إن فكر الأستاذ فتح الله كولن، فيه خلاصة تجربة، هو تجربة مشروع حضاري عظيم.. مشروع «الخدمة» يقوم بعمل عظيم في كل مجتمع حل فيه. مجرد كلمة «الخدمة» هذه، دليل على أن القوم يريدون خدمة المجتمع، يريدون سعادة المجتمع الإنساني من خلال بعث الإيمان في قلبه، وإقامة الفضيلة في سلوكه.. الأستاذ فتح الله كولن هو عملاق الفكر الإيماني الانبعاثي والحضاري في هذا العصر. ولا أقول هذا مدحًا أو ثناء، وإنما إدراكًا للحقيقة وأداء للأمانة. هذا ما أؤمن به وأعتقده.. إن الأستاذ فتح الله كولن رجل روح بالدرجة الأولى؛ رجل روح يحمل مشروعًا حضاريًّا عظيمًا.. إنه استطاع أن يتفاهم مع القلب البشري بطروحاته التي يطرحها، فوجد هذا القلبُ غذاءه فيما ينتجه الأستاذ، فتجاوب معه تلقائيًا. هذا لب الحوار الذي أجراه الأستاذ «نوزاد صواش» مع الأديب الأريب الأستاذ «أديب الدباغ» والذي تتشرف «نسمات» بنشره للسادة القراء.
[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]
في ظل الأزمات التي تعاني منها الأمة الإسلامية خصوصًا والإنسانية عمومًا في هذه الفترة العصيبة من الزمان، ازدادت محاولات البحث عن سبل للخروج من هذه الأزمات. السلبيات كثيرة، لكن لا تخلو الساحة من إيجابيات كذلك. مشروع الخدمة الذي سقته دموع الأستاذ فتح الله كولن وجهوده مع آلاف من الناشطين المتطوعين معه، يمثل اليوم إحدى تلك الإيجابيات المبشرة الباعثة للأمل في القلوب.
الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ مفكر فريد من نوعه، لا يزال يتوقد ذكاء وعاطفة رغم عمره المبارك الذي تجاوز الخامسة والثمانين. ولد في العراق وعاش فيها سنوات طويلة من المعاناة والحروب والتقلبات السياسية والاجتماعية التي ارتسمت على قسمات وجهه حزنًا وألمًا. الحرب العراقية الإيرانية أخذت منه أحد أبنائه، ذهب ولم يعد مرة أخرى، ولم يعرف عنه شيئًا حتى اليوم.
ذاق آلام الاستبداد السياسي وسقوط بغداد والويلات التي لاقاها البلد والشعب العراقي من بعد حتى يومنا هذا. لكنه وهو المفكر الأديب المرهف، عاش يسطر السنوات العجاف تلك بقلمه المبدع، يسطرها دمًا ودموعًا وآلامًا.. وآمالاً.. إلى أن عرف رسائل النور في الثمانينات من القرن الماضي، فكانت بلسم الأمل له، وسهر على قراءتها والكتابة عنها. ثم تعرف على فكر الأستاذ فتح الله كولن وغاص في أعماقه، ثم انتقل إلى تركيا ليطلع على تجليات هذا الفكر في ساحة الواقع، فرأى من المؤسسات ما يثلج الصدر ويبهج القلب. ثم قرر أن يعكف على هذا الفكر قراءة ودراسة وبحثًا وكتابة، وأن يستقر في درة المدن وملتقى الحضارات إسطنبول.
الأستاذ أديب الدباغ، ساهم في تحرير ترجمة كتب الأستاذ فتح الله كولن إلى العربية، وقدّم لبعضها، وألف مؤلفات حولها، وتحدّث عنها، وألقى محاضرات عديدة في محافل علمية كثيرة. أديب الدباغ قصة حياة حافلة بالتجارب.. حياته خلاصة حياة الأمة في العقود الثمانية الماضية. التقينا به في حوار ودّي حاولنا أن نستخلص من خلاله عصارة تجربته مع فكر الأستاذ فتح الله كولن ومشروع الخدمة، بما ينسجم مع خط مجلتنا الفتية «نسمات»، وإليكم ما دار بيننا من حديث.
(نوزاد صواش) س: حسب علمنا، بداية القصة كانت مع رسائل النور، وكان لكم إسهام كبير في تعريف العالم العربي برسائل النور. وفيما بعد عندما بدأت تصدر الطبعات العربية لكتب الأستاذ فتح الله كولن اشتغلتم في تحريرها والبحث فيها والكتابة عنها.. هل لكم أن تلخّصوا لنا مساركم مع هذين العلَمين؟
(أديب الدباغ) ج: اطلعت على كتب الأستاذ النورسي عن طريق الأستاذ إحسان قاسم. كان صديقًا لي، وكان مهتمًّا بترجمة رسائل النور. وكان كلما يترجم جزءًا من هذه الرسائل يطلعني عليه، فوجدت فيها عمقًا إيمانيًّا عظيمًا يحتاج إليه المسلمون في العصر الحاضر، هذا العصر الذي طغت فيه المادية بشكل فظيع، فكأن الفكر النورسي الإيماني يقف ضد هذا التيار المادي القوي المتدفق.
