توطئة: لقد تعمدنا التوسع في هذه المعطيات لأهمية ما تقدمه من معطيات عن طبيعة المجتمع التركي ، وطبيعة التفاعلات المجتمعية المؤثرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في المشهد الفكري والثقافي. فمن الأكيد أن أفكار الإصلاح ومشاريعه لا تعرض إلا بالارتكاز على اقتناعات فكرية محددة وإن كانت تراعي حتما المشروع الوطني بالنسبة للبعض، لكنها قد تركز على مصالح فئة ضيقة هي مصالح الجماعة الدينية أو مصالح الجماعة الإثنية في إطار عقدي أو في إطار لغوي. ومشهد فكري هذه شخصيته وطبيعته يخفي صراعا فكريا لا تدرك معالمه إلا من خلال البحث بين السطور والتدقيق في الأبعاد الاجتماعية والثقافية والفكرية لمشاريع الإصلاح في مداها القريب والبعيد كذلك. ومن هنا كذلك فإن أكثر المشاريع استدعاء لاهتمام الباحث والمهتم هو تلك المشاريع التي تستطيع تجاوز كل المشكلات والعوائق، وتترفع عن الخوض مع الخائضين، مركزة على ما يخدم المشروع الوطني بغضّ النظر عن فئاته وإثنياته وجماعاته اللغوية والثقافية والسياسية والدينية وغيرها. وذلك بطرح رؤى تحتضن الجميع ولا تقصي أحدًا وتفتح ذراعيها للجميع في دائرة حوار بناء يخدم المصلحة العامة.
إن الوقوف على أهم التشكيلات البشرية والعقدية واللغوية، يتيح الوقوف على أهم التحولات، التي عرفها المجتمع التركي بعد سقوط الدولة العثمانية، وهي تحولات أدّت فيها السياسة دورًا مركزيًّا، الأمر الذي يجعلها جديرة بالدراسة والتحليل وخاصة التحولات الثقافية والفكرية، والتحولات المرتبطة بها.
لهذا فإن التعرض لأهم معالم الفكر الإصلاحي، ولأهم المقومات الحركية للفاعلين الأكثر حضورا في المجتمع التركي يفرض أولا التعرض لأهم المؤثرات التي أفرزت الواقع الذي تعرف به تركيا اليوم، لأن الحاضر ظِلّ للماضي، والأحداث التي عرفتها تركيا منذ ما يزيد عن مائة سنة قد أثرت بصورة مباشرة في الواقع في صورة تركيا اليوم، والجدير بالذكر أن هذه الأحداث منها ما يمكن اعتبار تأثيره أمرا طبيعيّا وعضويا فرضته طبيعة الأحداث نفسها وقابلية المجتمع للتفاعل مع ذلك. ومنها ما يمكن اعتبار تأثيره تأثيرا مصطنعا.
ومن هنا فإن مجموعة من الأسئلة تثار في هذا المقام، منها: ماذا خسرت تركيا بسقوط الخلافة العثمانية؟ وماذا كسبت؟ أو بالمقابل ماذا قدمت الكمالية لتركيا من عناصر إيجابية وماذا سلبتها؟ وهل هناك عناصر سلبية قدّمتها الجمهورية للواقع التركي؟ وإذا كانت الكمالية قد حجبت التحولات الأخرى التي عرفها المجتمع التركي، فما طبيعة المقومات الأخرى التي استطاعت المحافظة على شخصية المجتمع التركي دون صراع مع قيم الجمهورية والنظام العلماني؟
هذه أسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عن بعض المعطيات المرتبطة بها دون توسع لأنها ليست هي هدف هذه الدراسة. لكنها تضيء جوانب من هذه الدراسة.
1– صنع مجتمع جديـد
إن بناء مجتمع عملية طويلة ومضنية، وهي في كافة الأحوال ليست مسألة إرادية، أي إن بناء مجتمع والصبر على نموه بصورة طبيعية يحتاج إلى وقت طويل، إذ تحتاج عملية اكتمال الهيئة إلى وقت معقول لا يمكن لإرادة البشر أن تتدخل فيه بعملية قيصرية تفرض التحولات بالقوة، وتحدد الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع، لأن التدخل بهذه الصورة هو بمثابة فرض الأداة والنتيجة في الآن معا. أجل قد يُقبَل أمرُ فرض الوسيلة، لكن أن يتم تحديد النتيجة مسبقا والعمل على فرضها، فهذا مما تأباه السنن الكونية وترفضه وتمجه.
لقد سعى دعاة العلمانية و”الحداثة والتحديث” إلى صنع مجتمع جديد، وذلك قبيل انهيار الدولة العثمانية. فالمجتمع الجديد الحداثي الذي تاقت إليه النخب المثقفة في الدولة العثمانية وعملت من أجله، لم يكن ثمرة تحول اجتماعي عام تلمس معالمه في ذهنية مختلف فئات المجتمع، بل كان عبارة عن إرادة “قصدية مسبقة لصنع “أمـة” أو “قومية” وصولا إلى صنع مجتمع يقول عبد الرحمان الشهبندر في نص له يعود إلى عام 1934م: “أما وقد خطا الأتراك هذه الخطوات الواسعة في الميدان السياسي فلا عجب أن تتناول حربهم التجديدية الميادين الدينية والاجتماعية والتشريعية وما إلى ذلك من الأوضاع الأدبية، فالأساليب التي نجحت في الحرب وحققت للترك استقلالهم السياسي استهوتهم أيضا في هذه الميادين”.
