“انـزل أيها الخطاب الأزلي الإلهي… انـزل وكأنك نازل من العرش… انـزل لكي تستفيق القلوب وتتفتح عيونها على العالم الأحمدي النوراني مرة أخرى. أيها النور الذي تجليتَ في قلب فخر الكائنات، أيها الكتاب الذي كنتَ مرآة لوجهه الحقيقي الـذي تخجل منه الشموس… اهتف بأرجاء الأرض… اهتف لكي يتردد صوتك في الخافقين… ولكي تمتلئ السماوات بأنفاسك… اهتف لكي يصمت الخطباء المزيفون، ولكي تخرس الألسن الزائفة” (ترانيم روح). هكذا صدح الأستاذ فتح الله معبرا عن بعض ما يعتريه حيال القرآن الكريم.
الأستاذ كولن جدد فينا اليقين بأن ما آمنا به من نصوص قرآنية وسيرة محمدية يمكن تنزيلها إلى الواقع.
صدمة الاكتشاف
لن أكون وحيدا إن اعترفت بالتيه بين أعمال الأستاذ محمد فتح الله كولن في كل الميادين. ولن أكون وحيدا كذلك إن عبرت عن إعجابي بهذه الأعمال من بين ما أنتجه غيره من المصلحين، أعلام الفكر والمعرفة في شتى الميادين. وعليه فقد وجدت نفسي تائها حول وداخل هذه الأعمال الجديدة الفريدة.
وحتى لا تطول بي لحظات التيه الممتلئ بالحبور صوب ما يفعله هذا الرجل العملاق، آثرت أن أعبّر عن بعض من حبوري وأبوح بشيء لغوي، وأنا متأكد معترف بعجزي عن ترجمة أحاسيسي في هذا المضمار. كما أن عباراتي السطحية الباهتة، مهما حاولت ستبقى بعيدة عن مسايرة عباراته العميقة الرنانة، كبعد أسلوبي الركيك المرتبك عن أسلوبه الشائق الدفاق. لكن قناعتي بعظمة هذه التجربة وإيماني بنجاعتها، ورغبتي في إطلاع الناس عليها، كل ذلك جعلني أتحمل تبعات فعلتي، متمنيا أن يشفع لي خالص نيتي وصدق طويتي حيال كافة الناس وخاصة بني أمتي.
بالقدر الذي ترى كولن يُولّد المصطلحات، تجد المعاني بين يديه طيعة رقراقة تنساب في جداول عباراته.
منذ أن شرُفت بزيارة الديار التركية رفقة بعض الأطر الأكاديمية من جامعة شعيب الدكالي، واطلاعنا على بعض من آثار “حركة الخدمة الإيمانية” هناك، أُصِبتُ شخصيا بزلزال فكري وعاطفي شديدين، وذلك لما سمعت و رأيت من آثار تسُرّ كل عاقل أو حامل لقلب سليم.
بين الاستحالة والإمكان
وأعتذر للقارئ الفضيل إن زعمت أني أستاذ باحث متخصص في العلوم الشرعية، وأني خبير بجُلّ التوجهات والحركات الإسلامية، ولديّ من الهمّ السياسي ما جعلني من أهله. لكل ذلك أشهد أني وجدت نفسي تلميذا مبهورا أمام عمل وعطاء جيل جديد من خريجي وأبناء حركة الأستاذ فتح الله كولن “حركة الخدمة”، أما شيخهم فهيهات هيهات…
لقد صُعِقتُ لما رأيتُ من واقع ومنجزات ومناهج في العمل، كنت قبل رؤيتها و الاطلاع عليها أعُدّها من الأحلام البعيدة المنال. واقع جدد فينا الأمل بأن تَمثُّل الدين كما عاشه أسلافنا الكرام ليس أمرا مستحيلا، بل هو ممكن مع شيء من العزم وكثير من الإيمان. واقع جدد فينا اليقين بأن ما آمنا به من نصوص قرآنية وسيرة محمدية ممكن التنزيل، لكن وفق منهج قويم. واقع أرجع إلينا الثقة بأن تزكية الروح شرط لتزكية الواقع، لكي ترفرف السعادة فوق ديارنا من جديد. واقع أزال الغشاوة عن أعيننا لنرى أن علامات إرجاع الإرث الضائع، وتحقيق التقدم، واحتلال الصدارة، وقيادة العالم من جديد، بدت جلية للعيان وفي كل مكان. واقع زاد يقيننا في أن ديننا الحنيف صالح لكل زمان ومكان، خلافا لما تصدح به أصوات بعض الغربان.
لكل هذا وغيره من الآيات السارة، وجدتني غارقا في بحر فكر هذا الرجل الكبير الذي كان ولازال وراء مشروع نموذجي.. رجل يصرخ في صمت عبر أمواج فكره بعضها فوق بعض ويدعو أن هلموا إلى واقع جديد.
شخصية موسوعية
استطاع كولن بفهمه الرشيد أن يغير واقعا ظن كثير من الناس أنه قدر محتوم.