س: بعد رسائل النور تعرفتم على مدرسة الأستاذ فتح الله كولن، فما هي الصورة التي انطبعت في ذهنكم؟
ج: الحقيقة، تحدث مفكرون كثيرون عن الأستاذ فتح الله كولن، وأنا لا أدعي أنني سأضيف جديدًا على ما قالوا. ولكن أقول؛ أنا اطلعت على الأستاذ فتح الله كولن من خلال معالم هذه «الخدمة» المباركة التي كنت ألمس بعض جوانبها، سواء عن طريق الأفراد أو عن طريق المؤسسات.. فمن الأشياء التي عرفتها، أن الأستاذ فتح الله لم يكن قد التقى بالأستاذ النورسي، بل قرأ بعض رسائله وتأثر بها، وجعلها أساسًا في تفكيره فيما بعد. نستطيع أن نقول إن الأستاذ فتح الله اتخذ من فكر الأستاذ النورسي مستندًا لتطوير رؤيته الحضارية. كان فكر الأستاذ النورسي عبارة عن فكر تنظيري، لكن الأستاذ فتح الله استطاع أن ينزّله على أرض الممارسة والواقع والحياة، وهذه هي ميزة هذا الرجل العظيم؛ إنه استطاع أن ينزّل هذا الفكر التنظيري إلى الواقع، بحيث يعيشه الناس في حياتهم اليومية وفي معاملاتهم، ويمارسونه بشكل لا أقول جيد مائة بالمئة، فالكمال لله، ولكن على قدر ما يستطيعون.
س: جلّ المطلعين على مشروع الخدمة يؤكدون على النقطة التي تكرمتم بها، أي القدرة على تحويل الفكر إلى فعل حضاري. برأيكم هل تجاوز الأستاذ الأزمة القائمة في العالم الإسلامي، أي أزمة العجز عن تحويل الفكر إلى فعل؟
ج: نعم، هذا ما حصل. وهذا ما نشاهده في تلك المؤسسات التربوية التي نراها، وهي تقوم بعمل عظيم في خدمة الناس، وفي توعية الناس، وترقية الناس.. ولكن أنا في رأيي أن كل ما قاله الأستاذ فتح الله هو دون ما عنده من قول. صحيح هو قال كلامًا عظميًا، ولكن ما لم يستطع أن يقوله هو كلام أعظم مما قال؛ لأن اللغة أحيانًا لا تسعف المفكر على أن يقول كل ما عنده. فأنا في رأيي المتواضع أنه لا يجب أن نقف عند كتابات الأستاذ فتح الله، ولكن ينبغي أن ننطلق مع انطلاقاته الروحية والفكرية التي هي أعظم وأجلّ وأكبر مما نقرأه من كتابات. نستطيع أن نقول إن ما قاله الأستاذ، نزر يسير مما يحمله من أفكار ومشاريع، لأن حقيقة المعاني العظيمة والمعاني الكبيرة التي يختزنها في نفسه، لا تسعفه اللغة على أن يعبر عنها التعبير الذي يستسيغه الناس.
س: بالتأكيد تقولون ذلك بناء على تجربتكم الذاتية فيما تقرأون من مؤلفاته.
ج: نعم، أنا هكذا أشعر. أشعر أن الرجل أعظم مما كتب، وأن عنده ما يقوله، ولكن اللغة حائلة بينه وبين ما يريد أن يقوله من هذه المعاني العظيمة التي تجول في خاطره.
س: حسب علمي انطلاقتكم الأولى للتعرف على ممارسات الخدمة العملية لم تكن من تركيا؟ الخطوة الأولى كانت خارج تركيا، أين بالتحديد؟
ج: نعم، أنا عملت في جامعة داغستان، في مدينة اسمها دربنت. كان هناك جامعة تأسست بتشجيع الأستاذ فتح الله، وكانت تؤدي خدمة كبيرة للطلبة الذين كانوا يرتادونها وخاصة من منطقة أذربيجان. كانوا يأتون إلى هذه الجامعة بكثرة، ورغم ما كانوا يجدونه من منغّصات، فقد كانوا متشوقين جدًّا للسماع إلى أفكار الأستاذ.