يشير هذا النص -كما نصوص أخرى شبيهة- إلى أن قضية التغيير لم تكن حالة طبيعية فرضها التطور المنطقي للواقع الاجتماعي وإفرازا منطقيا لتحول حقيقي عبرت عنه طبقات واسعة من المجتمع التركي، بل كان مجرد وقائع أرادت فئة ما فرضها على المجتمع بالقوة.. يقول عقيل سعيد محفوظ: “ورثت تركيا الراهنة تكوينا مجتمعيا متعددا وفسيفساء مركبا، ومن الصعب القبول أو التسليم بادعاء الأتراك أن دولتهم هي تجل سياسي لـ”مجتمع” أو “أمة” أو “قومية” بإطلاق أو حسب المعاني المعرفية لمسميات مجتمع وأمة وقومية… وليس معنى ذلك أن الخروج من سلطة الدولة يعني تلاشي “النزاعات القومية” لدى التكوينات الاجتماعية في تركيا وإنما يعني أن التدخل السياسي هو الذي قسر تلك التكوينات على التشكل “مجتمعيا” وفق خطة سياسية تدعمها المؤسسة العسكرية والأيديولوجية القومية التركية”.
سعت الكمالية منذ قيامها إلى بناء مجتمع غير محدد الهوية، باستثناء الهوية التي أرادتها الكمالية، معتبرة ذلك شرطا مركزيا من أجل بناء دولة تستطيع الاستمرار في الوجود مع القدرة على الاندماج في المدنية الحديثة وفق نموذج يستلهم الحضارة الأوربية. وهذا الطموح كان يقتضي وجود نخب سياسية وثقافية وفكرية وعسكرية تؤمن بالمشروع وبضرورة فرضه بالقوة أو تزويده “بقوة إكراه واعتباره مهمة جوهرية لا تنفصم عن بنية الدولة”. ويرى البعض في هذا المشروع أنه “مشروع إكراهي”، فقد استعملت الكمالية كل الأساليب المتاحة لها بما في ذلك التخلص من الإثنيات التي يصعب إدماجها كالأرمن، واليونان. وذهبت إلى استبدال المسلمين بالمسيحيين اليونانيين مع دولة اليونان، والنتيجة أن أغلب التكوينات صارت تؤمن بأن الدولة التركية والكمالية هي الحل، الذي يحل المشاكل أو بالأحرى يؤجلها. لكن السؤال العالق هو هل نجحت الكمالية في خلق هذا الجو المجتمعي، وهل نجحت في ترسيخه؟
لقد كان هذا الاختيار نتيجة منطقية لما استوردته الكمالية عن مفهوم المجتمع من الغرب وهو ما أدى إلى تشكيل مجتمع هجين، أو شبه مجتمع، يتميز بوجود فارق كبير بين الواقع المجتمعي الذي توصل الكماليون إلى صنعه، والمجتمع المثال الذي كانوا يحلمون به. وعلة ذلك هي أن هذا المشروع لم يستطع رغم كل المحاولات النفاذ إلى صلب الرأسمال المعنوي الذي تشكل عبر صيرورة تاريخية طويلة تعتبر الحضارة العثمانية وما مثلته طرفا واحدا فيه ليس غير، لأن ما عجزت الكمالية عنه هو أنها لم تستطع أن تكون “نظاما عقديا أو أيديولوجيا واضحة. بمعنى أنها كانت مجرد صيحات تريد تحقيق نتيجة عاجلة دون أن تكون النتائج مؤسسة على مرام فكرية وثقافية دقيقة، ولهذا السبب فقد كان إلزاما على المعارضين للغزو الفكري والثقافي الغربي، والمعارضين للداعين إلى طمس كل معالم الهوية التركية، والرافضين للتحديث وفق النمط الذي شكلت معالمه القوى المعادية للدولة العثمانية باعتبارها عنصرا موحدا لراية المسلمين… كان لزاما على هذه القوى أن تنعزل لبعض الوقت لتعمل في هدوء على إعادة بناء ما تم تهديمه خلال عقود طويلة جدا، لقد أدرك المعارضون لهذا الغزو أن ما تعرض له المجتمع التركي هو أخطر من محاولة التصدي له بردود أفعال متسرعة، ولذلك رأى بعض أهل الحكمة ضرورة العمل على إعادة بناء ما تهدم في الإنسان في هدوء.
2– اليوم ظل الأمس
وما ستحاول هذه الدراسة تَبيُّنَه في الصفحات اللاحقة هو في الحقيقة رصد لأهم الوقائع والأحداث التي كان المجتمع التركي عرضة لها قبل أن تقوم الكمالية بالإطباق على المجتمع ومحاصرتِه والعمل على فرض مشروعها بالقوة والتسلط.. من خلال الإجابة عن أسئلة حول أحداث صَنعتْ تركيا الحديثة بكل تناقضاتها وبكل ما تحمله من عناصر سلبية وعناصر إيجابية.
