في البداية ينبغي للإنسانِ أن يرى أن الارتقاء إلى حياة القلب والروح والسيرَ في تلال القلب الزمردية غايته وأفقه، وأن يحاولَ رؤيةَ تلك التلال المباركة التي تتلَأْلَأُ فيها النجومُ، ويطلعُ فيها القمرُ ويأفل، وتُشرق فيها الشمسُ وتغيبُ، حتى ولو كان ذلك من فُرجةِ بابٍ ضيّقةٍ، وبقدرٍ معيّن.
وسائل البلوغ
من الوسائل في هذا السبيل الصلاةُ التي تؤدى بخشوع تامّ وبشكلٍ يستشعرُ فيه العبد بربِّهِ بلا كَمٍّ وكَيْف، وذِكرُ اللهِ والدعاءُ والتضرعُ الدائم أيضًا وسائلُ مهمة، كما أن التفكُّر الدائم العميق المنتظم الذي يجعل الإنسان يرطب لسانه بقوله: “سبحانك ما عَرفْناك حقَّ معرفتك”؛ ما هو إلا وسيلةٌ أخرى من تلك الوسائل.
من وسائل هذا السبيل الصلاةُ بخشوع تامّ، يستشعرُ فيها العبد بربِّهِ بلا كَمٍّ ولا كَيْف.
وقد يصل الإنسان أحيانًا إلى ذلك الأفقِ بسرعة؛ نظرًا لظروفه التي يقصر له الطريق، وقد لا تكفي لآخَر حتى أربعون سنةً كي يصلَ إلى ذلك الأُفُقِ، وما ذلك إلا لحيلولةِ بعض الموانعِ دون ذلك كقسوةِ القلب والاهتمام بالشكليّات دون المعنويّات، أجل، إن التذكرة والوثيقة المستخدمة في رحلة يتمّ خوضُ غِمارِ السلوكِ فيها من أجل الوقوفِ على أسرارِ عالمِ الروح هي تجفيفُ منابعِ الميولِ الشرّيرةِ، وتقويةُ الإرادةِ بإثارةِ الميولِ الخيّرةِ وتحفيزِها، فربما ينفرج بعدَ هذا بابٌ ينفتح على عالم المعنى، وتصلُ رسالةُ الانتقال إلى العوالم الأخرى.
أَدمِنْ قرع الأبواب
وهنا أُريدُ أن أُؤَكِّدَ على أهمّيّة وضرورةِ أن يثبُتَ الإنسان على هذا الأمرِ وإنْ كَلّفَهُ عُمرَه…فالأصلُ في مثل هذه المناقب الدرسُ الذي يستخرج منها بغض النظر عن ثبوت أصلها. أجل، فلِلوصولِ إلى الأفقِ الإلهيِّ لا بد من دوامِ طرقِ بابِ الله سبحانه وتعالى والمرابطة عنده حتى يأتي الردّ…
يجبُ السَّيرُ في هذا الطريقِ على نحوٍ يوافِقُ أركانَهُ، كيلا تتعثر أو تتأخر.
للسير آدابه وأركانه
كذلكَ يجبُ السَّيرُ في هذا الطريقِ على نحوٍ يوافِقُ أركانَهُ، وإلا فَمِنَ المحتَمَلِ التعثُّرُ فيه والتأخُّر في قطعِهِ، فمثلًا لا يمكن في دائرةِ الأسبابِ بلوغُ أيِّ منزلةٍ بصلاةٍ لا تُراعى أركانُها، والحقيقةُ أنَّ فضلَ اللهِ واسعٌ؛ فهو إن شاءَ قَلَّدَ الكلابَ قلائد ذهبية، ولا رادّ لحكمه، غير أنَّ لكلِّ شيءٍ طريقتَهُ ومنهجَه، ومن هنا ينبغي أوَّلًا بيانُ المناهجِ الموصلةِ إلى الهدف لأولئك الذين لا يتحرّكون في إطارِ المعايير المطروحةِ ثم يقولون: “لا ينكشف لنا أيُّ شيءٍ قطّ، إننا لا نشعر بشيء ما”.
ومع هذا فلا ينبغي أبدًا أن يُحمل ما قلناه على أنه لا قيمةَ للذين يعجزون عن الحصولِ على الشعورِ والإحساسِ العميقِ بالأذواق الروحانية، فرحمة الله واسعة، فقد يرفعُ الله سبحانه وتعالى برحمتِه الواسعةِ أولئك الذين ما في جعبَتِهِم إلا الصلاة والصوم قممًا عاليةً ومنزلةً تفوقُ تصوُّراتنا.
لِلوصولِ أدمن طرقِ بابِ الله تعالى والمرابطة عنده حتى يأتي الردّ.
ومن الممكنِ أن أقول استطرادًا: إن معظمَ الناس في يومنا هذا يخضع لِتَأْثِيرِ المادِّيَّة الشديدة؛ فهؤلاء الذين لا يعرفون الأسرار الإلهيّة يصفون الجنّ والملائكة بأنهم “طاقة” أو “طاقة مكثّفة”، وهم لا يكتفون بهذا؛ بل يستخدمون التعبير نفسه لِلذَّات الإلهية –سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا-، هؤلاء لو انكشفت لهم الحقيقةُ قليلًا لتحسَّروا ندمًا عمّا جنَتْهُ ألسِنَتُهُم ودانت به عقولهم.
الخلاصة
وباختصارٍ نقول إن السير في تلال القلب الزمرُّديّة هدفٌ يجبُ الوصول إليه، ومن ثمَّ يلزم الإيمان بضرورة الوصول إليها أوَّلًا، ثم السير بتأنٍّ ودقة بالغة ودون إعراضٍ أو سَأَمٍ أو مَلَلٍ في ذلك الطريقِ على نحوٍ يُلائِمُ أركانه، وأركانُ هذا الطريق هو: “الانسلال من الحيوانيَّة، وتركُ الجسمانية، والدخولُ في مدارجِ حياةِ القلبِ والروح”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: محمد فتح الله كولن، لمسات في إصلاح المجتمع سلسلة المنشور (2)، ترجمة: د. عبد الرازق أحمد، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 1438هـ، 2017م.
إعداد وتحرير: صابر المشرفي
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية والكابسات من تصرف المحرر