س: كيف كان شعورك وقد خرجت من العراق، وانطلقت إلى القوقاز ثم تركيا ورأيت ما رأيت، واطلعت على قوافل من المدرسين الذين يهاجرون من أجل رسالة، ومن أجل بناء الإنسان؟
ج: أقول أمانة، نحن نحيّي العمل العظيم الذي يقوم به الأستاذ ورفاقه فيما يخص العالم. لأنه يعتقد، لا بل يؤمن إيمانًا جازمًا، أن هذا الفكر الإسلامي الإنساني لا بد أن يكون له ركائز في كل أنحاء الدنيا. فالرجل فكره عالمي، وليس فكرًا محليًا ضيقًا. يريد أن يقدم روح الإسلام إلى هذا العالم المتعشق المتعطش للفكر الإيماني السليم المتوازن المتزن. وليس في داغستان فقط، وإنما في مختلف أنحاء العالم، حتى عندنا في العراق. في الموصل بالعراق كان هناك مدرسة فتحت بتشجيع الأستاذ. الأساتذة الذين يعملون فيها كانوا نماذج عظيمة تعكس الفكر الحضاري الاستيعابي الذي يجمع بين العلم والإيمان. فهذه المدارس ما أسست -في رأيي المتواضع- إلا كمحاولة للربط بين العقل الكوني والعقل الإنساني. هذه الرؤية هي التي ستفتح آفاق العلم التي يحتاجه المسلمون في العصر الحاضر.
س: ما هي كلمة السر بالتحديد؟
ج: هي المدارس؛ المدارس التي تجمع بين العلم والإيمان، بين العلم والأخلاق. هذه المدارس تقوم بهذه المهمة؛ مهمة الجمع بين العلم وبين الإيمان. وقد نجحت كثيرًا وخرّجت أجيالاً من الشباب ذوي روحية عالية، وفي نفس الوقت ذوي علمية عالية. العلمية العالية التي قد تضاهي كثيرًا مما نشاهده من الطلبة الأجانب في أمريكا وفي أوروبا وفي مختلف أنحاء العالم. التجديد في الفكر الديني عند الأستاذ فتح الله، يتمحور حول الجمع بين الجانب العلمي والجانب الإيماني. وهذا هو ما تحتاجه البشرية اليوم، وليس المسلمين فقط. الأستاذ بفكره العالمي الاستيعابي لمعطيات ومجريات الحضارة الحاضرة، وتوجهاته الفكرية والعلمية، استطاع أن يوجد أرضية للإنسان المؤمن، لكي يرتقي إلى هذا المستوى العالي من الإيمان، وإلى المستوى العالي من العلم.
س: ما الذي يجعل لكلام الأستاذ فتح الله كولن تأثيرًا في القلوب، فينطلق الناس ليحوّلوا كلماته إلى مشاريع عملية؟ ما سر التأثير عنده من خلال قراءتكم له؟
ج: أستطيع أن أقول إن الأستاذ فتح الله رجل روح بالدرجة الأولى، رجل روح يحمل مشروعًا حضاريًّا عظيمًا. فهو يمتلك قدرة فذة في فهم الوجدان البشري والقلب البشري، كما أنه يمارس شخصيًّا رياضة روحية عالية. وبالتالي استطاع أن يتفاهم مع القلب البشري بطروحاته التي يطرحها، فوجد هذا القلبُ غذاءه فيما ينتجه الأستاذ، فتجاوب معه تلقائيًا. وهو يرى أن القلب البشري -كما يؤكد الحديث الشريف- هو منبع كل السلوكيات الإنسانية. فإذا صلح القلب صلح الإنسان، وإذا صلح الإنسان، صلح العالم وصلحت البشرية. فلذلك اختار أن يبدأ من القلب، يغذّيه بالأشواق إلى بارئه إلى خالقه.
س: يبدو أن العصر الحديث عبّأ عقل الإنسان بالمعلومة لكن نسي قلبه.
ج: نعم، كثر علمُه، ولكن قلّت حكمتُه. سمة هذا العصر أن العلوم كثيرة، ولكن الحكمة قليلة. الاتصال بالسماء ضعيف، ولا تجد ذلك -مع الأسف الشديد- إلا عند القلة القليلة من البشر، وهذه هي مشكلة البشرية في الوقت الحاضر. فالأستاذ فتح الله كولن وضع يده على نبض العالم، وعرف ما يعانيه من أزمات فكرية وروحية ونفسية، فحاول أن يقدم له الحلول التي تناسبه.
س: لا شك أن الأستاذ ليس منبتًّا عن رواد الإصلاح الذين عرفناهم في نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، هو امتداد لهم، أليس كذلك؟ فالعالم الإسلامي عرف مالك بن نبي، عبد الحميد بن باديس، الطاهر بن عاشور، محمد عبده، محمد إقبال، المودودي، النورسي وأمثالهم من الأعلام.
