صباح كلِّ خميس، يلتئم الجمع، في حصَّة خاصة، بُرمجت بعد أسابيع من التحاقي بالأكاديميا، وكان الغرض منها هو “المساعدة وتوفير الجو المناسب للتأليف”، كذا “المطالعة الجماعية لما كتبتُ بحر ذلك الأسبوع”، بغية نقده، والملاحظة عليه، واقتراح نصوص جديدة، أو ترجمة نصوص، في الموضوع الذي أشتغل فيه.

ولقد كان الاستماع الجيد من الإخوة، لما أكتبُ، مع قلَّة بضاعتي، وكثرة زلاتي… كان هذا الاستماعُ بمثابة “مرآة” يقيس عليها الكاتب حقيقةَ ما كتب، وهنا انتقلتُ بالذاكرة إلى عشرين عاما خلت، يوم كنتُ طالبا في الجامعة، وباحثا في جمعية التراث، ملازما لأستاذي الأديب الدكتور محمد ناصر، حفظه الله؛ ولقد حظيت حينها بالسَّكن إلى جوار بيته، بل في غرفة تابعةٍ لمسكنه؛ فكان الدكتور كلَّما كتب قصيدة أو مقالا طلبني إلى مكتبه، أو نزل إلى غرفتي، فقال: “سأقرأ عليك ما خربشتُ، راجيا ملاحظاتك”؛ وما يكون مني إلا أن أستمع إليه، ولا شيء عندي أضيفه، وإنما أنتشي وأجد فيَّ ثقة، مقتنعا أني لا أزال طالب علم مبتدئ، ولن أزال…

اليوم، وأنا أطالع ما “أخربش” على الأساتذة في الأكاديميا، بتُّ أعرف لماذا يحتاج الدكتور إلى سامع، حتى ولو كان ذلك السامعُ دون المستوى المطلوب، مثلي.! فما بالك لو كان المستمع من “أرباب المستوى”، كحال فريق “الموسوعة الكونية”، في الأكاديميا؟!

ولقد تكرَّرت عبارة من الأستاذ نوزاد صواش، وهي قوله: “أنا مستمع جيد”، وهذا لا يعني أنه لا يلاحظ، ولا يقترح، ولا ينقد… وإنما هي الخلال الحسنة، والسجية الطيبة، والانسيابية المتّزنة، تضبط إيقاع الأعزة.

فحين قرأت العناوين الأولى من “فصول ذاتية موضوعية”، على الإخوة، وجدتهم يسألون: “عن أي أكاديميا تتحدث؟!”، ويقول البعض منهم: “لو أنَّ ما كتبت جاء مع “الأكاديميا” الجديدة”.. حتى إنَّ منهم من سأل: “وهل لدينا أكاديميا؟! هذا مجرد مركز صغير، لا يمثِّل شرو نقير مما يخطط له الأستاذ، وما يأمله الكبار من أعضاء الخدمة؟!”.

غير أني، مع ذلك، أجد أن لا فرق بين “الأكاديميا” في حالها اليوم، و”الأكاديميا” التي شُرع في تشييدها، وهي في مساحتها تعد بعشرات الآلاف من المترات المربَّعة، وتحوي مباني ومرافق يفوق وصفها الخيال؛ ولقد شاء الله تعالى أن أشاهد شريطا يعرض المجسَّم في أبعاده الثلاثة، ثم قدَّر الله أن أزورها مع وفد من الضيوف، وهي ورشة في معمعة نشاطها؛ ولا يملك العقل إلاَّ أن يبهت بالمشروع، واللسانُ إلا أن يلهج بالدعاء، والقلبُ إلا أن يخفق على وقعه راجيا مؤمِّلا، مستبشرا مهللا.