إن اليوم ظل للأمس، فكيف بدأت الحملة التي أدّت إلى قيام الطوفان الكبير، الذي أسقط الخلافة ثم أقام الجمهورية. ولماذا سقطت الدولة العثمانية؟
يفسر بعض الدارسين العرب قضية سقوط الدولة العثمانية من خلال أفكار ابن خلدون (توفي 1406م بالقاهرة) ونظريته في الاجتماع؛ وذلك منذ أن انتبه العرب إلى أهمية أفكاره في بدايات القرن التاسع عشر. فرفاعة الطهطاوي الذي أقام في باريس بين 1826م و 1831م اكتشف أهمية ابن خلدون، ولذلك عندما عين مشرفا على “مدرسة الألسن” نصح بنشر “المقدمة”، ليتم ذلك في سنة 1857م. وعلى الرغم من أن العرب قد أعادوا التعرف على ابن خلدون خلال هذه المرحلة فإن الأتراك العثمانيين كانوا أحاطوه بعناية خاصة منذ وقت مبكر جدا مقارنة بالعرب، واستفادوا كثيرا من دروس “المقدمة”. فقد فتح التعرفُ على أفكارها البابَ لظهور العديد من الأفكار الإصلاحية، كما ارتكزت بعض الدعوات على هذه الأفكار. فقد نبه حاجي خليفة أو كاتِب جلَبي (المولود سنة 1607م والتوفي سنة 1657م) في كتابه المعروف “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” إلى أهمية كتاب ابن خلدون: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر من أيام العرب والعجم والبربر لقاضي القضاة عبد الرحمان بن محمد ابن خلدون الإشبيلي الحضرمي المتوفى سنة 808 هـ. وهو على مقدمة وثلاثة كتب…”. فعناية حاجي خليفة بابن خلدون لم تقف عند حد التعريف بالكتاب كما هو منهج كتابه “كشف الظنون” بل سيحاول الإفادة منه وذلك بتوجيه رسالة إلى “محمد الرابع” عنوانها “دستور العمل لإصلاح الخلل”، وكانت هذه الرسالة جوابا على السؤال الذي وجّهه السلطان لمعاونيه للبحث عن أسباب الخلل المالي الذي أصبحت تعاني منه الدولة. يقول حاجي خليفة: “إن الدولة مثل الأفراد تمر بثلاث مراحل: النمو، والركود، ثم الانحطاط”.. ويمضي مبيّنا أن الدولة العثمانية قد عاشت طويلا وبأن مرحلة الركود قد مضت بهدوء وبأن مراحل المرحلة الثالثة قد ظهرت ملامحها، لذلك يلزم إصلاح الخلل قبل فوات الأوان، يقول حاجي خليفة شارحا وجهة نظره: “ومن علامات الشيخوخة عند الرجل، الكسل وسوء الهضم، وكذلك هو شأن الدول.. وكما أن المرء عندما يشيخ يصبح أبيض الشعر، ففي مرحلة انحطاط الدول يزداد الترف والأبهة وتنتشر الألقاب في كل مكان، ويزداد تشبه الناس في ملابسهم وأثاث بيوتهم بالعامل فيزداد الإسراف”.
يبرز هذا الكلام الصادر عن أحد أهم مثقفي الدولة العثمانية في بداية القرن السابع عشر أن خاصة المجتمع كانت تدرك أن خللا قد أصاب الدولة وأنه بات من الضروري البحث عن أسباب لذلك من أجل تدارك الحال، كما يبين النص كذلك أن السلاطين أنفسهم كانوا يحملون هم الإصلاح ويدفعون في هذا الاتجاه. ومن هنا نلاحظ بأن حاجي خليفة يستعير مفاهيم ابن خلدون عن نشوء الدول وقوتها ثم انحطاطها، موظّفا ذلك كله من أجل المساهمة في الإجابة عن أسئلة المرحلة.
يذكر خالد زيادة في مقاله جملة من العلماء والمفكرين المنتمين للقرن السابع عشر والثامن عشر الذين استفادوا من فكر ابن خلدون، وخاصة فيما يتعلق بنشوء الأمم والدول وانحطاطها، وهو ما يؤكد بأن خاصة المجتمع كانت تعي الواقع، الذي انحدرت إليه الدولة العثمانية، وكانت تحاول بكل جهد البحث عن أجوبة مقنعة للأزمة الوجودية التي وصل إليها الإنسان في ظل الدولة العثمانية خلال هذه المرحلة، ومن هؤلاء العلماء يذكر: أحمد بن لطف الله المعروف بمنجم باشا (توفي سنة 1706م)، ومصطفى نعيمة وهو مؤرخ عثماني مشهور (1655م – 1716م)، وتميز بعمله على إعادة صياغة نظرية ابن خلدون عن حتمية تدهور الدولة بالإشارة إلى أن الدولة العثمانية تستطيع الخروج من انحطاطها أو الخروج من الطور الخامس، فتمنع التدهور النهائي من خلال وجود ساسة أذكياء محنكين، من “عاقلي الذات” الذين يعملون وفق “سنة الله” لمنع انحطاط الدولة ووقفه.