ج: نعم، هؤلاء كانوا رواد النهضة الإسلامية الحديثة. كان المسلمون في ذلك الوقت يشعرون بالدّونية، ويشعرون بالتخلف، ويحسبون سبب ذلك التخلف هو عدم إدراكهم للقضايا العلمية الحديثة. هكذا كانوا يظنون في بادئ الأمر، لذلك حاول هؤلاء الرواد أن يقولوا للمسلمين أن ما يشاهدونه من عظمة الحضارة الغربية وما فيها من علوم وتكنولوجيا، إنما أسسها موجودة في صلب الإسلام وفي صلب القرآن. فينبغي أيها المسلون أن لا تتركوا دينكم وتستبدلوا به العلوم الحديثة، فلا تناقض بين العلم والإسلام.
س: إذن نبهوا المسلمين إلى حقيقة في غاية الأهمية.
ج: بالتأكيد، قاموا بعملية إيقاظ، بعملية انبعاث للقوة الجوانية الكامنة داخل المسلم والتي كادت أن تنطمر ويفقدها المسلم إلى الأبد. الأستاذ فتح الله يرى أن الذات المسلمة تنطوي على كثير من الطاقات، ولكنها مطمورة تحت جوانية المظاهر. ولذلك في كل كتاباته يحاول أن يثير هذه الذاتية المختزنة في داخل المسلم، لكي تعود من جديد، ولكي تعطي وتبدع وتجدد وتبتكر.
س: أذكر في سنة 1992 فاز طالب في نهاية الإعدادي بمدرسة «يامانْلَر» في مدينة إزمير الواقعة في غربي تركيا بميدالية ذهبية في أولمبياد الفيزياء العالمية، وكان ذلك يحدث لأول مرة في تاريخ تركيا. فأوصى الأستاذ باستقبال ذلك الطالب في المطار بسجادات حمراء، لأنه أعاد الثقة إلى نفوسنا من جديد بأننا نحن المسلمين نستطيع أن نحقق شيئًا في مجال العلوم، ويمكننا أن ننجز شيئًا في هذا المجال كذلك على مستوى العالم.
ج: وهذا يعني أننا منسحقون أمام الحضارة الغربية ونعتقد أنه يستحيل أن نصل إلى ما وصلوا إليه، بينما الحقيقة أنه إذا وُجد من يستخرج الكنوز الكامنة في داخل الإنسان المسلم، يستطيع أن يفعل أكثر مما يفعله الآخرون. وأنا أعلم أن تلك النجاحات، تواصلت بعد ذلك وانتقلت إلى مدارس أخرى، والآن هذه المدارس وأخواتها من المدارس المماثلة تسابق العالم كله في كل هذه المسابقات. نحن نحتاج إلى مئات من هذه المدارس وهؤلاء الطلاب، بل الآلاف.
س: اليوم هناك اتجاهات فكرية تنهل -على حد تعبيرها- من منابع الإسلام، ولكن للأسف الشديد يتمخض عنها صورة مشوهة عن الإسلام. يتمخض عنها تدمير وتخريب وعنف، وتتلوث صورة الإسلام على مستوى العالم. أين يكمن الخلل؟
ج: المشكلة عندنا أن الطاقات المعطلة عند الشباب، والشعور بالسأم، والضجر، والإحباط، يجعل هؤلاء الشباب يندفعون إلى اعتناق التطرف في كل شيء. يأخذون الجانب العنفي التطرفي تعبيرًا عما في نفوسهم من سأم وضيق. يعني شاب قواه الذاتية معطلة، قواه الفكرية تكاد تكون متلاشية، فهو إما أن ينتحر، وإما أن ينصرف إلى الأعمال العنفية التي نشاهدها في الوقت الحاضر.
س: الأستاذ فتح الله كولن يتعامل كذلك مع الشباب، ويستلهم الكتاب والسنة في توجيهاته، لكن رؤيته لا تولّد عنفًا كما نرى. نحن لم نر أحدًا ممن تربوا في مدرسة الأستاذ انحرف إلى العنف. فما سر ذلك؟ كيف استطاع أن يستوعب الطاقة الشبابية برأيكم؟
ج: أنا أرى أن الأستاذ يبعث فيهم الرجاء، يبعث فيهم الأمل. هناك فرق كبير بين خطاب الأستاذ وخطاب اتجاهات العنف. فالأستاذ على الرغم من أحزانه الشديدة على هذه الأمة، وعلى انتكاساتها طوال القرون الأخيرة، رغم ذلك فهو متفائل، ورغم ذلك فهو يبعث التفاؤل في نفوس الشباب. هذا التفاءل هو الذي يجعل الشباب يندفعون نحو العمل البنّاء. العمل المنتج هو الذي يمتص الأزمات الموجودة عند الشاب. أما إذا لم يجدوا من يحاول أن يوقظ قواهم الداخلية -كما يفعل الأستاذ- فإنهم حتمًا سيجدون متنفسًا لهم في أمثال هذه الحركات الهدامة العنفية التي ترى في القتل والسحق متنفسًا لهؤلاء الشباب، مع الأسف الشديد.
