﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/185).
رحلت ولم ترحل: رحلتَ عنا شيخنا وحبيبنا، لكنك لن ترحل. رحلت عنا ونحن نتأهب للتمتع والجلوس بين يدي حضرتكم مرة أخرى! نعم رحلت لكنك لم ترحل، فقد رحل عنا جسدك الطاهر يا شيخنا، أما روحك فلن ترحل. تقبلكم الله في أعلى عليين يا سيدنا. تقبلكم الله في زمرة الشهداء والصالحين، وبجوار خير المرسلين. رحلت عنا ونحن نشهد أنكم قد بلغتم الرسالة، وأديتم الأمانة، ونصحتم الأمة حتى أتاكم اليقين، وأنتم بقضاء الله راضين، وبقدره موقنين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ستبقى روحكم الزكية مصباحًا ينير طريقنا في مختلف دروب هذه الحياة، بكل أبعادها التي طالما بينتَها للناس، وبينتَ سراديبها الموحشة. ستبقى روحك يا شيخنا، هادية لنا بمنهجك العامر بالأمل الكبير في الله، والذي زرعته في قلوبنا وقلوب كل أبناءك ومحبيك، والذي حافظتَ عليه طيلة حياتك، حتى أزعج كل من في قلبه مرض. رحلت شيخنا ومداد رسالتكم لنا لم يجف بعد، وقد ختمتموها بتوقيعكم: “تراب أقدام العلماء، محبكم فتح الله كولن”. حاشا وكلا، نحن التراب وأنتم الثريا، يكفينا فخرًا أن نكون من أحبابك شيخنا العزيز؛ لكن أدبكم الغالي وتواضعكم العالي، جعلنا وأمثالنا نستحيي من أنفسنا حين تنادينا: دولة العالم الحكيم والأستاذ المربي. نعم إنها أخلاقكم التي أسرتم بها قلوبنا، ومنهجكم الذي جعل الناس يهيمون في تتبع أخباركم، وثقافتكم التي جعلتنا ننهل من بديع أفكاركم. هكذا كنتم ودمتم حتى رحلتم عنا شيخنا. لكن سيرتكم العطرة ستبقى فسائل غالية، وأغراسًا مثمرة في كل جيل؛ رافعة معها راية إرثكم المجيد، وجمال جغرافيته الممتدة عبر أرجاء أرض الله الواسعة؛ المعطرة بنسيم كلماتكم الرقراقة وفكركم الإنساني، وعبق منهجكم الحضاري الأصيل.
أيها الأحباب في الله، القائد الرباني لا يموت؛ لأن محمد فتح الله كولن عاش وسيبقى كبيرًا وأميرًا، في الواقع وفي أعين الملايين من الناس، فضلاً عن محبيه.
لقد عاش وسيبقى فتح الله كولن:
هو القائد العابد الزاهد:
لأنه رجل بيده كل شيء ولا يملك أي شيء. وإلقاء نظرة سريعة على عدد المؤسسات والرجال من أبناءه ومحبيه، وما يملكونه من إمكانات اقتصادية وتجارية ومالية، والذين وضعوا مفاتيحها بين يديه، لا نستطيع حصرها. لكنه وكما يعلم من اطلع على حياته، أو اقترب من جانبه، سيهوله مستوى التواضع والتقشف الذي يعيشه هذا الرجل الكبير. ولقد تكررت مفاجآتي وأنا أسمع وأرى أحداثًا تتعلق بحياته الخاصة في المأكل والمشرب والمسكن؛ وكيف كان تقشفه مثيرًا في كل ذلك، إلى درجة الاستغراب.
هو القائد العالم العامل:
مصداقًا لما أصل في ديننا وما حظي بها العلماء العاملون من الدرجات الرفيعة، وأن العلماء بينوا فضل العالم العامل على العابد ودرجاته، وأن هذا الصنف من العلماء هم الورثة الحقيقيون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ويخاف منهم كل شيء. فلو أردنا حصر لائحة العلماء الذين كتبوا عن شيخنا وعددوا مزاياه العلمية والعملية وأشادوا بعلمه الواسع ومؤلفاته المتنوعة، لتعبنا ذلك.
هو القائد الفقيه المجدد:
فما من مجالات العلم إلا ووجدنا لشيخنا فيه لمسات خاصة وإضافات نوعية. وإذا كان أصل ما يعتد به من العلوم هو كلام الله تعالى، فقد كان تأليف شيخنا في هذا الباب سببًا من الأسباب الأساسية التي أثارت انتباهي في بداية تعرفي على شيخنا؛ وذلك حين اطلاعي على كتابه القيم “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” حيث وجدت فيه من الاجتهادات التي تفرد بها شيخنا في باب التفسير ما يشد الألباب.
هو القائد المفكر الكبير والمثقف الموسوعي:
إن إبداعات شيخنا في الفكر والثقافة دوخت المختصين في كل المجالات، ونظرًا لما لقيه هذا الفكر الحضاري من نجاح باهر، حاول الكثير من المهمومين والمنافسين تقليده والسير على أثره، لكن هيهات أن يستطيعوا. كيف لا وهو القائل: “الثقافة بمثابة نبع هام ترده الأمة على الدوام في مراحل تطورها الخاص بها”، وأي نبع أهم من منابع التربية والتعليم. ويكفيني مثال واحد زعزع كياني، وحرك وجداني حين حضرته أول مرة، إنه المهرجان السنوي الذي تقوم به مدارس الفاتح للتنوع الثقافي. حينها اكتشفت كيف استطاعت هذه المهرجانات من جمع ما لم تجمعه أي وسيلة أخرى. يا إلهي كيف استطاعت هذه الفكرة العبقرية أن تُجمع على منصة واحدة غالبية دول العالم وراياتها تخفق بين يدي عدد من التلاميذ الموهوبين. من فكر وأبدع وفتح أبوابًا لعلاقات متشابكة متكاملة متزايدة لا تنتهي.
