يبدو هذا الكلام مثاليا وبعيدا عن الواقعية، ولكنه في الحقيقة مثالي في واقعيته، لأنه قطع مراحل طويلة في طريق تحويل الفكر إلى منجز حضاري يتجاوز المحلية إلى العالمية مبشرا بعالم جديد، وتتجاوز فيه الخلافات والنزاعات، يقول الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله: “لولا أنّي رأيتُهم لقلتُ إنه مجرّد وهمٍ أو هُراء أو خيال.. ظلال نورية لجيل الصحابة الكرام، جمعوا بين خصلتين عظيمتين من خصالهم الكبيرة: الهجرة والنصرة. فلم يكن منهم مهاجرون وأنصار، بل كانوا مهاجرين أنصارًا، وللصحابة فضلهم الذي لا يبارى!. الهجرة إلى الله تعالى ورسوله كلمات تتلفظ بها الأفواه، ولكن قلّما تعيها القلوب. فأن يترك الفتى حياة الراحة والدعة وبريق المدينة الجذاب، ثم يضرب في الأرض ليغوص في غربة بعيدة، يحمل في يده قنديلا من نور، بحثًا عن المستضعفين في بقاع الأرض من أجل إطعامهم جرعة من رحيق الحياة، فيتحمّل في سبيل ذلك فناءَ نفسه وذوبان ذاته ونسيان دنياه. فتلك تجربة روحية لا يعرفها حقًّا إلا من عاناها، وإنها لعقبة دونها عقبات، تنتصب في مدارج المجاهدات”.
إن أهم ميزة يتميز بها هؤلاء الأبطال المهاجرون هي أنهم قد اختاروا عن طواعية أن يكون مكان هجرتهم هو مكان قبرهم لا يتراجعون عن ذلك.
هذا و”لن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تُفَرِّقُ ولا تجمع، وتشتت ولا توحد، وتقود إلى النزاع من أمثال “هم” و “نحن” أو “أنصارنا” و”أنصارهم”. ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد. ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه. وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمُحاربين غِلاظ، بل كمُرشدين رحماء.. يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق والفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى مناصب مختلفة مهما كان الثمن وأيًّا كان الأسلوب”.
إن أهم ميزة يتميز بها هؤلاء الأبطال المهاجرون هي أنهم قد اختاروا عن طواعية أن يكون مكان هجرتهم هو مكان قبرهم لا يتراجعون عن ذلك.
تعطي هذه الصورة القلبية لهؤلاء الانطباع بأننا أمام قصص خيالية، فأن يترك رجال وطنهم بنيّة الهجرة التي لا عودة بعدها، وأن يهاجر إلى أبعد المناطق وأخطرها من أجل فكرة آمن بها، وأن يهاجر رجل أعمالٍ ليُساهم في بناء مدرسة ويكون الراعي لها، لهو ضرب من الخيال لكنه واقع حاصل، ولهذه الأسباب ينبغي دراسة الظاهرة وتحليلها. يقول الأستاذ فتح الله كولن في هذا الصدد: “إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي.. فقَدْ قررت فئة قليلةٌ ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتمّ بآلام الغربة وبفراق الأحبّة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل “خُضْنا دروب الحبّ فنحن مجانين”(الشاعر نِيكَاري)… ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب.. ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهابًا وتوهجًا، وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول.
إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي.
لم تكن هذه السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة ويعيش طوال عمره بسذاجة في أوهام وخيالات آلام الفراق، مبتعدًا عن ذاتيته ولا يستطيع الوصول أبدًا إلى مبتغاه. بل إن سياحة هؤلاء الأفذاذ سياحة واعية ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص الصادق العميق… ويمكنكم أن تعبّروا عن هذا بأنهم المستعلون على كل حبّ سواه تعالى، المجاهدون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دومًا، وأحوالهم الطبيعية العشق، ومبتغاهم نذْر أنفسهم لله تعالى، وأسْوتهم النور الخالد . أجل!.. لم يتعثر هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدّوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق، فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربّانيون، وشقي بهم الشياطين.. ساروا دون خيل ولا عربة، لا سلاح لهم ولا ذخيرة… الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجّر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم.. وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى.. حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة.. وصلوا في عفّتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى”.
إن أهم جانب لدى هؤلاء الأبطال وأهم مصدر من مصادر قوّتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادّي أو معنوي.
تدل هذه الأوصاف على مدى قيمة هؤلاء الرجال عند أستاذهم الذي يعترف لهم بالفضل، وهي خصلة نادرة لا يتصف بها سوى العظماء الذين يحترقون كالشمعة من أجل أن تنير قلوب الآخرين. فالأستاذ لا يُرجِع الفضلَ إليه بل يُرجِعه لهؤلاء الذين انطلقوا يجوبون الآفاق. فهم صورة من أستاذهم حينما ينكرون ذاتهم ويسندون الفضل لغيرهم، وبذلك يتأكد أن ما آمن به هؤلاء هو فعلا مجرد فكرة معقولة أطلقها رجل رباني فأحدثت أثرا بليغا هو هؤلاء الرجال وهذه المؤسسات وهذه المدارس..وهؤلاء هم الذين سيشيدون صرح الحضارة الإنسانية بالحوار والتسامح، وسيجدون من أجل تحقيق ذلك في كل مرة ألف وسيلة ووسيلة.. وكما نجحوا في غرس فسيلة المدارس في كل مكان في هذا العالم واستطاعوا التكيف مع واقع وثقافة كل بلد على حدة، دون الحياد عن الجوهر الذي يسترشدون به رغم المصاعب والعراقيل، سينجحون في ميادين أخرى.
