لم يكن القرآن في أي يوم من الأيام -مثل غيره من الكتب- كتابا بقي ضمن إطار زمن أو مكان معين من طفولة الإنسانية. بل هو معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة، وتلبي جميع المطالب الإنسانية بدءً من العقائد وانتهاءً بأصغر الآداب الاجتماعية. وهو بعمقه هذا يستطيع حتى اليوم تحدي الجميع وتحدي جميع الأشياء.

لقد أتى القرآن بنظرة متميزة للكون وللأشـياء وللإنسان بأسلوب غاية في الروعة والسحر.

القرآن والتحدي

قام في العهد الذي نـزل فيه بمواجهة جميع اعتراضات مخاطبيه، وتحداهم أن يأتوا بكتاب، أو حتى بسـورة أو بآية من مثله. ذُهل منه المعارضون الأولون له، وسُحروا من بيانه ومن بلاغته، حتى اتهموا الرسـول (صلى الله عليه سلم) بأنه ساحر، وأنه شاعر. وإزاء أخباره الغيبية التي أتى بها من وراء الأستار فقدوا صوابهم فقالوا عنه إنه كاهن، ولكنهم عجزوا تماما عن الإتيان بمثله. أيْ أن أبطال الشعر والنثر والخطابة وأعلامها من معارضيه اضطروا إلى الصمت والخرس والانسحاب إلى جحورهم. أما منكرو هذا العصر المعاندون الذين ورثوا روح المعارضة والإنكار من هؤلاء السابقين، إلا أنهم على الرغم من كل أنواع الديماغوغية والديالكتيك([1]) وجميع أنواع المجابهة والاعتراض لم يسـتطيعوا إنجاز شيء خارج إظهار العجز والغضب. تغيَّر الزمان وتعاقبت العصور واختلفت القنـاعـات ووجهات النظر، وحميت حـدة المعارضة والصراع، ولكن القرآن لا يزال واقفا كالطود الشامخ، وكالبحر الواسع، وكالسـماء التي لا تحدهـا حـدود تجاه جميع المعارضين وتجاه جميع الاعتراضات. وهـو مسـتمر في بث روعه وروعته في القلوب، وفي هداية العقول.

تعاقبت العصور واختلفت وجهات النظر، ولكن القرآن ظل واقفا كالطود الشامخ، وكالبحر الواسع، وكالسـماء التي لا تحدهـا حـدود تجاه جميع المعارضين وتجاه جميع الاعتراضات.

جاءوا معارضين وارتدوا خائبين

منذ نـزوله قبل أربعة عشر قرنا وتربعه على عروش قلوبنا تقلبت عهود كثيرة ظهر فيها العديد من مشاهير البلغاء، ومدارس فكرية عديدة، ونظم عديـدة وفلسفات مختلفة. وقـد حاول العديـد منها هدم القرآن واستعملوا لهذا الغرض كل ما لديهم من وسائل ومن سحر الكلام من بيان ومن بلاغة لهدم القرآن، وخاضوا على الدوام غمار الحـرب معه. ولكنهم غُلبوا على الدوام وارتدّوا على أعقابهم خائبين أمام الأسس القوية المتناسقة والمنطقية التي وضعها للكون وللوجود وللإنسان، والإيضاحات العميقة لهذه العلاقات. أجل لقد أتى القرآن بنظرة متميزة للكون وللأشـياء وللإنسان بأسلوب غاية في الروعة والسحر. لأنه يتناول الإنسان ككل ضمن الوجود بأكمله، ولا يهمل أيَّ شيء، بل يضع كل شيء مهما كان صغيرا في مكانه المناسب. الأجزاء فيه مرتبطة ارتباطا وثيقا ودقيقا بالكل، والأجوبة المختلفة عن أدق الأسئلة التي تخطر على بال الإنسان في هذا المعرض الكوني الهائل ترد فيه. وبينما يقوم بتحليل أدق المسائل الموجودة سواء في عالم الشهود أم فيما وراء الأستار حتى أدق تفاصيلها، لا يدع هناك أي تردد أو شبهة أو علامة استفهام في العقول.

يتناول القرآن الإنسان ككل ضمن الوجود بأكمله، ولا يهمل أيَّ شيء، بل يضع كل شيء مهما كان صغيرا في مكانه المناسب.

عشق لا ينتهي

أجل! إن القرآن في جميع هذه التفاصيل الدقيقة التي يوردها لا يدع أي فراغ في هذا الموضوع لا في العقول ولا في القلوب ولا في المشاعر ولا في المنطق، لأنه يحيط بعقل الإنسان وبأحاسيسه وبمشاعره وإدراكه بشكل يجعل الإنسان وهو تحت تأثير هذا العشق يكاد يخرج من هويته الإنسانية متوجها إلى الذات العلية. ومثل جميع السائرين في الطريق إلى الله تعالى ينتقل من الدهشة إلى الذهول ومن الذهول إلى بحر من العواطف المتلاطمة التي تجعله ينحني من الخشية وهو يقول ﴿قُلْ لَـوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَـوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109). إذن فهذا هو القرآن… المفتاح الذهبي لخزائن الكلمات التي لا تنفد ولا تنتهي. والإيمان هو شفرات أو أسنان هذا المفتاح السحري. ولا أعتقد أن من يملك مثل هذا المفتاح وهذه الشفرات سيحتاج إلى أي شيء آخر بخصوص مسائل القواعد والأسس العامة المتعلقة بالإنسـان والوجود والكون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ4، ٢٠١0، صـ 18.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .

 ([1]) مصطلح  (الديماغوغية) يعني أساليب خداع الناس ، ومصطلح (الديالكتيك)  يعني الجدل.