بات الحديث عن الأستاذ فتح الله كولن “خوجَه أفندي”، وتعريف الإنسانية بالنموذج الحضاري الذي يبشر به ويدعو إليه أمرًا ضروريًّا، وفعلًا لازمًا، ذلك لأن الخدمة فكرة، هذه الفكرة آمن بها الناس واقتنعوا بمعقوليتها ومصداقيتها، واكتشفوا أدوارها الطلائعية ومجالاتها الإبداعية في خدمة الإنسانية وتفعيل أحكام الدين الإسلامي وتحقيق مقاصده، بما هو محبة وعدل ورحمة وتعايش وسعادة.
كل من درس -بموضوعية- أفكار الأستاذ كولن، أو اطلع على كسب حركة الخدمة وإنجازاتها، يخلُص إلى أن هذا الرجل مجدِّد وملهِم وملهَم وباعث، وأن هذه الحركة تقدم نموذجًا حضاريًّا يجيب عن أسئلة الأزمات التي تتخبط فيها البشرية، ويضع بين يدي البشرية بديلاً شموليًّا، في ظل عجز النماذج القائمة في الإجابة على المشكلات الإنسانية الحارقة.
وانطلاقًا من الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه الرسول e: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود)، فإن الأستاذ كولن استطاع أن يكتشف موطن الخلل في حركة تجديد الدين، التي جعلت الأمة الإسلامية خارج دائرة التأثير العالمي والريادة الحضارية ردحًا من الزمن. والخلل متمثل أساسًا في عدم القدرة على الجمع الخلاق بين: الفهم والفعل/العلم والعمل/الفكر والسلوك/قيم الدين ومسالك التدين. واستطاع أن يحرِّر ذلك المخزون التراثي الهائل من الرؤى والأفكار والمناهج والقيم والأخلاق التي تزخر بها المرجعية العليا للأمة، في انسجام وتناغم تام مع متطلبات العصر ومستجداته.
بهذه الرؤية وبهذا الأفق استطاع فتح الله كولن “الارتحال من فقه النازلة إلى فقه النهضة”، فكولن يحتل اليوم مقدمة الصفوف بين صفوة العلماء والمفكرين الذين جعلوا من قضية الإصلاح والانبعاث همهم الأوكد، وشاغلهم الرئيس، يحدوهم إلى ذلك حس ديني يملأ الصدور، وإرث حضاري شواهده العينية الفخيمة لا تفتأ تستنهض الإرادات، وتذكر أهل النعرة بأمجاد الماضي، وتشرع في وجوههم آفاق مستقبلٍ معالمُه مرسومة، إذ هو طريق مهيَّأ لأن يمضي بلا انقطاع ولا انحراف، ويسترسل وفيًّا للروح التي كفلت للأمة العزة التاريخية والريادة الحضارية في العالم.
والأستاذ كولن يؤكد بأنه لا خيار للأمة إلا تجديد ذاتها فالانبعاث أو التقليد فالاندثار: “والأمر الوحيد الذي يقع على عاتقنا اليوم، هو أن نُهرَع دون هدر للزمن إلى أخذ موقعنا في التوازن الدولي بشعور جاد بالمسؤولية وانطلاقًا من هويتنا الذاتية. في الحقيقة إننا قد نعجز بوضعنا الحالي عن بلوغ الغد، بَلْهَ التقدمَ والتطور إن لم يكن لنا هدف على هذا النحو. أجل، ليس أمامنا اليوم إلا أحد خيارين: إما سعي مستميت فانبعاث. وإما خلود إلى الراحة فاستسلام للموت الأبدي”.
ومن ملامح التميز في المنهجية التجديدية عند الأستاذ كولن، نذكر ما يلي:
1- الانتقال من التجديد القاصر الجزئي -الذي ربطه الفقهاء بالفقه والفتوى والأصول- إلى التجديد الشمولي -الذي يشمل الدين فهمًا وتنزيلاً- بالتركيز أولاً على تجديد الإيمان في النفوس. فالإيمان -عند كولن- هو تلك الطاقة التي تحرك ورثة الأرض، وتساعدهم على تسخير كل الإمكانيات إعمارًا للأرض ورحمةً بالخلق.