تُرجِم كتابُ ابن خلدون إلى اللغة العثمانية منذ مطلع القرن الثامن عشر وهو ما أتاح للأتراك الذين لا يعرفون العربية الاطلاع على أفكار ابن خلدون، وتوظيفها في دعواتهم الإصلاحية وربما حتى الترويج لفكرة حتمية نهاية الدولة العثمانية. وقد تزامن ترجمة “المقدمة” مع الاعتراف الصريح للسلطة الحاكمة أحمد الثالث (1705-1730م) بتدهور الدولة وضرورة العمل على إصلاح عسكريتها. وفي القرن التاسع عشر صارت أفكار ابن خلدون عن طريقة الترجمة معروفة لدى عدد من المفكرين والمؤرخين الأتراك كخَير الله أفندي (متوفي 1865م) الذي أكّد في كتابه التاريخي الكبير (32 جزءا) أن مواجهة الانحطاط يجب أن تكون بغير الاعتماد على سلالة مالكة.
الشاهد فيما تقدم هو أن الشعور بأن الدولة العثمانية القوية لم تعد كما كانت وبأن مرحلة الانحدار قد ظهرت بوادرها، كان شعورا عاما وإحساس عدد كبير من المثقفين بتعبير هذا العصر، والعلماء بالتعبير السائد آنئذ. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فحتى السلاطين لاحظوا هذه الوضعية، ومنهم من دعا صراحة إلى ضرورة البحث في تحديد أسباب العلة ومكامنها، ولم تكن هذه الوضعية لتمرّ دون أن يلمس علماء الدولة العثمانية وأهل السلطان والسياسة أن خصما قريبا جغرافيا يقف على الحدود، وبأنه يترقب، وأن بوادر تفوقه بدأت تلوح وصارت ظاهرة للعيان، ولا يمكن القفز على ذلك.
3– صدمة اكتشاف تفوق أوروبا المسيحية
متى اكتشف العثمانيون تفوق أوربا المسيحية على المسلمين؟ سؤال مهم جدا لأن جوابه صادم، فلقد اكتشفت المسلمون بصفة عامة والدولة العثمانية على وجه الخصوص بما في ذلك السلاطين وأهل الحل والعقد هذا التفوق منذ وقت مبكر جدا. فكما أشرنا في كلام سالف فقد كتب حاجي خليفة سنة 1653م رسالة يشرح فيها أسباب تدهور الدولة أطلق عليها عنوان “دستور العمل لإصلاح الخلل” وهي رسالة جوابية على طلب السلطان محمد الرابع بالبحث في أسباب الاختلال المالي والاقتصادي الذي باتت تعاني منه الدولة.
لعل أهم ما ساهم في تدهور الدولة العثمانية ودخولها في الطور الثالث حسب نظرية ابن خلدون، هو أمر تدخل الانكشارية التي كانت -ولوقت طويل- أحد دعائم القوة في الدولة العثمانية في شؤون الحكم، وانحرافها عن المرامي التي أنشئت من أجلها وهي الدفاع عن حدود الوطن، وهذا هو ما يُستَشفّ من بعض المصادر، التي تعرضت لعلاقة العسكر وخاصة الانكشارية بأهل السياسة وفي مقدمتهم السلاطين. وكمثال على ذلك نجد “قُوجِي مصطفى بك” -وهو ألباني جاء إلى القسطنطينية في سن مبكرة وعاش في القصر السلطاني في حقبة كانت الدولة ما تزال قوية- يوجه رسالة في هذا الموضوع إلى السلطان مراد الرابع. فقد عاصر قوجي بك هذا مرحلة تاريخية عُرِفت بتسلط الانكشارية وعجز السلطان عن إطلاق إرادته في الداخل والخارج. يقول خالد زيادة: “..الحادث الهام الذي شهدته القسطنيطينية في تلك الحقبة هو صراع السلطان الفتى عثمان الثاني مع الانكشارية ومقتله. ولد عثمان في سنة صعود والده إلى العرش في عام 1603م، وبعد وفاة أحمد الأول عام 1617م تولى السلطنة شقيقه مصطفى، لكن عثمان الثاني المؤيد من شيخ الإسلام استفاد من ضعف عمه فخلعه وصعد إلى العرش في العام التالي 1618م، لكن السلطان الشاب الذي أراد أن يحكم بشكل مستقل فقد تأييد الانكشارية وتأييد العلماء وعطف العامة عليه، وقد تطورت الأحداث وازداد الجفاء بينه وبين زعماء الانكشارية حتى أدّت تنظيماته إلى ثورة قادها آغا الانكشارية انتهت بمقتله عام 1622م”. لكن معالم التدهور كانت آخذة في الظهور، لأن أول رصد لمعالم تدهور الإدارة كان في عهد السلطان سليمان القانوني (1520م-1566م) من خلال رسالة كتبها وزير سابق اسمه “لطفي باشا” وعنوانها “أصاف نامة”، يرصد فيها بعض معالم الأزمة ويقترح فيها على السلطان بعض الحلول.
بعد هذه الأحداث الأليمة تولى مراد الرابع شقيق عثمان القتيل منصب السلطان وكان سنه لا يتجاوز الحادية عشرة، واستمرت الانكشارية في التلاعب والتحكم في أمور السلطنة، وإحداث الشغب والتدخل في شؤون الحكم حتى اشتد عود مراد الرابع فاتخذ جملة تنظيمات بمساعدة أعوان شقيقه جعلت الكفة تميل لمصلحته، إذ بدأ خلال سنة 1632م يعبئ كل الطاقات بفاعلية لا تصدق من أجل الحرب ضد فارس.