لا فرق، لأنني لا أصف الحجم، ولا البناية، ولا الضخامة، ولا الكثرة… ولكني أحرص على تشريح “الغاية”، و”الروح”، و”الخلق”، و”المعنى”، و”الرسالة”،… أي أنَّ هذه القيم هي قلب “الأكاديميا”، سواء في مرحلتها هذه، أم في مرحلتها الثانية، أو الثالثة… متيقّنا أنَّ الأستاذ فتح الله يوم يكتب الله تمام “الأكاديميا” الجديدة، سينظر إليها على أنها أقلُّ بكثير من المرجوِّ، وأصغر من أن تحمل الهمَّ لوحدها، وسيدعو إلى غيرها… وغيرها… في نهم لا يعرف الشبع، وهمة لا تعرف النهاية.

ولذا، وجدتُ من المناسب محاولة عرض الأكاديميا، كما يراها الأستاذ فتح الله، في وظيفتها، والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، والمنتظر منها معرفيا وحضاريا؛ وذلك من خلال بعض النصوص، المنشورة في جملة من مؤلَّفاته، بالخصوص “نظرية التطور”، و”نحن نبني حضارتنا”.. إذ الأوَّل كتبه في الثلاثينيات من عمره، والثاني من آخر ما نشر له بالعربية؛ الصورة هي ذات الصورة، لم تتغير ولم تتبدل، بل لم تجد طريقها إلى الواقع بعد.

ففي هذه الأسطر، إذن، سأعرض نصوصا غير مباشرة، كأنَّ الأستاذ من خلالها يرسم خلفية “قلمية” للَّوحَة المتوخَّاة والمتخيلة، ويأتي بعدها تمام الألوان والتفاصيل والجزئيات، ولا يكون ذلك إلاَّ في أوانه؛ فكم من مشروع كتمه الأستاذ، متيقِّنا أنه لم يحنْ أوانه بعدُ، ثم أفصح عنه بعد أمد.

مراكز البحث، وجدلية الدين، والعلم، والأيديولوجيا

ضمن كتاب “فتح الله كولن، جذوره الفكرية، واستشرافاته الحضارية”، للأستاذ أنس أَرْكَنَه، المتخصِّص في مشروع “الخدمة”، وتحت عنوان “الدين والعلم والأيديولوجيا”، نقرأ جملة من النصوص الهامَّة والمرجعية، حول “صورة العلم” عند فتح الله، وعلاقته بالأيديولوجيا من جهة، وبالدين من جهة أخرى، ومن خلال هذه النصوص يمكننا استجلاء بعض معالم “الأكاديميا” أو “مراكز البحوث” كما يتصوَّرها الأستاذ ويتخيلها.

يقول فتح الله: “والآن تخيَّلوا مركزًا للعلم -الذي هو في الحقيقة مكانٌ مباركٌ مثل المعبد- إذا ارتبط بشكل أو بآخر بتيار فلسفيٍّ معيَّن، أصبح أسيرًا له. وبالتالي فإنَّ هذا العلم لم يعُد حرًّا بل أسيرًا في قبضة فكرٍ متعصِّب. عند ذلك يكون هذا العلم ملعونًا أكثر من أيِّ جهل أو جاهلية. وإذا أريد من أيِّ دين أن يكون وسيلةً سياسية أو غير سياسية لمنفعة حزب ما، انقلب معبد ذلك الدين إلى مِلْكية ومكان صغير لذلك الحزب، وتكون العبادة فيه نوعًا من مراسيم التشريفات. عند ذلك تكون السمة الربانية لذلك الدين والديانة قد جُني عليها تمامًا.. أجل، إن كان البعض يدَّعي تبنِّي العلم في مجتمع ما، ويستعمل دُور العلم أداة لرغباته وأهوائه، وواجهة لأيديولوجياته، فإنَّ تلك الدور تخرج عن كونها أماكن مباركة كالمعابد، وتتحوَّل إلى ميادين للرغبات والأهواء الجامحة ولمشاعر العداء والخصام…”.