هو القائد الداعية المحنك:
شيخ الدعاة بدون منازع. وقد تشرفت بدارسة سيرة أحد أعلام الدعوة بالمملكة المغربية، أخي وأستاذي فريد الأنصاري رحمه الله، فلم تسعنا حلقات عديدة في كشف وبيان مدى تأثر الشيخ فريد الأنصاري بأستاذنا فتح الله كولن جدد الله عليه الرحمة؛ ووضحنا كيف كان الشيخ فريد رحمه الله ينهل من فكر ومنهج وأسلوب شيخنا فتح الله كولن، إلى درجة استصحاب منهجه في الدعوة إلى مشروعه الكبير، والذي أعلن عنه بعد انتقاده لمناهج الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب، كما بين ذلك في عدد من كتاباته.
هو القائد السياسي المحنك:
آه لو علم السياسيون حقيقة السياسة الشرعية؟ آه لو تأملوا قليلاً منهج أستاذنا فتح الله كولن؟ آه لو آمنوا به وعزّروه واتبعوا طريقه!!! فالسياسة عند بني قومنا في أحسن صورها هي فن الممكن. لكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن فتح الله كولن -وسع الله مدخله- مارس السياسة بمفهومها الشرعي الإنساني العام، المتجاوز لكل التعاريف الضيقة والصور الدنيوية المقيتة. فهو القائل: “السياسة هي فن الإدارة التي تجلب رضا الله ورضا الناس”. نعم لذلك كان -طيب الله ثراه- لا يلتفت إلى ما يثيره بعض الناس من ضجيج حول أهدافه السياسية ونواياه السلطوية. وأقدر أنه لو أراد السلطة بمفهومها المادي النزق، لما استطاع أحد أن ينافسه في ذلك، لكن همته أكرمه الله، كانت فوق ذلك بكثير، إنه رضى الله الذي طالما سمعناه يتحدث عنه، ويدعو إليه ويلهج به قولاً وفعلاً وعملاً.
هو القائد الإنساني المسلم:
يا ليت قومي آمنوا بمنهاجه رحمه الله، كما آمن كثير من الفضلاء من علماء المسلمين وغير المسلمين. يا ليت قومي آمنوا بما كان يردده في أقواله وأفعاله، من أن هذا الدين، كما نبينا الأمين، عليه أزكى الصلاة والتسليم، جاء بشيرًا ونذيرًا لكل العالمين. وبالرغم من ضعف الأولياء، وكيد الخصوم، فقد استطاع شيخنا أسكنه الله فسيح جناته، أن يقنع العالم بوجاهة رأيه، وسداد منهجه، وحكمة مواقفه؛ عبر بيان صالحية هذا الدين لكل وقت وحين وفي كل الميادين. فما من مجال من مجالات التشابك الإنساني عبر العالم إلا ولشيخنا فيه مواقف واضحة، وبصمات مشرفة، ونجاحات لا يخطئها الناظر.
لكل ما سبق وغيره كثير نقول لشيخنا رحمه الله: (نم قرير العين سيدنا وقد عوضك الله عن فراق وطنك الصغير بوطن ليس له حدود. فقد كنا كثيرًا ما نحس بلسان حالك وهو يتحسر عن بعدك عن وطنك الأم، وهو يردد قول عبد الله ابن عباس عن رسول الله حين أخرجه قومه من بلده: “ما أطيبك من بلد، وأحبّك إلىّ! ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرك“. شيخنا الجليل نم قرير العين؛ بعدما استوعب أبناؤك ومحبوك منهجك، وبلغوا رسالتك حتى تسابقت إليها الأجيال في كل الأوطان كما تتسابق الطيور إلى ينابيع المياه العذبة. نم قرير العين شيخنا وألم الضمير وغيوم الحسرة تطارد كل من جرح خاطرك، وأقلق راحتك أو أربك مسيرتك. نم قرير العين شيخنا، هنيئًا لك بما علمت، وهنيئًا لك بما عملت، وهنيئًا لك بما أخذت، وهنيئًا لك بما تركت).
أيا مدينة “أخالط” شكرًا جزيلاً لكِ على هذه الروح الزكية والطينة المباركة من الرجال التي رفرفت في سماء الأناضول. فكما كنتِ فاتحة الآذان في بلاد الأناضول، كذلك كنتِ حاضنة الروح التي نفخت في العالم المعاصر جذوة الخدمة المباركة في سبيل الله، من خلال رجلنا وشيخنا فتح الله كولن. شكرًا لكِ “أرض روم” ولكل من أسهم من قريب أو بعيد في تيسير عقبات الأبواب أمام شيخنا ليكون سببًا فيما نراه اليوم من عمل إنساني كبير، وجهد عالمي عز نظيره في هذا الزمن العصيب. رحمك الله يا فتح الله، وفتح الله عليك أبواب الرضى والرضوان، وإنا الله وإنا إليه راجعون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع مجلة حراء
بقلم/ د. عبد المجيد بوشبكة