الأسس التي يقوم عليها مشروع الأستاذ فتح الله كثيرة ومتعددة، ولكن التربية والتعليم هما المرتكزان المحوريان في رؤية فتح الله الشمولية. فهو عندما يتحدث عن التربية والتعليم يستحضر فكر بديع الزمان سعيد النورسي الذي يذكر بأن الأعداء المعنويين للإنسان هم: الجهل والفقر والفرقة، وبأن لكل مرض من هذه الأمراض علاج، فالفقر يعالج بحثّ الناس على ممارسة التجارة والعمل والكسب الحلال والاجتهاد. وأما الفرقة فيتغلب عليها بالحوار، وبث ثقافة التسامح، وحسن إنصات الأطراف بعضها لبعض، والاقتناع بأن هناك دائما حيزًا للالتقاء والتفاهم، ومجالاً مشتركًا في الرؤى والأفكار يمكن الاشتغال حوله وعليه. وأما الجهل فيداوى بالتربية والعلم والمعرفة، على أساس أن التربية والتعليم هي المكون الذي يسبق جميع المكونات الأخرى.

الأسس التي يقوم عليها مشروع الأستاذ فتح الله كولن كثيرة ومتعددة، ولكن التربية والتعليم هما المرتكزان المحوريان في رؤيته الشمولية.

أولوية الأولويات

حافظ فتح الله على الترتيب نفسه عندما كان يؤسس فكر الحركية والعمل، ولذلك جعل من محاربة الجهل المنطلق الأول لكل عملية بناء وتشييد. ومن يتتبع خطواته في محافظة “إِزْمِير” على الخصوص سيلاحظ كيف كان حريصا على تأسيس ضوابط تربوية وقواعد تكوينية، تستهدف إيجاد جيل من الرجال حملة المشروع وحملة الأمل في المستقبل.. رجال مرتكزين على التزكية الروحية وإشباع العقل والفكر، مجهَّزين بكل ما يحتاج إليه من زاد يمنح المناعة والقوة. ولكي يكون هؤلاء الرجال في مستوى طموحاته كان لا بد من أن يشحنهم بروحانية مرحلة تاريخية بعينها هي مرحلة عصر السعادة. لقد رسخ في روح فتح الله وعقله أن الذين سيحملون مشروع البحث والإحياء هم نماذج إنسانية تشبه الصحابة رضوان الله عليهم جميعا.

إن تركيز كولن على التعليم والتربية يأتي من اقتناع فكري ومنهجي هو استحالة تصور النهضة والبناء والتأسيس دون إصلاح منظومة التربية والتعليم.

الفكر مع الفعل

وما تميز به الأستاذ وكان سببا في تحقق حلمه هو أنه لم ينعزل في برج عال ينتظر ويحلم وحده، بل قرن النظرية بالتجريب والتطبيق، ولا شك في أن هذا النظام الذي تأسس على مدى خمسين سنة لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الآن من النضج والانسجام لو لم يكن الأستاذ نفسه قدوة لهؤلاء الرجال في التفاني والتضحية وفي استحضار السنة النبوية في شخصه وسعي حثيث لتجسيد أخلاق القرآن في شخصه.

لا شك في أن رؤية الأستاذ فتح الله في تفعيل رؤية بديع الزمان سعيد النورسي قد عرف الكثير من التحولات وإعادة النظر في بعض عناصرها المطبقة، خاصة إذا تم استحضار التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها تركيا في القرن الماضي. لكن مشروع إيجاد منظومة تستطيع تجاوز الجهل ظلت تتحرك دون أن تتوقف، إذ لا يجوز الظن بأن مؤسسة التربية والتعليم عند الأستاذ قد وُلدت ناضجة مكتملة منذ البداية.

وبعبارة أخرى إن نظام محاربة الجهل في منهج فتح الله الإصلاحي، قد مر بالكثير من مراحل التجريب والتعديل قبل أن يستقيم وفق الصورة التي هو عليها اليوم، والتي تتيح للدارس وصفها بالمشروع المتكامل والناضج.

التربية الحقة والتعليم الصحيح يرفع الإنسان إلى مصاف الإنسانية، وتجعل من الفرد عنصرا مفيدا للمجتمع ونفسه وللعالم كله.

استحالة النهوض

إن تركيز فتح الله على التعليم والتربية يأتي من اقتناع فكري ومنهجي هو استحالة تصور النهضة والبناء والتأسيس دون إصلاح منظومة التربية والتعليم. ولذلك يبدو الأستاذ فتح الله متشبّعا بشعار “طلب العلم من المهد إلى اللحد”، بل إن الإنسان بالنسبة للأستاذ فتح الله يأتي إلى العالم عاجزا ومحتاجا، وهو لا يستطيع تجاوز عجزه وحاجاته إلا بالتربية والتعلم، إذ يقول:

“نولد عاجزين وجاهلين لضوابط الحياة، ونضطرّ إلى إصدار صراخ من أجل الحصول على المساعدة. وبعد عام بالكاد نستطيع الوقوف على قدمين والخطو بضع خطوات، والمفروض أن نميز بين الخير والشر، وبين ما فيه مصلحة وما فيه مفسدة، ونحتاج إلى عمر كامل لتحصيل النضج المعرفي والروحي. فدورنا الأساسي هو الوصول إلى الكمال وصفاء الفكر والتصرفات والمعتقد… والغاية هي الارتقاء إلى مقام الإنسانية الحقيقية التي تستحق الحياة السعيدة والأبدية في العالم الآخر”.

تربية الروح والجسد

الإنسان في عرف الأستاذ ليس مجرد جسد وعقل، بل هو روح كذلك. وروحه تحتاج إلى أن تتغذى وأن تشبع. والإشباع يتم بمعرفة الله تبارك وتعالى، والاعتقاد به، أي تحتاج إلى التربية بصفة عامة والتربية الدينية على الخصوص. التربية واجب مقدس، فهي تعكس اسم “الرب” أي المربّي والمرشد، وهي تتحقق بالقدوة الحسنة. فالتربية الحقة والتعليم الصحيح يرفع الإنسان إلى مصاف الإنسانية، وتجعل من الفرد عنصرا مفيدا للمجتمع ونفسه وللعالم كله.

التربية والتعليم مسألة حيوية بالنسبة للفرد والمجتمع، لكن إذا كان الجميع يستطيعون تلبية رغبات أجسامهم، وتربيتها، فإن القلة هي التي تستطيع تربية الروح والمشاعر. ولذلك كان رفع مجتمع من المجتمعات وإعلاؤه متصلاً برفع الأجيال إلى مصاف الإنسانية الحقة. والوصول إلى هذه النتيجة السامقة، ليس له سبيل إلا سبيل الرؤية التربوية الواضحة الجلية، كالرؤية التربوية المتصلة بدين سماوي كامل متكامل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: د. محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث، قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٣، الطبعة الأولى، القاهرة، صـ٢٨١-٢٨٤.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.