عندما نستذكر الأستاذ فتح الله كولن، الذي يعيش في قلوبنا وعقولنا، فإننا نتحدث عما يمكن أن أطلق عليه “ناي هذا الزمان”؛ ذلك الأنين المستمر للإنسان الذي تقف أمامه عقبات كثيرة للوصول إلى الحقائق العالية.

وكما كتب الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ذات مرة: “فتح الله لديه سر لا يبوح به”، والحق أن الأستاذ لم يكن لديه سر واحد، بل أسرار مع الله سبحانه وتعالى، تترجمها دموعه التي كان يذرفها أمام الجمع ومنفرداً.

إن الحديث عن منهجه في التكوين العلمي والروحي يطول، ولكن يمكن اختصاره في كونه رجل الجَمْع.

رجل الجَمْع”: كسر حاجز الزمان في حلقات العلم

أقصد بـ”رجل الجمع” ذلك المنهج الفريد الذي يجمع بين التراث الأصيل ولا ينغلق أبداً عما يحدث في حاضرنا. هذه السمة نجدها في كل دروس الأستاذ.

وكما ذكر الأستاذ نوزات صواش، كنا نجلس في حلقة التفسير، نقرأ جميعاً من كتاب أصلي واحد، ولكن كل طالب منا يحمل كتاباً مختلفاً: شرحاً أو تفسيراً كُتب في عصر وقرن مختلف. بهذا، كنا نجتمع مع كل هؤلاء العلماء وكأن الأستاذ يقول لنا: الزمان ليس حاجزاً بينكم وبين هؤلاء.

كل طالب يطالع القسم المقرر في مرجعه الخاص، فنجالس علماء القرون الماضية، نستفيد منهم ونتعلم. ثم يأتي دور الأستاذ ليضع “الميزان” الدقيق، فيقول: “انظروا، هذه الفكرة كُتبت في القرن الخامس، ولكننا نحتاجها اليوم بشدة”، أو يقول: “نعم، هذه الفكرة ربما كانت معقولة في القرن الرابع الهجري، ولكننا اليوم لا نقول بها”.

بهذه الطريقة، كان يعلمنا أن في عالم الأفكار وعالم العلم لا توجد حدود للزمان.

رفع المعايير: “تسابقوا مع الصحابة

لم يكن هذا “الجَمْع” نظرياً فحسب، بل كان يهدف إلى رفع المعايير “علماً وعملاً”. فحينما كنا نتحدث عن الصحابة أو رجال الحديث وسيرهم العطرة، كان يقول لنا: هؤلاء الرجال يجب أن تتسابقوا معهم.

لقد كان يرفع سقف الطموح الذي يجب على الإنسان أن يحتذيه في حياته.

وهذا المنهج كان قائماً على الدقة. كان الأستاذ رجلاً دقيقاً في ألفاظه وتعبيراته، ولذلك كنا نجد بجواره دائماً “المعجم الوسيط”. وأحياناً حين نخطئ في لفظ كلمة، لا يصحح لنا مباشرة، بل يسأل بلطف: “هل يمكن أن تبحثوا في المعجم الوسيط؟ انظروا، هل هذه الكلمة هكذا فعلاً؟”. كان يعلمنا أن الدقة في الألفاظ مهمة، لأن اللفظ يحمل دلالات عميقة.

التربية بالمراعاة: “قولوا مصر حتى لا يحزن صالح

لكنه لم يكن متزمتاً. فإلى جانب الدقة العلمية، كان يمتلك مراعاة دقيقة لمشاعرنا. كنا أحياناً نمزح في الدرس، فأتذكر عندما كنا نتحدث عن الإمام الليث بن سعد ونقول إنه “إمام مصر”، فكان الأستاذ يبتسم ويقول: قولوا مصر حتى لا يحزن أخونا صالح.

هذا الاهتمام الدقيق بالمشاعر، وهذه الفكاهة التربوية، كانت تكسر الحواجز بيننا وبينه. كان يعلمنا أنه كلما اتسعت دائرة اهتمامك بمن حولك، قلت الحواجز.

وكان يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في منهجه؛ فإذا حدث خطأ، يقدم النصيحة العامة أولاً. ولكنه أيضاً، ورغم مشاغله التي لا تعد، كان يجلس مع كل واحد منا جلسات خاصة منفردة، يسأل عن أحوالنا وما يحزننا، وكان بنظرته الثاقبة يدرك إذا كان لدى أحدنا مشكلة ما قبل أن نتكلم.

الكون لا يقبل الفراغ

كان الأستاذ “رجل الهمة”. يفسر لنا قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} بمعنى عميق، فيقول: “الكون في معاييره لا يقبل الفراغ. إذا لم تنشغلوا بالحق، شغلكم الباطل”.

لذلك كان يقول: “إذا انتهيتم من قراءة أو درس، لا تغلقوا الكتاب وتتوقفوا، بل ابدؤوا فوراً في أمر آخر، في دراسة أخرى، في بحث جديد. هكذا يستمر الانشغال بالحق”.

الخلاصة: النظرة المخروطية وتوسيع دائرة الاهتمام

إن الاحتفاء بالأستاذ هو احتفاء بالعلم والعمل، احتفاء بالسيرة والقرآن، احتفاء بالوصال مع التراث والمنهج العلمي.

لقد كان الأستاذ هو “الجَمْع” ذاته؛ جمع بين التراث والمعايشة الحاضرة، جمع بين الروح والعمل، جمع بين التصوف والفقه وأصوله، جمع بين القيم العالية وإدراجها داخل الحياة اليومية. كان ينظر للأمور بنظرة “مخروطية” شاملة، لا يجزّئها.

وأختم بهذه الحادثة التي أربكتني ولا أنساها. في يوم ربيعي مشرق، خرجنا مع الأستاذ، وكان يسير بخطى ثقيلة وبطيئة جداً. كنا نتساءل: لماذا يسير هكذا وهو الذي كان يمتلك صحة جيدة رغم ثمانينياته؟

عندما جلسنا، نظر إلى تساؤلنا في عيوننا، ثم نظر إلى الأرض وقال: هل تنظرون إلى هؤلاء النمل؟ هذا النمل يذكر الله سبحانه وتعالى، يتعبد له بأسلوب يختلف عنا… هل يحق للإنسان أن يدوس على النمل ويقتله؟ لا يحق لنا أن نفعل هذا.

لقد كان يوسع دائرة الاهتمام، ينقل مشاعرنا من الاهتمام بالإنسان إلى الاهتمام بالإنسان وما حوله من الكائنات. كان يحتفي بأهمية الحياة، وبأهمية الإحياء، وكان أنينه المستمر من أجل إزالة الحواجز التي تمنع الإنسان من الوصول إلى الله.