س: هل يمكن أن نقول بأن توجيه طاقة الشباب إلى العمل البناء هو كلمة السر؟
ج: أجل، توجيه الطاقات إلى العمل وإفراغ شحنتها في العمل والبناء والإنتاج ونفع الناس. العمل هو إكسير الحياة. إذا استطعت أن توجه شابًّا إلى أن يقوم بمهمة من المهمات أو عمل من الأعمال، فقد أبعدته عن منطقة الخطر، وهذا ما تفعله مدارس الخدمة اليوم. لذلك عندما تتابع التلاميذ الذين يدرسون في هذه المدارس، تقرأ في وجوههم البهجة والسعادة والاستبشار بالمستقبل، وهذا الشعور قلما تجده في مدارس أخرى. سمعت كثيرًا عن حالات انتحار تقع بين تلاميذ بعض المدارس الحكومية، يعني هذا منتهى اليأس، منتهى القنوط، لم يعد يجد في هذه الدنيا بارقة أمل، فلذلك يلجأ إما إلى أن يقاتل الآخرين ويقتلهم أو يقتل نفسه وهكذا.
س: إذا سمحتم أريد أن أكون مباشرًا في سؤالي، عندما نتحدث عن الأستاذ فتح الله كولن، هو تركي، فهل هذا يسبب مشكلة نفسية بالنسبة للعربي؟ يعني هل يقول العربي، وهل ينقصنا نحن العرب علماء؟ القرآن بِلُغتنا، السنّة بِلُغتنا، الدين بِلُغتنا.. فما عسى أن يضيف هذا التركي إلى علمنا ورؤانا؟ سيادتكم متفاعلون مع كتب الأستاذ فتح الله كولن وفكره وممارساته، فما الجديد عنده برأيكم؟
ج: الحقيقة أن القرآن كتاب المسلمين جميعًا، وليس كتابًا للعرب حصريًّا لكونه نزل باللغة العربية. القرآن الكريم نزل للأرض كلها، نزل للعالم كله، ولم ينزل للعرب فقط. كنوز القرآن وخفايا القرآن وعظمة القرآن، مشاعة لكل من له فكر، ولكل من يتعمق في فهم القرآن وفي دراسة القرآن. جلّ الحركات الإسلامية الموجودة في العالم العربي، تختصر على جانب محدود من العمل وتنكفئ عليه، ولا تحاول أن يكون عندها نوع من السعة، بحيث تقدر على استيعاب التوجهات العالمية والفكرية في العالم، أي تقتصر على خط معين. من خلال متابعتي وقراءتي أرى أن الأستاذ يمتلك نظرة عالمية، نظرته ليست ضيقة في حدود المنطقة أو في حدود البلد أو في حدود القُطر.
س: إذن الرؤية التي يطرحها ليست تركية أو خاصة بتركيا؟
ج: بالتأكيد، أفقه ليس محصورًا في حدود تركيا والأتراك، بدليل أن كثيرين من غير الأتراك يشيدون بهذا المنهج ويعجبون به وينخرطون فيه ويسلكون فيه. فهذا دليل على أن القضية ليست قضية إقليميات، وليست قضية أقطار أو مدن، القضيةُ عالمية. الرجل صاحب فكر عالمي، وهذا الفكر العالمي منطلقاته من القرآن الكريم.
س: بما أننا وصلنا إلى القرآن الكريم، كلنا نقرأ القرآن، ولكن لم يخرج أحد منا بمثل ما خرج به الأستاذ فتح الله كولن. من خلال متابعتكم، كيف يتعامل الأستاذ مع القرآن، كيف يقرأ القرآن، ما موقع القرآن في حياته؟
ج: القرآن هو وجدان فتح الله العميق في نفسه. عندما تقرأ في كتابه «أضواء قرآنية في سماء الوجدان» تجد فيه لمحات عجيبة عن فهمه وإدراكه للمعاني القرآنية. فالأستاذ من المتعمقين في القرآن الكريم، وفي فهم القرآن الكريم، وفي إدراك المعاني العظيمة التي تختفي وراء الآيات والسور ومجموع القرآن. هو متأثر بروح القرآن بشكل منقطع النظير. فلذلك سلوكه -إذا نظرت- سلوك قرآني، وفكره فكر قرآني. ثم هو يقول إن الرسول الوجه الثاني من القرآن الكريم. فهو يعشق الرسول ، يعشقه عشقًا حقيقيًّا. وعندما تقرأ كتابه في السيرة النبوية «النور الخالد» تقرأ كتابة عاشق لمعشوق، هو يُقبِل على السيرة النبوية بوجدانه، بروحه، بقلبه، وبفكره أيضًا.