فالملاحظ أنَّ الأستاذ دفع العقول إلى “تخيُّل” مركز للعلم، وضع له أسسه ومبادئه، وشرَّح خصائصه وأبعاده، ثم بيَّن أوجه الانحراف التي يمكن أن تطاله، فهو بالتالي:

  • مكان مباركٌ مثل المعبد.
  • العلم فيه حرٌّ غير أسير لفكر متعصِّب، أو لأغراض حزبية.
  • سمته وروحه هي “الربّانية”.
  • متحرُّر عن سجن الرغبات والأهواء.
  • لا يخضع لأيِّ أيديولوجية، مهما كانت.
  • لا يحمل مشاعر العداء والخصام.

وإذا سألنا عن السبب الذي يجعل الناس يحوِّلون العلم أو الدين إلى أيديولوجية، وبالتالي يوظِّفون مثل هذه المراكز لخدمة أغراضهم الأيديولوجية الشنيعة، يكون الجواب -كما يقول الأستاذ أنَس أَرْكَنَه- أنَّ فتح الله كولن يرى “أنَّ تحويل العلم والدين إلى أيديولوجية، هو نتيجة لضعفٍ بشريٍّ. ويقول بأنَّ بعضهم يقومون بهذا، لكي يستروا ضعفهم البشريَّ أو يسدُّوا الثغرات الضعيفة فيهم. واستعمالُ الدين والعلم في عملية السدِّ أو الحشو، يتعارض مع سموِّ العلم والدين. ويرى فتح الله كولن أنَّ السبيل الوحيد في الخلاص من هذا الضعف هو الالتزام بعشق الإله وعشق الحقيقة، وباحترام العلم. ولم تذق البشرية مثل هذا العشق إلاَّ عن طريق الأنبياء والمرسلين”.

فالسبب إذن هو: الضعف البشريُّ، ومحاولة تغطية هذا الضعف زورًا. أمَّا الخلاص والمخرج الوحيد فيكمن في “عشق الإله، وعشق الحقيقة”؛ ومن ثمَّ فإنَّ مركزنا، وأكاديميتنا، تتخذ هذا المعنى شعارا لها، وأساسا لحركيتها، وباعثا لوجودها، وحدًّا فاصلا بين صوابها وخطئها، وغايةَ مُناها، ومنتهى آمالها… إنه “عشق الإله، وعشق الحقيقة”.

وإنا لنسأل اليوم عن مراكز البحث عبر العالم، وعن الجامعات، وعن المدارس… وعن كلِّ تجمع أو جماعة بشرية حول “العلم”، هل حقيقتها وشرعيتها مستمدة من “عشق الإله، وعشق الحقيقة”، أم هي مستلة من أغراض وغايات أخرى؟

وإنا لنبحث عن مثل هذا النوع من المؤسَّسات والتجمُّعات، المتعلِّقة بالله وبالحقيقة، عشقا وشوقا، جهادا واجتهادا، فلا نجده إلاَّ في “الأذهان”، و”التخيُّلات”، و”التصورات”، و”التنظيرات”… إلاَّ ما شذَّ، وهو نادر ندرة اليورانيوم، أو الذهب الإبريز، ومع افتراض وجوده لا يزال غير مؤثر، وبالتالي لا يمثِّل التوجه العام، ولا النزعة الغالبة؛ وإنما هو “شاذ”، يحفظ، طبعا، ولكن لا يقاس عليه، ولا يعطى أيُّ حكم على العموم من خلاله.

وفتح الله يعرف هذا، ويدفع الناس إلى التفكير فيه بلا توان، ولا تهاون.

وينتقد فتح الله الفلسفة الوضعية، التي “أبعدت الدينَ -ومنذ قرون عدة- عن قيمه العليا” ومن ثم فإنَّ “فتح الله كولن يحاول توسيع إطار العلم من جديد، وإدخال العشق فيه وفتح مساحة ميتافيزيقية له”.