هذه هي أسباب نزول رسالة قوجي بك، الذي أصبح يعتبر خلال هذه المرحلة مستشارا، بل ومربّيا لمراد الرابع كما يقول خالد زيادة، وقد رفعت له هذه الرسالة الأثر سنة 1630م، وانتبه إلى أهميتها بعد مرور حوالي مائة سنة من كتابتها، وكانت أول لغة أجنبية تترجم إليها هي اللغة الفرنسية، وكان ذلك سنة 1750م وترجمها بوتي دولاكروا “PETIS DE LA CROIX” وترجمت إلى العربية سنة 1826م تحت عنوان: “التلخيصات المتعلقة بتدبير أمور سلطنة الدولة العلية العثمانية” وطبعت لأول مرة في إسطنبول سنة 1861م، وتتميز الرسالة بسرد وقائع توحي حينا بالإيجابية، لكنها تخفي الإشارة إلى أن السائد على الوضع السياسي والاجتماعي هو عكس ذلك، ولا يتأخر قوجي بك عن إسداء النصح واقتراح ما يراه مناسبا لسلامة الدولة، ولعل أهم ما يقترحه هو أن تكون للسلطنة الكلمة الأولى والأخيرة وألا تفتح الباب لمن لا تسمح له التقاليد السلطانية بأن يتدخل في شؤون تدبير الدولة وخاصة الجيش. وتشير الرسالة إلى عدم السماح للغجر واليهود وغيرهم من الذين لا إيمان ولا دين لهم ولا شريعة بالدخول إلى القصر. ويعلق خالد زيادة على ذلك بقوله: “وتتلخص أفكار قوجي بك في تفسيره لأسباب الانحطاط على الوجه التالي: غياب السلطان عن رقابة “الحكومة” وتسليمه لأفراد حاشيته المناصب والمغانم، وعدم إخلاص الوزراء وتفضيلهم مصالحَهم على مصالح الدولة. والتخريب الذي لحق بالإقطاعات العسكرية… وقد كانت من قبل تمد الدولة بالمال والقوة المقاتلة، وأخيرا الفساد الذي لحق برجال الدين والجهاز التعليمي”.
إن أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الكلام أو من كلام “قوجي بك” هو إشارته إلى عدم بقاء المؤسسة السلطانية على التقاليد التي تمكنها من الإشراف المباشر على شؤون الدولة، وفتحها المجال أمام من لا تحركهم سوى المصالح الخاصة للتدخل في شؤون الدولة، بالإضافة إلى فتح المجال أمام غير المخلصين والمؤمنين والمعروفين تاريخيا بسوء طويتهم كالغجر واليهود من دخول القصر والتعرف على دواليبه والتحكم فيها. وتبدو هذه الملاحظة الأخيرة ذات أهمية كبيرة لأنها ستساهم بصورة مباشرة فيما بعد في سقوط الدولة وذهاب الخلافة وتشتيت الدولة العثمانية.
الشاهد فيما تقدم هو أن تنبيه المفكرين والمثقفين إلى ما كانت تعيشه الدولة العثمانية من بوادر الانحطاط، كان بدأ في وقت مبكّر جدا، وصاحب هذا التنبيه دعوات إصلاحية كثيرة توجهت على وجه الخصوص إلى أعلى سلطة في البلاد، وهي السلاطين، لكنها لم تبرح مكانها لظروف كثيرة ليس هذا مجال تتبعها.
لقد ارتبطت هذه التنبيهات والدعوات ببروز موضوع التعرف على التفوق الأوربي، لأن العثمانيين أدركوا التفوق الأوربي بحكم موقعهم المميز وكونهم أقرب الدول التي تدين بدين الإسلام إلى أوربا. ولما كانوا أول من أدرك التفوق الأوربي، فقد كانوا أول من حاول الاقتراب منه. في الوقت الذي تعتقد فيه فئات واسعة من المجتمع العربي أن العالم العرب وخاصة مصر أدركوا التفوق الأوربي قبل المركز في الدولة العثمانية، وأن سعي العالم العربي إلى الاستفادة من هذا التفوق كان أسبق زمنيا.
إن التنبيهات التي قدمها كل مِن قوجي بك، وحاجي خليفة، وحسين هزارْفَن (ولد 1601م – توفي 1681م) كان في سنة 1669م من خلال كتابه “تلخيص البيان في قوانين آل عثمان” تؤكد أن النخبة العارفة في المجتمع العثماني كانت على وعي بأن وضع السلطنة لم يكن على ما يرام، وكانت تحلم بإصلاح الوضع قبل فوات الأوان. وتأكد ذلك مع هزيمة الدولة وجيشها الانكشاري سنة 1699م في حربها أمام الروس والنّمسا وفقدانها للكثير من الأراضي، وهي الهزيمة التي أكّدت للطبقة الحاكمة أن التفوق الأوربي أمر واقع، كما أكّدت أن تلك التنبيهات التي تقدم بها المثقف التركي على مدى القرن السابع عشر كانت تنبيهات في محلها وكان يتوجب أخذها بعين الاعتبار.
