يحكي لنا الذكر الحكيم أن منتهى آمال العبد بعد رحلة التعب والنصب في الحياة الدنيا المرهقة، هي أن يحصل على الراحة الكريمة وأن يحيا الحياة الكريمة، يقول تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)(الواقعة:88-89). والروح في المعجمية القرآنية هي الرحمة، وهي الراحة، وهي الحسنى والنظر إلى وجه الله تعالى، وإذا كان فلا عذاب.. والريحان في المعجمية القرآنية: الرزق المستطاب، والكرامة، والتحية والحبور.
وتأمُّل ركن الصلاة يكشف عن أنه الركن المحقق لأعلى تجليات القرب من الله تعالى، إن في فحص تاريخ فرضها، وملابسات ذلك الفرض، وإن في ناتج القيام بها؛ ولذلك فإن تحليل العتبة النصية المركزية لكتاب المفكر الفذ “فتح الله كولن (1357هـ/1938م) وهي عنوانه “معراج الروح: الصلاة”، يكشف عن عبقرية في اقتناص حقيقة هذا الركن المهيب في لحظة الأمر به أولاً، ويكشف عن حقيقة نتائجه عند كل نهوض به في الزمان، إذ إن الصلاة تحليق نحو العلا هناك حيث سدرة المنتهى.
كتاب “معراج الروح: الصلاة” في طبعته العربية، صدر عن دار الانبعاث، القاهرة سنة 1445هـ/2023م، للأستاذ “فتح الله كولن”. والكتاب يتضمن مقدمة للدار التي نشرت الكتاب وتتضمن تعريفًا موجزًا به، وتمهيدًا يشير إلى أفعال الصلاة وأنها سبيل للاقتراب من “حظيرة القدس”، ثم المدخل ويكشف عن أن الصلاة ركن وعماد الدين وسبيل العبد للقرب من الله، ومن ثم فهي “وسيلة إلى المعراج” أو هي “معراج الروح”.
ثم يأتي الكتاب بعد هذه العتبات، في تسعة فصول، هي حقيقة الإسلام، والصلاة في الإسلام، والتهيُّؤ للصلاة، وشروط الصلاة وأركانها، ومواقيت الصلاة، وثمرات الصلاة، وصلاة الجمعة، وصلاة النوافل، والأدعية التي تُذكر في ثنايا الصلاة.
الانتماءات المعرفية للكتاب
إن تحليل هذا الكتاب لأجل تشغيله الحضاري في واقع الناس والأمة، يكشف عن جملة من الانتماءات المعرفية التي تحيط به، وهي ضرورية لاستثماره في حياة المسلم المعاصر. وهذه الانتماءات هي:
1- علم الفقه الجمالي أو علم الفقه العالي: الفقه الذي هو علم متعارف عليه طموحه الإعانة على القيام بالتكاليف أو الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، وهذا هو المستوى الأول الأدنى، لكن طموح هذا الكتاب (معراج الروح) يتجاوز هذا المستوى إلى فقه عال أو فقه جمالي، يقول الأستاذ فتح الله كولن (ص37):
“وليس المقصود بأداء الصلاة على الوجه الأكمل، أن نؤديها وفقًا لتفسير كتب الفقه لمعنى الكمال والنقصان، بل ينبغي التفكير في الأمر بشكل أكثر شمولية؛ حتى يستوعب كل نواحي الصلاة المادية والمعنوية.. الخلاصة هي أن الصلاة “لب العبادات”.
ومفهوم الفقه الجمالي أو الفقه العالي، هو الانطلاق من الشروط والأركان المؤسسة على الحرص البالغ على تحصيل الغايات المنشودة من ورائها، الفقه الجمالي قيام بالشروط مشفوعة بالمروءة والمحبة والإقبال من القائم المصلي.
2- علم التزكية: التزكية أو الوصول إلى التأنس، واغتيال كل ملامح التوحش في نفس المؤمن، أحد أعلى مقاصد هذا الدين العظيم، وهو مطلوب محوري ألح عليه الكتاب العزيز بطرق وأساليب متنوعة، آمرًا وممتدحًا ومخبرًا عن جلالها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه زيد بن أرقم: “وزكِّها أنتَ خيرُ مَن زكَّاها” (رواه مسلم)، ويقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)(الشمس:9).
وهذا الكتاب (معراج الروح: الصلاة) طموحه الحقيقي هو الإعانة على الوصول بالمسلم إلى مقامات التزكية والتأنس، والارتقاء إلى “كل الأدب الذي يقتضيه وجوده في الحضرة الإلهية” (ص33).
3- علم السيرة النبوية: إن الكتاب فيما يورده من المواقف العملية النبوية نص في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
4- علم العمران: علم العمران هدفه إعمار الوجود، واستثمار تسخير الله تعالى لما في الوجود، لتمكين الإنسان من القيام بواحب الإعمار، يقول تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)، أي طلب منكم إعمارها وعمرانها.
والسعي في الوجود لتحقيق هذه الغاية النبيلة يلزمه سياق معرفي أخلاقي، وكتاب “معراج الروح: الصلاة” يسعى إلى خدمة هذا السياق الموجه للعمران في النسق الإسلامي؛ ذلك أن “الصلاة أساس مهم من أسس العبادة” (ص38) والعمران عبادة. والصلاة هي “الرباط الذي يعني استغراقًا في فكر العبودية لله طول العمر” (ص23).
