الإنسانية الصالحة
العجيب في ثنائية الإنسان والكون أن كليهما مخلوقان لله عز وجل، وأن عمارة الثاني مرتبط بصالح الأول وتزكيته لنفسه، فكلما ازدان داخل الإنسان وعمرت نفسه بالفضائل تجلى ذلك في الكون نورًا وبهاء يشع في جنباته كلها، وأثمر الانسجام بينهما تحقيق العبودية الخالصة لخالق هذا الكون ومدبر أمره. ومن هنا كان سعي الأنبياء العظام والأولياء الفخام والمصلحين المجتهدين إلى تصحيح مسار الإنسانية نحو صالحها ورشدها، وحثِّ الإنسان على الدأب والمثابرة وفق منهج ربانيّ وتربية نبوية للوصول إلى الكمال البشري، وقطع المسافات نحو خالقه وخالق هذا الكون. فالإنسان هو أرقى المخلوقات وهو ثمرة الوجود، وهو مصدر مشاكل الإنسانية إذا تعذر صلاحه، وهو مصدر الحلول إذا تربى وفق المنهج الذي ارتضاه الله له. وفي مسيرة هذه الإنسانية الصالحة التي وظف الله من أجلها المرسلين والمصلحين تحتل المرأة مكانة سامية، ففيما يتعلق بالبشرية والعلاقات الإنسانية مع الله، فلا فارق بني النساء والرجال، فهم متساوون فيما يتعلق بحقوقهم ومسؤولياتهم؛ وأي تخل أو انتقاص أو تمييز في هذه الحقوق والمسؤوليات هو انحراف بالبشرية عن صالحها، وتنكب لها عن مسار رشدها.
لذلك تكتسب مؤسسة الأسرة دورا محوريًّا في بناء صرح الإنسانية الصالحة -وفي القلب منها المرأة زوجا ّوأمًّا وأختا- إذا ما تأطرت بروح القرآن الكريم وعطر السنة النبوية، وهذا ما توخاه الأستاذ فتح الله كولن –قولاً وفعلاً ومؤسسات- في مشروع الخدمة المبارك المستمد من نهج القرآن العظيم وسيرة سيد المرسلين وأصحابه الغر الميامين.
كما توخى أيضا لكي تحقق الإنسانية صالحها، الذي به تعمر كونها أن يؤكد على النظر إلى هذا الكون نظرة تكاملية مرجعها الفهم الصحيح للإسلام، واكتشاف حقيقة الوجود في كل أبعاده، ومنه البعد الجمالي؛ فدعا الأستاذ كولن إلى تنمية الذائقة الجمالية، وتهيئة البيئة المناسبة لتربية النشأ على تذوق الجمال والإحساس به، والتجاوب مع الفطرة الإنسانية التي تحب الجمال وتبحث عنه، وتنفر من القبح وتتجنبه.
ورغم قساوة المحنة ورياحها الهوجاء التي تقتلع الأشجار الراسخة من جذورها، ولا تحنو على البراعم في هيجانها فلا تزال أيدي أبناء الخدمة تمتد بيد الشفقة إلى كل من يحتاجها، ولا تزال أنفاس قلوبهم تتردد بالمحبة، وتنبض بالود والحياة.
ولا يزالون يدعون الناس إلى قيم التعايش المشترك والحوار البناء، والقضاء على الجهل، ونشر العلم وإيقاظ الوعي وتبني الصالح من الأقوال والأفعال، ومن ثم فالساعون إلى تقويض مشاريعها، والاعتداء على أبنائها، إنما يستهدفون تعطيل ركب هذه القافلة نحو مسيرة الإنسانية الصالحة، والقعود بها في أودية الخراب والضياع والفشل، وإحلال اليأس محل الأمل.
لكن أنى لهم ذلك، وقد ذاق أبناء الخدمة حلاوة الطريق وتنسموا عبيره، وشاهدوا بأعين قلوبهم أمارات الفوز من وراء الحجب، وقديمًا قال الشاعر:
مَنْ ذَاقَ طَعْمَ شرابِ القومِ يَدْرِيهِ
ومَنْ دَرَاهُ غَدا بالرُّوحِ يَشْرِيهِ