4– عهد الزنبق (عهر التوليب)
كان السلطان أحمد الثالث ذا طبيعة خاصة، ميّالة إلى السلم، كانت شخصيته تخفي رغبة طماحة إلى إعادة بناء الدولة العثمانية على أسس سليمة تتجاوز الانحطاط، وكانت طبيعة الاختيار تقتضي مرحلة سلم تبعد المتربصين بالبلد وبالمسلمين على حد سواء، وقد تأتّى له ذلك عندما اهتدى إلى وزير يشاطره الرؤية نفسها وهو المصلح إبراهيم دَامَادْ باشا، وكان ذلك في سنة 1717م.. إذ كانت لهما رغبة كبيرة في معرفة أوربا من الداخل فأرسل السلطان سفيره محمد أفندي إلى أوربا عام 1720م، وإلى باريس تحديدا. ومن أهم منجزات عصر التوليب أو الزنبق هذا هو تمكن المسلمين من استعمال الطباعة إذ طبعت بها بعض الكتب.
كانت المطبعة دخلت إلى الدولة العثمانية قبل هذا العصر بوقت طويل، وكان اليهود أول من أدخلها حين سمح لهم السلطان باستعمالها في طبع كتبهم الدينية، وكان دخول المطبعة بصورة واسعة في سنة 1727م، وعهد لإدارتها لإبراهيم متفرّقة. ويعتبر كتاب “أصول الحكم في نظام الأمم” المطبوع سنة 1731م لمؤلفه إبراهيم متفرّقة -وكان أهداه للسلطان محمود (1730م – 1750م)- أول محاولة للتنظير للأخذ عن أوربا والاستفادة من علومها وتقدمها. والظاهر أن هذا الكتاب كان ألف في الفترة التي وقعت فيه الثورة على أحمد الثالث وعزله ثم عين محمود مكانه. يقول إبراهيم متفرّقة في مقدمة الكتاب: “وهكذا انسحبتُ إلى زاوية، وفي ظلام الوحدة استسلمت لأفكاري وتذوّقت بسلام راحة النفس ونعيم الحياة الخاصة حتى قامت عام 1143هـ – 1730م شمس سلطان البيت العثماني فوجدت ذهني قد توقف وامتلأ بالأفكار، كما امتلأ القلب بالألم لرؤية هذه العدوانية على امتداد تلك السنة والكوارث التي أحاطت فجأة بالدولة العثمانية”. والسلطان المقصود هنا هو محمود الأول (1730م-1754م) الذي وصل إلى العرش بعد ثورة الانكشارية التي أطاحت بالسلطان أحمد، وقتلت وزيره إبراهيم، بسبب ميوله الإصلاحية، واتجاهه إلى تحديث الدولة.
ومن أهم ما تتميز به مقدمة متفرقة تلك الإشارة الواضحة إلى التفوق الأوربي، يقول: “ما دفعني إلى عملي هذا والذي فوق طاقتي، وأبعد من حدود عقلي هو هذا الشعب المسيحي النجس (يقصد الأوربيين)، بمقارنته مع المسلمين إذ كان منخفضا جدا عن المسلمين في العدد وطبيعة جسمه وعقله، وهو جنس بائس. لكن منذ بضعة سنين انتشروا في كافة أرجاء العالم فلم يسيطروا على بعض المقاطعات فحسب، بل ظهروا عدة مرات منتصرين على الجيش العثماني”. فهذا النص واضح الإشارة إلى تفوق العنصر الأوربي، وفيه دليل على تراجع المسلمين عن دورهم الريادي. ويعلق خالد زيادة على محاولة متفرّقة بالقول: “وكتاب متفرّقة يتضمن أفكارا تجعله أكثر من محاولة لاستعراض علوم أوربا وتقدمها، بل هو محاولة للابتعاد عن الصيغ التقليدية للتفكير العثماني السائد والاقتراب من التفكير الأوربي حول مسائل الدولة والحكم والعلوم… ويدعو إبراهيم إلى ترجيح العقل في تناول مسائل الحكم؛ ويمكننا تلمس أثر عقلانية الغرب في تفكيره من خلال دعوته التي تستقطب فكرة الكتاب الرئيسية وهي الفصل بين دين الأعداء، الذي لم يكن من محبذيه على الإطلاق، وبين ضرورة الاستفادة من علومهم… ويمكن القول بأن كتاب “أصول الحكم في نظام الأمم” هو أول محاولة نظرية من نوعها تطرح مسألة الاستفادة من علوم أوربا العسكرية والإدارية واتباع طرائقها في الحكم والإدارة”.
وعلى العموم، فإن موضوع التعرف على التفوق الأوربي، وما سجله الرحالة والسفراء، وما سجله أدب الرحلة جدير بالاهتمام وهو من المواضيع التي تحتاج إلى الدراسة، مما نرجو أن يوفقنا الله للقيام به في المستقبل، في إطار دراسة أخرى.
إن موضوع دخول الدولة في مرحلة الانحطاط وسقوطها موضوع شائك ويحتاج إلى العديد من بحوث، ولكن مما لا بد من التعرض له هو ذلك الانقلاب الفكري وعملية التغريب التي كان الصرح العثماني مسرحا لها. ولعل من أهم المواضيع التي تثير الاهتمام في هذا المجال هو صعود التيار القومي وتيار التغريب، وتعجيله بتفكيك الدولة العثمانية، ومساهمته في سقوط الخلافة.