ومن اليسير جدًّا، تأمل انعكاس استصحاب الصلاة وروحها وسرها في التصميمات والتشييدات المعمارية في حضارة المسلمين في البناء والعمارة، وهو ما نلمحه في التجلي المعماري المتمثل في “الصحن المفتوح على السماء لتحقيق الاتصال بين الأرض والسماء، سواء في عمارة المساجد أو عمارة البيوت، لقد كانت العمارة بتأثير معراج الروح “حوارًا مع الله”، مثلما أن سر الصلاة هي القرب من الله”.
5- علم التفسير: إن هذا الكتاب نص في تفسير آيات الصلاة الواردة في الذكر الحكيم.
القيمة الحضارية لكتاب معراج الروح
الحقيقة أن هذا الكتاب يحوز عددًا من العلامات التي ترقى بقيمته الحضارية التي تعلن وتقرر إمكان أن ينهض فيجبر مناطق كثيرة ضعيفة، ويعالج مناطق كثيرة مريضة. وهذه العلامات المعلنة عن قيمته الحضارية هي:
أ- منزلة المؤلف الأستاذ فتح الله كولن بأفقه الرحب الإنساني الذي يحكم فكره وحركته في الحياة المعاصرة، وهو الأفق الإنساني الرحب المنبثق من النسق القرآني الإسلامي الإيماني المعبر عن الروح العصرية، ذلك أنه “اجتهد في تحصيل العلوم الشرعية والعصرية” (ص5).
بـ- موضوع الكتاب بوصفه نصًّا بديعًا في الفقه الجمالي أو الفقه العالي، لأعظم أركان الدين الذي هو الصلاة، بوصفها عماد الدين وبوصفها مخزنًا جامعًا، أو خزينة جامعة لكل أسرار هذا الدين العظيم.
جـ- المعالجة الدقيقة المستوعبة، والجمالية والشفافة في الكتاب، حيث إن قراءة الكتاب يكشف عن عبقرية في التنظيم ينطلق من العموم الماثل في فحص حقيقة الإسلام، ثم يتجه إلى التفصيلات والخصوص على ما يظهر من التوجه نحو فحص منزلة الصلاة في الإسلام، ثم التهيؤ، وفحص شروطها، ومواقيتها ومعايير قبولها من تأمل ثمراتها، ثم فحص صلاة الجمعة ومنزلتها وأثرها، إلى فحص الدعاء وفضله وأثره في الحياة الإسلامية.
وفي كل هذا يصحبك لغة شفافة محلقة، شفافة دلاليًّا، وواضحة معجميًّا ونحويًّا، وشفافة مجازيًّا بلغة تهدف إلى التأثير في النفس المسلمة؛ طلبًا لترقيها الأخلاقي والروحي، وطلبًا لتحصيل السعادة والبهجة الآمنة والفرح الساكن. وهذا الطموح ظاهر في كل ثنايا الكتاب، يقول الأستاذ فتح الله كولن:
“نحن نتلقى الأذان وكأننا نغتسل في جدول موسيقى نجد فيه سحرًا آخر وطعمًا آخر ولطافة وسعادة أخرى” (ص126).
معراج الروح.. خطاب الاستثمار
الحقيقة أن هذا الكتاب مليء ومكتنز بكثير من العبارات الجمالية التي تمنح القارئ شعورًا بالارتياح والبهجة، لأنها صادرة عن شعور متوهج يتحرك بنوع من الطراءة أو “الطزاجة”، ومن هذه العبارات:
“السجدة هي أرضية الشكر على الواردات والفيوضات الموجودة في الصلاة، وهي بوتقة المهابة التي تسكب القلوب المنصهرة فيها في قالب العبودية.. وهي ساحة لقاء ومرفأ اجتماع المشاعر والأفكار المتجهة إلى الذات الجليلة، التي من وجدها عرفها ومن عرفها عشقها” (ص32).
“أجل، بالعبادات تنكشف علاقة الروح والقلب بالعالم اللدني” (ص67).
“إن الأرواح تسمو بالعبودية لله، وتظفر بقوتها الحقيقية؛ لأن العلاقة بالله سمة خاصة بالإنسانية” (ص70).
“إن الصلاة تكسب العبد اطمئنانًا.. بما تحمله من فيوضات لدنية تتنزل عليه” (ص87).
“الصلاة أثمن الأشياء” (ص95).
“الصلاة بحر وشلال عظيم يطهر المسلم من أرجاسه المادية والمعنوية” (ص98).
“إن المؤمن يتسم بنشاط وحيوية في الصلاة، ويشعر بطمأنينة بالغة عند توجهه إلى ربه بكل كيانه” (ص136).
“الصلاة معراج المؤمن، وسفينة الدين، تسير بها الأعضاء” (ص126).
“إن الكلمات المقدسة التي يكثر ذكرها في الصلاة؛ مثل سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، هي صوت العبودية ونفسها” (ص152).
“مراعاة الصلاة تمنحنا العشق والشوق والقوة، من أجل أن نؤدي وظيفة العبودية في هذه الدنيا، وهي الصديق الصدوق والشفيع لنا في طريقنا المحفوف بالمخاطر.. وهي الوسيلة التي تقربنا من الله (” (ص163).
(*) د. خالد فهمي، أستاذ العلوم واللغة بكلية الآداب، جامعة المنوفية / مصر.