س: هل ضيّعنا حقيقة القرآن بضحالة التوجه إليه يا ترى؟
ج: نعم، المشكلة أننا سطحيون. والسطحية سلاح قاتل بالنسبة للفكر والعقيدة وكل الأمور الأخرى. ما لم يكن هناك فكر معمّق قادر على استيعاب روحية الشيء، فسنبقى مقصرين دائمًا. ذكر لنا أحد طلاب العلم ممن حضروا مجلس الأستاذ يومًا، أن الأستاذ طلب منهم أن يقرأوا سورة الفتح، فأخذ البعض يقرأها من المصحف والبعض الآخر يقرأها من حفظه. وبينما نحن كذلك إذا بالأستاذ يتدخل قائلاً: «أيها الإخوة تنبهوا جيدًا، فأنتم لا تقرأون شيئًا عاديًّا، أنتم تقرأون قرآنًا. كل آية، كل كلمة، كل حرف من القرآن حية تنبض، ذات كيان حي، ذات روح متحرك، فاقرأوها بهذا الوعي، حاولوا أن تحسوا بحيويتها. عندما تقرأون بيعة الصحابة الكرام للرسول الأعظم تحت الشجرة، انطلقوا بخيالكم وتصوروا ذلك المشهد، تصورا أنكم هناك اللحظة، تضعون يدكم في يد الحبيب المصطفى تبايعونه، فتتنزل الآيات حية طرية وتتلى عليكم في المجلس النبوي. اقرأوا القرآن بهذه الروح، وإلا تقتلونه».
الأستاذ فتح الله يتخذ من القرآن نافذة للأزليات، والأبديات، والسرمديات، وسر الزمن، وسر الخلود. كل هذا يختزنه في نفسه، وكل كتاباته تنطلق من هذه المنطلقات الموجودة في القرآن الكريم، كل كتاباته تنطلق من هذا الفهم الاستيعابي لمجمل القرآن الكريم. فقضية الأزل والأبد وسر الزمن وسر البقاء وسر الخلود، هذه الأمور التي تحدث عنها القرآن، هي التي أوحت للأستاذ بكل ما كتبه أو يكتبه.
س: كيف يتعامل مع السيرة النبوية؟
ج: عندما تقرأ كتاب «النور الخالد»، تجد أن الأستاذ لا يسرد أحداث السيرة النبوية ووقائعها سردًا تاريخيًّا، وإنما يتوقف كثيرًا عند بعض الأحداث بالتحليل والتركيز، وإدراك المرامي البعيدة الكامنة وراء هذه الأحداث، ويتعامل معها كما يتعامل العاشق مع سيرة معشوقته. هكذا، فهو يقرأ سيرة المصطفى بكل كيانه وأعصابه ووجدانه وروحه، ولا يقرأها بشكل سطحي.
س: كأنه يبحث في السيرة النبوية عن شيء مفقود والأمة في مسيس الحاجة إليه. ما ثمرة مثل هذه القراءة؟
ج: السيرة أولاً تربية روحية. أولاً تربية، ثم هي اعتبار، وهي للاستذكار، ثم هي تاريخ في نفس الوقت. كل هذه الأمور مجتمعة في السيرة، وكلها توحي للمسلم في العصر الحديث كيفية السلوك في حياته اليومية وفي حياته الفكرية والثقافية والعلمية. كلها تكاد تكون خاصة في التعليقات الذي كان يعلق فيها الأستاذ فتح الله كولن على الأحداث والوقائع الموجودة في السيرة المطهرة.