5– التيـارات القومـية
أ– التيار القومي العربي
يعتبر الشام هو المكان الطبيعي لتطور التيار القومي العربي الذي عمل الغرب المسيحي على دعمه، وإذكاء ناره وتوظيفه في بذْر بذور الفرقة والعداء بين العرب والأتراك العثمانيين. ولذلك تم التركيز على “العرب المسيحيين” من أجل تدبير هذا المخطط من خلال اللعب على وتر المشترك المسيحي بين أوروبا والعرب المسحيين في المشرق العربي وخاصة في الشام (سوريا والعراق حاليا).. بعبارة أخرى لقد “كانت الرابطة الإسلامية تغلب على العلاقات بين عرب الشام المسلمين وبين العثمانيين، بينما لا يجد النصارى في بلاد الشام أية روابط وصلات تربطهم بالعثمانيين، فكانوا والحالة هذه التربةَ الخصبة التي نبتت فيها الأفكار والجمعيات المعادية للدولة العثمانية، والتي استخدمت لتنخر جسد هذه الدولة وتسعى لإسقاطها”.
ويرى بعض المثقفين أن ظهور التيارات القومية وخاصة تيار القومية العربية، الذي ظهر في بلاد الشام على وجه الخصوص كان ظاهرة إيجابية ساهمت في نشر الوعي وعوامل اليقظة والنهضة. لكنها في الحقيقة لم تكن سوى عامل من عوامل التعجيل بسقوط الخلافة والتعجيل بدخول الاستعمار إلى أغلب دول العالم العربي، بل إن القومية العربية كانت وسيلة “لهدم ما كان بني وأسّس على قواعد ثابتة من التفاهم والعمل المشترك، الذي كان عنوان العلاقات العربية العثمانية خلال قرون سلفت، وكيف تكون عوامل نهضة ولم تأت بأي تقدم تكنولوجي أو مادي للبلاد العربية، بل جاءت بأفكار ومبادئ هدامة مخربة، سعى المبشرون الفرنسيون تحت راية الصليبية العالمية، وبرعاية الدول الرائدة في استعمار الشعوب كفرنسا وبريطانيا التي بثها ونشرها بين سكان بلاد الشام، كي تؤتي ثمارها وتزرع الفرقة والتباغض والتنافر بينهم وبين العثمانيين”.
ومن العوامل التي ساعدت على بلورة هذا الاتجاه الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، وما كان لها من آثار في مصر وبلاد الشام ثم باقي مناطق العالم العربي. يضاف إلى ذلك الإرساليات التبشيرية، التي أخذت تفد إلى المنطقة العربية وخاصة إلى بلاد الشام منذ القرن الرابع عشر الميلادي في صورة موجات، زيادة على تأسيس المدارس والكليات والجامعات العلمية، ثم دعم الجمعيات العلمية والأدبية وتأسيسها كـ”جمعية الآداب والفنون”، و”الجمعية الشرقية”، و”جمعية شمس البر”، و”جمعية زهر الآداب” و”جمعية المقاصد الخيرية”، و”الجمعية العلمية السورية” و”جمعية بيروت السورية”، التي تعد أول عمل منظم في حركة القومية العربية، وأسسها نخبة من الشباب اللبنانيين ممن تلقوا تعليمهم في الكلية الأمريكية البروتستانية في بيروت، وكانت تسير على خطى “جمعية العثمانيين الجدد” (يَنِي عُثْمَانْلِيلَرْ) التي كانت تدعو إلى قطع العلاقة بين العرب والعثمانيين، ثم “جمعية النهضة العربية”، وآخر ما أسس من الجمعيات الداعية إلى الانفصال مباشرة “جمعية رابطة الوطن العربي” التي أنشأها نجيب عازوري سنة 1904م الذي كان يوجه أفكاره من فرنسا التي كان لجأ إليها. ثم أسس خير الله “جمعية عصبة الوطن العربي” سنة 1905م، وسارت على مسار الجمعيات السابقة في الدعوة والتحريض ضد الدولة العثمانية. ويضاف إلى كل هذه العوامل التي ساهمت في انتشار الفكرة القومية العربية ضد الدولة العثمانية انتشار الطباعة والصحافة، والمعروف تاريخيا أن المسيحيين كانوا أول من وظف هاتين الوسيلتين في بلاد الشام على الخصوص في نشر الأفكار والتعبير عن مواقفهم. وإذا كان دافع دخول المطبعة إلى الشام دينيًّا يتمثل في طباعة الكتاب المقدس فإن هذا الهدف ما لبث أن تحول إلى دعم الصحافة القومية الانفصالية.
ب– التيار الطُّوراني
لم يكن هذا التيار المتنامي، والتخطيط المحكم الذي مارسه أعداء الدولة العثمانية والجامعة الإسلامية ليحصر نشاطه في الشام، بل كان يعي ضرورة أن يذكي نار القومية ونزعتها في مركز الدولة العثمانية نفسها بدءً من الآستانة وامتدادا إلى مناطق أخرى في الأناضول والبلقان وغيرها من المناطق، وكان السلاح الأقوى في ذلك كله هو “الطورانية”.