2- الانتقال من المجدِّد الفرد إلى المجدِّد المؤسسة: أو بناء ما سماه الأستاذ كولن بـ”الوعي الجمعي” وذلك من خلال انخراط كل النخبة في مشروع النهضة والانبعاث، وقد حدد له جملة من الشروط أهمها:
– ينبغي على الأمة جميعًا وبالأخص على النخب والمثقفين منها، أن يؤسسوا “سلامًا” بينهم وبين تاريخهم.
– إن كل حركة تجديدية وعملية تغييرية تم وضعها من أجل إنشاء المستقبل، ينبغي أن يتم التخطيط لها بناء على مقوماتنا التاريخية وجذورنا الروحية.
– يجب أن يوضع في الحسبان أن المساعي والجهود التي تصب في هذا الاتجاه قد تعترضها بعض المضاعفات الجانبية المفاجئة حتى وإن تم اتخاذ التدابير اللازمة. ومن ثم ينبغي السير بحكمة وبصيرة.
– إن جميع القرارات وكافة الأفعال المتعلقة بأي مشروع في هذا الإطار، ينبغي أن تزود بالعلم والخبرة والمعرفة والتخطيط، وكل مبادرة ينبغي أن تزود بالدراسات العميقة والبحوث الدقيقة والاستيعاب الشامل حتى لا نقع في دائرة مفرغة من الهدم والبناء.
3- الانتقال من إحياء علوم الدين إلى إحياء علوم الدنيا والدين: إذا كان الإمام الغزالي حجة الإسلام(م505ه) مجدد القرن الخامس قد انبرى لتجديد الدين من خلال مؤلفاته وخاصة “إحياء علوم الدين”، فإن الأستاذ فتح الله كولن قد تنبه إلى أن مفهوم التجديد الكامل والإحياء الشامل الذي يستوعب الدين والدينا، الروح والجسد، الفكر والسلوك، العلم والعمل، العقل والقلب، الفرد والمجتمع، هو القمين بتحرير الطاقات واستثمار كل الإمكانات، واستئناف دورة حضارية جديدة تكون لقيمنا الذاتية فيها المرجع والموجه.
4- توريث المنهج التجديدي الإحيائي: إن أهم ما يميز الرؤية التجديدية للأستاذ كولن هو ذلك الأفق الواسع الذي مكنَّه من فقه النص وفقه الواقع في توليفة بيداغوجية تنزل أحكام النص على الواقع تغييرًا وإصلاحًا، الأمر الذي ضمن استمرارية هذه المنهجية الخلاقة في توليد نماذجها من ذاتها، وذلك لا يتأتى إلا من خلال توريث هذا المنهج للأجيال المستقبلية.
5- إعادة صياغة الإنسانية من جديد، وذلك ببناء الإنسان الجديد: “الإنسان الجديد يملك طاقة بنّاءة وروحًا مؤسِّسًا، يبتعد عن النمطية بشدة، يعرف كيف يجدد نفسه مع الحفاظ على جوهره، ويعرف كيف يروّض الأحداث فتأتي لأمره طائعة خاضعة. يسبق عصره فيسير أمام التاريخ قدُما على الدوام بهمّة تتجاوز حدود إرادته، وشوق عارم وحب عميق واعتماد بالله عظيم. إنه مثال للتوازن التام بين الأخذ بالأسباب والاستسلام لرب الأسباب. مَن رآه دون معرفة به، ظنه عابدًا للأسباب أو معطِّلاً لها؛ بينما الحقيقة ليست هذه ولا تلك. لأن الإنسان الجديد، بطل التوازن بكل ما تعنيه كلمة التوازن؛ فهو يرى أن الأخذ بالأسباب من واجبه، والتسليم للحق تعالى من صميم إيمانه.
وختاما، أرجو أن أكون قد وفقت في تقريب بعض ملامح التميز المنهجي في الرؤية التجديدية والأفق الإحيائي عند الأستاذ فتح الله كولن، من خلال ما عرضته. والله ولي التوفيق
Leave a Reply