فالمراكز المنشودة، لا تخضع للرؤية الكونية المادية الوضعية، التي فصلت العلم عن القيم، وتنكَّرت للعشق وللماوراء؛ وإنما تتخذ هدفا لها “فتحَ مساحة للميتافيزيقا”، ولقد أبدع كارل بوبر، حين بيَّن أنَّ “العلم الوضعيَّ” لا يستطيع أن يقول شيئا عن “الميتافيزيقا”، وقد فصل ذلك في كتابه “منطق الكشف العلمي”؛ لكنه، لم يصل بالضرورة إلى ذات النتيجة التي وصل إليها فتح الله.

وما أروع استنتاج أنَس أَرْكَنَه في هذا الشأن، حين قال: “لقد وُضعَت -منذ الماضي- مفاهيم عديدة -مثل الحبِّ والمحبَّة- خارج ساحة البحوث العلمية. وعندما وَضع فتح الله كولن هذه المفاهيم الميتافيزيقية والتصوّفية في هذه الساحة من جديد، إنما أعاد الإشارة إلى النظرة “الكوسمولوجية” (Cosmologist)، (علم الكونيات) القديمة التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون. والنظرةُ الكوسمولوجية القديمة كانت تقيم علاقة عليا دائمة بين الإنسان والكون والله. ولكن عند ولادة العلوم الحديثة أُهملت هذه النظرة، حيث غرقت العلوم في خضمِّ المادة، وأصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أُحادي. ويصف فتح الله كولن هذا العمى بأنه انحراف واستيحاش”.

أمَّا عن مصادر المعرفة، كما تسمَّى في “نظرية المعرفة”؛ فهي، حسب نظرة المفكرين المسلمين، على مرِّ العصور، ثلاثة:

  1. الحواس السليمة (أي الأمور التي تدخل في نطاق الحواس)
  2. العقل.
  3. الوحي، بشقَّيه: القرآن الكريم، والسنة الشريفة.

ولقد انحرف الفكر الوضعي عندما “عَدّ المصدرين: الأول والثاني أساسًا للعلم، وأهمل الوحي وعدَّه خارج نطاق العلم. ثم أنتج هذا الموقفُ تيارين قويّين في الفكر العلماني الغربي هما: “الوضعية” (Positivism)، و”العقلانية” (Rationalism)”..

ويؤكِّد فتح الله، على غرار العلماء المسلمين الآخرين، على العلاقة الوطيدة بين المصادر الثلاثة؛ ولكنه عندما يشرح هذه المصادر الثلاثة يقف أيضًا عند عناصر فرعية لها.

ومن ثم، فإنَّ هذا المركز أو “الأكاديميا”، يجب عليها أن تعتمد مصادر المعرفة كلِّها، بلا إقصاء، ولا تعصُّب، ولا اجتثات، ولا بتر… وكذا عليها أن تنظر إلى تفريعات هذه العناصر بعين التدقيق والتحقيق، ولا تهمل أيَّ تفصيل مهما بدا صغيرا؛ لأنَّ الاختلاف في المصدر مشوِّه للمورد، لا محالة.

وهل مراكز البحث مقتصرة على “النخبة”؟ وبتعبير آخر: هل للجمهور والمجتمع حظٌّ في هذه العملية، أم لا؟ وهل ذلك مقتصر على الجانب النظريِّ، أم يتجاوزه إلى العمل والفعل والحركية؟

يجيب فتح الله: “لا بدَّ أيضا من نشر هذا العلم المأخوذ عن طريق هذه المصادر بين المجتمع وتطبيقِه في الحياة العملية، وتنظيمه في الحياة اليومية، من انتشار حبِّ العلم والشوق لتحصيله عند الجماهير”.

وعن العلاقة بين مراكز البحث والجامعات، يؤكِّد فتح الله “على أهمية مراكز البحوث العلمية وعلى ضرورة وجود أعداد كافية منها إلى جانب الجامعات. وفي حالة غياب هذه المراكز البحثية ستقوم الجامعات بإنتاج أفكار نمطية. ومع الأسف فإنَّ جامعاتنا أنتجت -لمدة طويلة- أفكارًا نمطية بدلا من العلم. وهذه الأفكار النمطية تقتل العلم والبحوث العلمية”.