تعود نشأة حركة العثمانيين الجدد (يَنِي عُثْمَانْلِيلَر) إلى منتصف القرن التاسع عشر، وكان ذلك بعد بداية حركة التنظيمات، والتي انطلقت في عهد السلطان عبد المجيد عام 1839م، وكان اسم الجمعية التي تحتضنهم “ترقّي واتّحاد” ثم حولوها إلى “اتّحاد وترقّي”، وتمكّنوا في وقت وجيز من الوصول إلى المناصب العليا، واحتلالها ليدخلوا في صراع مع السلطة الحاكمة، وكانوا قبل ذلك قد أقاموا في العواصم الأوربية الكبرى كجنيف وباريس ولندن، وكتبوا العديد من المقالات المشهرة بالعثمانيين وبالسلاطين، والمنتقدة للدولة ولأوضاعها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وطالبوا السلطان بالسير بالدولة في طريق الإصلاح لمواكبة النظم السياسية في أوربا، بعد احتكاكهم بالغرب واطلاعهم على تراثه الفكري وتأثرهم بأفكاره. وكان أفراد هذا التيار قد انخرطوا في سلك “الحركة الماسونية العالمية” المسمّاة “البناء الحرّ” التي ظهرت في أراضي الدولة العثمانية منذ 1738م، وحاربها السلاطين العثمانيون، بتشريع القوانين التي تحظر على العثمانيين الانخراط في الجمعيات السرية، لما رأوا ما تشكّله الماسونية على الدولة العثمانية وعلى الأمة الإسلامية من خطر.
تلقى أغلب الذين تزعموا التيار القومي التركي تعليمهم في المدارس والكليات التبشيرية، التي أنشئت قبل ذلك في أهم المدن العثمانية، ككلّية “رُوبَرت” في إسطنبول، وثانوية “غلَطَه سَرَاي” وغيرهما.
كانت أغلب الجمعيات في بداية إنشائها حركات ذات أهداف إصلاحية تريد النهوض بالدولة العثمانية والخروج بها من الانحطاط، لكن يبدوا أن هذا الغرض المعلن كان مجرد ستار لكسب الوقت من أجل الدعاية وتجميع المؤيّدين والأنصار، ولتجنب رد الفعل لدى عامة الناس في أرجاء الدولة العثمانية. وقد كانت هذه الجمعيات تظهر أن مبادئ الحركة لا تتعارض مع الإسلام ومع القيم الإسلامية، حتى لا يجدوا مقاومة ومعارضة فيقضى عليهم وهم في البداية. ولا يدل هذا على أن السلاطين العثمانيين كانوا يجهلون مخططاتهم، بل كانوا يعلمون ذلك وكانوا يحاولون مداراتهم والحيلولة دون تمكّنهم من تنفيذ غرضهم بإعلان الجمهورية وإسقاط الخلافة، وقد أدى بعض السلاطين العثمانيين حياتهم ثمنًا لذلك.
ويذكر السلطان عبد الحميد في مذكّراته ما يشير إلى مخططات الإصلاحيين هؤلاء، يقول: “كنت أعلم أن كمال بك وضياء بك ورشدي باشا وآخرين من رفاقهم يجتمعون كل مساء في قصر مدْحت باشا يعاقرون الخمر ويتحدثون، وذات مرة قال مدحت باشا: “ليس في الأسرة المالكة العثمانية خير يرجى، ولم يبق إلا الاتجاه نحو الجمهور، تُرى كيف يمكن هذا؟…”. ومن يقرأ مذكّرات السلطان عبد الحميد بإنعام لا بد من أن يقف على مستوى دقة المخطط الذي كانت الماسونية تقوم به وتعمل على تنفيذه.
لقد “استطاع السلطان عبد الحميد بمتابعته وحرصه أن يقدم الدليل القطعي على أن هدف الماسونية العثمانيين هو إسقاط الخلافة وإقامة نظام علماني يستبق الإسلام عن الدولة العثمانية ويعلنها جمهورية يتولي الحكم فيها هؤلاء المنتسبون إلى “تركيا الفتاة” من الأحرار الماسونيين العثمانيين الجدد”. كانت النزعة القومية هي الوسيلة التي لجأ إليها هؤلاء من أجل تفتيت أطراف الدولة العثمانية، وخاصة النزعة الطورانية والنزعة العربية، لكن حنكة السلطان عبد الحميد الثاني أجّلت مخططات الجمهوريين ومخططات الإنجليز والفرنسيين لسنوات عديدة. وعموما فإن جمعيتي “الاتحاد والترقي” و”تركيا الفتاة” وقبلهما “العثمانيون الجدد”، قد أدّت دورا خطيرا في إسقاط الخلافة، والتحول بتركيا إلى عالم آخر هو عالم التغريب وعالم الجمهورية العلمانية. ولا يمكن القول إن هذه النتيجة كانت عمل يوم وليلة، بل على العكس من ذلك إنه نتيجة غزو فكري طويل نفّذه أعداء الدولة العثمانية في الداخل والخارج، وما سنحاول تبينه فيما يأتي من الصفحات هو الوقوف على طبيعة الغزو الثقافي والفكري، الذي كان المجتمع التركي عرضة له منذ القرن السابع عشر وربما قبله، وإن كان السلطان عبد الحميد قد وقف سدا منيعا أمام تطور النزعات القومية واستغلالها للإيقاع بين العرب والأتراك، كما يشهد بذلك الذين أرّخوا للمرحلة.
Leave a Reply