س: عند الأستاذ إشارات مكررة وملحة إلى الصحب الكرام كمثل أعلى، أليس كذلك؟
ج: بلى، فهو يضع أمام تلاميذه أفق الصحابة ليكونوا مثلهم، وهكذا إذا لم يتمكنوا من التحقق بمعنى كلمة الصحابة وما تعنيه، فلا أقل من أن يكونوا صدى، أن يكونوا أصداء للصحابة الكرام، أو أن يكونوا لهم مرايا. يعني ينظرون إلى الصحابة الكرام ويتأسون بهم، يتأسون بأعمالهم، يتأسون باندفاعاتهم، يتأسون بإيمانهم، يتأسون بخوفهم من الله سبحانه، بإقدامهم، بشجاعتهم، بفروسيتهم، بكل ما كان يحمل الصحابةُ الكرام من قيم سامية. وعندي لفتة طريفة تؤكد حب الأستاذ فتح الله للصحابة الكرام، وهو أنه كان يؤتى له بوليد جديد ليسميه، فكان يسميه باسم أحد الصحابة، معاذ، أنس، سعد، أسعد، مصعب، طلحة وهكذا.. وذلك في وقت غابت فيه أسماء الصحابة من المجتمع التركي تمامًا. وهذا تذكير بأسماء هؤلاء العظماء الذين بنوا هذه الحضارة العظيمة ليكونوا مثلاً أعلى للجيل الصاعد في بناء حضارة جديدة تكون روح الصحابة لبّها وخميرتها.
س: كثيرًا ما رأى الناس الأستاذ يبكي أثناء ذكر الصحب الكرام.
ج: صحيح، في هذا السياق ذكر لي ذات مرة أحد تلامذته النجباء شيئًا عجيبًا؛ قال «ذات يوم بعد أن انتهى درس الأستاذ مع طلبة العلم الذين يلازمونه، حملت كتب الأستاذ وذهبت بها إلى غرفته، وضعتها على مكتبه وهممت بالخروج، فإذا به يدخل الحجرة، فتنحيت جانبًا ونظرت إليه، فإذا بنظرات عميقة حزينة منه تخترق قلبي، بقينا هكذا برهة لا يقول شيئًا، وأنا متسمّر مكاني بلا حراك أنتظر منه كلمة أو إشارة. يقول فترقرقت عينا الأستاذ بالدموع، ومد يده إلى المكتبة وأخرج منها كتاب حياة الصحابة ثم قال: يا جمال! أريد أن أقول لك ولإخوانك «كونوا مثل هؤلاء أو موتوا». كلام مؤثر جدًّا؛ «كونوا مثل الصحابة أو موتوا»، لماذا؟ لأن الأستاذ يرى أن الحِمل جِدُّ ثقيل، ولا يمكن أن تحمله أكتاف هزيلة، بل يحتاج إلى سواعد قوية مثل سواعد الصحابة، لذلك عليكم أن تكونوا بقوة الصحابة في أفقهم الرؤيوي وربانيتهم.
س: فضيلتكم اشتغلتم على بعض كتب الأستاذ وقدمتم لها. كتاب «ألوان وظلال في مرايا الوجدان» ما خلاصة رسالته بعد دراسة مستفيضة له؟
ج: في «ألوان وظلال» يرى الأستاذ في كل شيء لمحة من لمحات الجمال الإلهي، لمحة من لمحات القدرة الإلهية، لمحة من لمحات التثوير الإلهي في كل شيء. لا يوجد عند الأستاذ شيء لا يثير الاهتمام. مهما كان هذا الشيء مألوفًا، فكل شيء عنده معجِز، كل شيء عنده إعجازي. قد نرى الأشياء كثيرة، نراها ونعتقد أننا نعرفها، ولكن في الحقيقة قد نموت ونحن لم نعرف عنها شيئًا إلا الظاهر، الظاهر منها. فـ «ألوان وظلال» محاولة لتسليط الضوء على الأشياء التي تحيط بنا في هذا العالم، والنظر إليها بعين الحكمة. فهو يرى تجليات إلهية في كل شيء صغيرًا كان أو كبيرًا، مألوفًا أو غير مألوف. كل شيء فيه إعجاز، إعجاز خَلقي. هذا هو روح هذا الكتاب.
س: طيّب، كتاب «طرق الإرشاد في الفكر والحياة» وسيادتكم قدمتم له؟
ج: نعم، «طرق الإرشاد» من الكتب القيمة جدًّا عند الأستاذ. المرشد الحقيقي كيف يجب أن يكون؟ ما هي صفات المرشد في هذا الزمان؟ ما هي القدرات التي ينبغي أن يتمتع بها لكي يكون داعية عن حق؟ من أهم الأمور أنه عليه أن يفهم اللغة التي يخاطب بها الناس، أن يخاطبهم باللغة التي يفهمونها، بالمعاني التي يدركونها. أما أن يتحدث إليهم بلغة ليست مما عرفوها، فقد لا يؤثر فيهم. كما أن الداعية ينبغي أن يكون ممن يمتلك من القدرات الروحية والفكرية التي تؤثر بالآخرين إيجابًا، يعني هي ليست قضية فقط أن تقرأ له آية أو تقرأ له حديثًا وكفى، لا، إنما ينبغي عندما تقرأ له الآية أن ترسخ في ذهنه، في قلبه. وكذلك الحديث النبوي، وكذلك كل كلام، كل كلام يقوله المرشد، ينبغي أن يكون خارجًا من أعماق قلبه، خارجًا من أعماق فؤاده، وإلا لا يؤثر. الإخلاص، الإخلاص، هذا هو رأي الأستاذ.