إن دولة المهاجرون الحقيقية دولة معنوية ترتفع فوق الدولة بمفهومها المادي.. دولتهم هي المحبّة والأخوّة ومبادئ التسامح والحوار والاحترام المتبادل.
هؤلاء هم فسائل “الإنسان الجديد” الذي بشر به الأستاذ في مقالته التي تحمل العنوان نفسه، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي هل هؤلاء هم “الإنسان الجديد” أم هم مجرد مقدمة له؟ والجواب هو أن الأستاذ يقصد في مقالته هؤلاء الرجال، ولأنهم ثمرة طيبة تؤتي أُكُلَها كل حين، فإنهم بما يحملونه من صفات ومميزات سيساهمون في بناء “الإنسان الجديد” بما سيغرسونه من قيم ومبادئ في قلوب من يذهبون إليهم ومن يستقبلونهم في مدارسهم ومن سيزورونهم في بيوتهم. إنهم بناة العهد الجديد، يقول الأستاذ: “نحن اليوم على مشارف عهد جديد في مسيرة تاريخ الإنسانية، متفتح على تجليات العناية الربانية. لقد كان القرن الثامن عشر، بالنسبة لعالمنا، قرن التقليد الأعمى والمبتعدين عن جوهرهم وكيانهم؛ وكان القرن التاسع عشر، قرن الذين انجرفوا خلف شتى أنواع الفانتازيات واصطدموا بماضيهم ومقوماتهم التاريخية؛ والقرن العشرون، كان قرن المغتربين عن أنفسهم كليا والمنكرين لذواتهم وهويتهم، قرن الذين ظلوا يُنقّبون عن مَن يرشدهم وينير لهم الطريق في عالمٍ غير عالمهم. ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق تبشر بأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبعاثنا ونهضتنا من جديد.”
الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدة مهاجرو التربية كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى.
لقد تحقق على يده هؤلاء كما يرى الأستاذ بناء صروح الحوار. ولذلك تلمس في خطابه أن عهدا جديدا يلوح في الأفق ملؤه المحبة والتآخي والحوار والعمل من أجل مصلحة الإنسان في كل مكان. فعلى الجميع أن يكون متيقنا كيقين الأستاذ فتح الله بأنه قد “تم تجاوز العراقيل الموجودة بين القارات بفضل القرآن، وتحقق حوار مستند إلى الحب وإلى التوقير.. وتأسست وستتأسس أرضية لتفاهم جديد بفضل هؤلاء الربانيين. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها حظها، فما المانع أن تكون اليوم أيضًا كما كان الحال من قبل؟ بينما نرى أن شلالاً من الحب بدأ يهدر فعلاً بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة. مَن يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بُعدًا مختلفًا للآخر، وتوضع نهاية للنـزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تمامًا حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على جميع البشرية. لن يُنْتَهَكَ عرض، ولن يُداسَ على شرف، بل سيسود الاحترام القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر. سيصبح الأقوياء عادلين، وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة. لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن.. لن يتعرّض مَسكن أحد ولا محل عمله لهجوم.. لن تُرَاقَ دَمُ أي برئ.. لن يبكي أي مظلوم. سيبجّل الجميعُ اللهَ تعالى وسيحبُّ الناسَ… حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هي معبر للجنة فردوسًا لا يُمَلُّ العيشُ فيه”.
أن يترك رجال وطنهم بنيّة الهجرة التي لا عودة بعدها لأجل فكرة آمن بها، وأن يهاجر رجل أعمالٍ ليُساهم في بناء مدرسة، لهو ضرب من الخيال لكنه واقع حاصل.
إن أهم ميزة يتميز بها هؤلاء الأبطال المهاجرون هي أنهم قد اختاروا عن طواعية أن يكون مكان هجرتهم هو مكان قبرهم لا يتراجعون عن ذلك وهم لا يتزحزحون عن هذا الاختيار الذي هو سبب وجودهم. ولذلك فهم لا ينتظرون الأجر الدنيوي، بل غاية المنى عندهم هي أن يكون عملهم خاصًّا لوجه الله تعالى، يقول الأستاذ فتح الله: “إن أهمّ جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الأبطال الذين أحبّوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مثلى هي نيل محبته.. إن أهم جانب لدى هؤلاء الأبطال وأهم مصدر من مصادر قوّتهم، هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادّي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية… هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تُشكل عندهم أي مقياس”. لأن المقياس الوحيد عندهم هو نجاحهم في مهمّة السفارة التي كلّفوا بها، ليسوا كسفراء الدول المعتمدين الذين يبذلون ما في وسعهم من أجل الحفاظ على مصالح بلادهم ويجتهدون أيما اجتهاد من أجل النجاح في مهامهم فيرجعون في يوم من الأيام إلى وطنهم، بل هؤلاء لا يرجعون، لأنهم هاجروا، ولأن دولتهم الحقيقية دولة معنوية ترتفع فوق الدولة بمفهومها المادي.. إن دولتهم هي المحبّة والأخوّة ومبادئ التسامح والحوار والاحترام المتبادل، فيسعون “نحو سلطنة القلوب”.
المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر.