبغي تطبيقه في كل زمان-، وجب تعزيز المصلحة العامة وحمايتها في كل وقت ونشاط إنسانيّ؛ فرؤية كولن ومهمته قائمتان على خدمة قضايا البشر والمصلحة العامّة التي تخدم الجميع أيًّا كان الدين أو الثقافة أو الجنس.
يرى كولن أنه إذا أراد الإنسان رضا الله أو أراد أن يصبح إنسانًا كاملًا، فعليه أن يضحي بالكثير من وقته وطاقته وموارده في سيبل الآخرين.
“فنحن نرى أن الماضي حي بكل جوانبه، نرى فيه عالمًا يفكر مِثلنا ويهمس إلينا ويتحدث إلينا بنهره وبحره وسهله، أما المستقبل فهو العالم الذي يضم لنا فرصًا كثيرة عديدة”[13].
وفي هذا تصبّ أفكار كولن، فهو يدعو الناس جميعًا إلى بذل الجهد والقيام بأعمال صالحة في سبيل أجيال قادمة سوف تشكل العالم في نهاية المطاف حسب طاقتها وسعيها نحو الإبداع والسعادة الحقيقية. نعم، فالمسلمون مأمورون بالعمل على هذا المبدأ الأساسي لتحقيق الغرض من وراء الوجود الإنساني على وجه الأرض.