س: «ونحن نقيم صرح الروح»، «ونحن نبني حضارتنا»، ما جوهر هذين الكتابين؟
ج: هذان الكتابان من الكتب العظيمة، «ونحن نقيم صرح الروح»، «ونحن نبني حضارتنا». نستطيع أن نستشف منهما فسلفة الأستاذ فتح الله كولن في الانبعاث الحضاري الذي يريده أن يقوم على أسس الإيمان. هذه هي الخلاصة. الانبعاث الحضاري كيف يجب أن يكون وما هي أسسه؟ وما هي معطياته؟ وكيف ينبغي أن نبنيه من جديد؟ القضية هنا ليست عملية ترقية، وليست عملية تهذيب، إنما عملية تجديد، تجديد بالفكر. وهذا عمل نادر ما تجد من يستطيع أن يقوم به، ولكن الأستاذ فتح الله بما عنده من همة ومن أمل ومن رجاء ومن تصميم وعزيمة، وبما يجد من نجاحات، -وهذا شيء هام- في المؤسسات التي حث على إقامتها، وفي الأفراد الذين تتلمذوا عليه، هذا كله يبعث فيه الأمل بأن إقامة الحضارة التي ننشدها ممكنة إذا توفرت لها الآلية الصحيحة.
س: كتاب «الموازين» يتضمن أفكارًا مركزة، كيف تصفونه؟
ج: كتاب «الموازين» روعة من الروائع، ولا يقل عن كتاب ابن عطاء الله السكندري، لا يقل أبدًا، بل أعظم منه بالنسبة لهذا العصر.
س: هل أدبيات الأستاذ فتح الله كولن صعبة الفهم؟
ج: تجربتي المتواضعة، أن الإنسان إذا لم يكن عنده خزين معرفي سابق، قد يصعب عليه إدراك المرامي البعيدة التي يريدها الأستاذ فتح الله كولن. أعود وأكرر وأقول إن انطلاقات الأستاذ الفكرية والروحية، هي أكبر وأعظم من انطلاقاته الكتابية. فيجب أن نلاحق طموحاته الروحية حتى نفهم كتاباته القلمية، هكذا أرى.
س: العالم العربي عالم كبير واسع، له مشاكله، وله رؤاه، وله قراءاته، له أنماطه في النقد والتحليل. عندما تنظرون من العالم العربي إلى مدرسة الأستاذ ومشروعه الحضاري، ما توقعاتكم؟
ج: العالم العربي الآن مشغول بمشاكله، بقضاياه. هل يستطيع أن يقيّم فكرًا مثل فكر الأستاذ، لست أدري. العالم العربي يحتاج إلى شيء من الهدوء، وإلى شيء من الاستقرار، وأن يراجع نفسه، خاصة الاتجاهات الإسلامية، عليها أن تتوقف قليلاً، وأن تراجع نفسها وتراجع فكرها، وتراجع ما قدمته وما لم تستطع أن تقدمه، بعد ذلك يمكنها أن تتفاعل مع تجربة الأستاذ، لكن في هذا الفوران الهائل الذي نجده -لا أدري- قد يكون الأمر مختلفًا. فكر الأستاذ يحتاج إلى شيء من الهدوء حتى يفهم. ينبغي ألا يقرأ ككتاب اعتيادي، لأن هذا الفكر فيه خلاصة تجربة، هو تجربة مشروع حضاري عظيم. مشروع الخدمة يقوم بعمل عظيم في كل مجتمع حل فيه. مجرد كلمة «الخدمة» هذه، دليل على أن القوم يريدون خدمة المجتمع، يريدون سعادة المجتمع الإنساني من خلال بعث الإيمان في قلبه، وإقامة الفضيلة في سلوكه. الأستاذ فتح الله كولن هو عملاق الفكر الإيماني الانبعاثي والحضاري في هذا العصر. ولا أقول هذا مدحًا أو ثناء، وإنما إدراكًا للحقيقة وأداء للأمانة. هذا ما أؤمن به وأعتقده.
نوزاد صواش
أشكركم على هذه اللفتات الفكرية العميقة.
أديب الدباغ
بل أنا أشكركم لأنكم أتحتم لي فرصة للحديث عن مدرسة فكرية عظيمة.
المصدر: نسمات، الإصدارة الأولى، نوفمبر ٢٠١٦
Leave a Reply