إنه الأستاذ الألمعي المجدد الموسوعي، صاحب الثقافة الواسعة، والرؤية الثاقبة والمناهج الحسنة، الشيخ الرباني والفقيه الحقاني، الفيلسوف الحكيم والمربي الرحيم، المرشد البليغ والخطيب المفوه، صاحب الأفكار النيرة والتواليف الخيرة، والاجتهادات الجريئة والمشاريع الزاخرة، مفخرة المسلمين، مجدد العصر، إنه “محمد فتح الله كولن”. ولولا البعد عن مطلبي في هذا المقام، لما وسعت السطور العَجلى ألفاظ التعبير الطائش، عما يجيش في خاطري تجاه هذا الرجل الهمام، وما هو أهل له من دراسة لفلسفته المستنيرة بنور هذا الدين العظيم، وفهم لفكره المركوز في جوانب أركانه، وغوص في كتاباته الفيحاء بنسماته، وتنزيل لفقهه الضارب أطنابه في النهل من الهدي النبوي الزاخر والمنهج الراشدي الزاهر.
وأنا أعرف جيدا بأن الأستاذ كولن لن يقبل مني هذا الإطراء، لما نعلمه فيه و عنه من سجايا، لن تزيده في عيوننا إلا شموخا. لكن خُلق الوفاء الذي أشعر به تجاه ما قام به هذا الرجل من بعث للنفوس، و شحذ للهمم، وفتح للآمال أمام أمة أتعبتها التجارب وطال بها انتظار غد أفضل.
ونظرا لعجزي عن مسايرة وفهم كل أعمال هذا الرجل المجدد، فقد انشغلت بالتنقل في ساحات أفكاره العبقة وأريج آرائه الفواحة، وكلما أعجبت بحقل قطفت من يانع آرائه إكليلا، فوجدتني اليوم وسط أكوام من القطوف الدانية في جل ميادين الفكر والثقافة والعلم والتربية.
القرآن وفتح الله كولن
إذا كان القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، فإن فهمه يعد غاية المنى عند المسلمين في هذا الكون الرحيب. فكل المؤمنين مقتنعون بأن الكتاب المحمدي هو نُورُ طريقنا وشفاءُ عِللنا. ورغم ذلك نجد الكثير من بني قومنا اليوم يعيشون في ظلمات بحر لجّيّ، حيث يوجد عدد لا يحصى من الأفراد والجماعات يُعانون من العلل والجراح حتى عمّت آلامها كل ساحة.
ورغم تعدد المحاولات عبر الأزمنة والأمصار لتلمّس هذا النور والحصول على ذلك الشفاء، من طرف أعلام أجلة، إلا أن ذلك لم يقع بعد العصر النبوي وزمن الصحابة الكرام إلا لماما. وفي عصرنا الحالي ورغم تعدد المحاولات وغزارة التجارب، للبحث عن ذلك النور القرآني والشفاء الرباني في الفكر والثقافة والدعوة والسياسة لم نجد بعد ما يشبع العيون الجوعى، حتى استوقفني فهم الأستاذ فتح الله كولن للقرأن الكريم وتفسيره لعدد من آي القرآن الحكيم، فوجدته مجددا مبدعا، و مدققا مطلعا، ومفسرا بارعا. وبالقدر الذي تراه يُولد المصطلحات تجد المعاني بين يديه طيعة رقراقة تنساب في جداول عباراته وكأن الرجل ينهل من بحر لا ساحل له.
ولكن كل تلك الجودة لم تنل مني بالقدر الذي أسَرَني سحره للقلوب قبل العقول، حين معانقة المباني القرآنية للمعاني الرحمانية في أسلوبه الرائق، وتدرجه الشائق، في مختلف العوالم وهو يَسبح بالقارئ من عالم إلى آخر وكأنك معه في حديقة غناء لا تمل السياحة بين مبانيها ولا السباحة في معانيها.
كولن يرفع شعار الرحمة بدل الصراع، والتعاون بدل القوة التي ابتليت بها البشرية اليوم.
التنظير والتنزيل
كل ذلك من خلال منهج عذب ينتقل بالقارئ من تنظير مألوف، إلى تنزيل استعصى على كثير من بني عصرنا، رأيته بين أفكاره طيعا ثم واقعا معاشا كأنه طيف أحلام.
بهذا المنهج السديد، وبالرغم من الابتلاء الشديد، استطاع هذا الرجل تخريج جيل فريد عز نظيره بين أجيال اليوم، وبهذا الفهم الرشيد استطاع هذا الرجل أن يغير واقعا ظن كثير من الناس، إلى عهد قريب، أنه قدر محتوم…
إنها فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم، جعلها الأستاذ كولن حصاد اطلاعه الواسع وخبرة السنين.. فلسفة ترفع شعار الرحمة بدل الصراع والتعاون بدل القوة التي ابتليت بها البشرية اليوم، وخاصة أمة المسلمين.. فلسفة تجمع بين أصول الأمة ومحاسن باقي الأمم.. فلسفة تتغيا انخراط الجميع في مشروع عالمي إنساني لا يفرق إلا بين ما فرق الله بينه، من عقائد وأجناس وألوان إنسانية.. فلسفة تنطلق من الذات وتعود إليها بروح جديدة، تسربلها من أجل التأصيل و البناء والتعمير وخدمة الناس كل الناس.. فلسفة تجعل رضا رب الناس سبحانه و تعالى، فوق كل اعتبار. هذا الرضى هدف رفعه الأستاذ فتح الله كولن شعارا له من بداية دعوته إلى اليوم، لا يتبدل ولا يتغير مهما كانت التبعات.
المصدر: فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم، د. عبد المجيد بوشبكة، المغرب