ففتح الله دوما يمقت “النمطية”، ويدعو إلى “الحرية”، في إطار من القيم والضوابط القيمية، والنمطيةُ جريمةٌ في جميع مجالات الحياة: هي جريمة على الدين، وعلى العلم، وعلى الأخلاق… إنها الحالقة؛ ويكاد النص أعلاه يرتجُّ من “الأسف” الذي أطلقه فتح الله من أنَّ جامعاتنا، لغياب مثل هذه المراكز المنشودة، صارت “نمطية”، ومن ثم “قتلت العلم والبحوث العلمية”.

فالمراكز ليست فقط مطلوبة لذاتها إذن، وإنما هي ضرورية: للمجتمع، وللجامعة، وللدين… بل، وحتى للفرد، الذي حمَّله فتح الله “عينيا” وجوبَ التفكير في المراكز، أو ما سماه “المعابد”، “لذا كان من الضروريِّ أن يكون هدف الحصول على العلم والقيام بالبحث العلمي غاية كلِّ شخص في المجتمع، فإن لم يتحقق هذا انتشرت الأنانية في المجتمع”.

على ضوء الموازين

“الموازين” حِكم مركَّزة، دوَّنها فتح الله قبل الثلاثين من عمره، وحين صدور مجلة “الرشحة” (Sızıntı-1979) راح ينقلها من دفاتره، وينشرها واحدة واحدة، ثم جمعت في كتاب يدلُّ اسمه على حقيقته أيما دلالة؛ ولقد وصف البعض الموازين بأنَّه “بذور فكر الأستاذ” وباقي أعماله هي الأشجار، والأثمار، والجِنان… أمَّا آخرون فوصفوه بأنَّه “فهرست” أعماله، فكلُّ عنوان في الموازين تجد له -بعد ذلك- تفصيلا وتوسيعا، وشرحا وبسطا، في غيره.

ولا يتخلف هذا الحكم في موضوع “الأكاديميا” ومراكز البحث، كما تصوَّرها الأستاذ، وإن كنَّا نأمل في أعمال أخرى أن تحلَّل “صورةُ العلم” في فكر فتح الله تحليلا إبستمولوجيا؛ لأنَّ لها علاقة وطيدة بصورة مراكز العلم عنده، ولذا نكتفي في هذه الفقرات بما به الحاجة، سائلين الله تيسير السبل لما هو أوسع وأعمق، ولعلَّ مشروع “نموذج المنطاد” يكون هو الحاضن لهذا التحليل المأمول.

فعن العلوم الوضعية، لا يتخذ الأستاذ موقفا راديكاليا منها، أي القبول التام أو الرفض المطلق؛ وإنما يقبلها ويدعو إلى الاهتمام بما فيها من حقٍّ وخير، وهو كثير؛ كما ينبِّه إلى ما تحمل من باطل وشرٍّ، وهو كذلك كثير؛ فيقول: “الابتعاد عن العلوم الوضعية بحجَّة أنها تؤدِّي إلى الإلحاد تصرُّفٌ صبيانيٌّ. أمَّا النظر إليها وكأنها تعادي الدين وأنها وسيلة للإلحاد وطريق إليه فهو حكم مسبق وجهل مطبق”.

فالأكاديميا، إذن، يجب أن تحوي جانبا بارزا من العلوم الوضعية، وأن لا تهملها مهما كانت المبرِّرات، ولعلَّ هذا الإهمال قد أصاب المسلمين أوان عدائهم للعلوم الوضعية، بلا تريث ولا تثبت، ولا أثرة من علم وحكمة.

ويقول من جهة أخرى: “رَدُّ جميع العلوم الوضعية والادِّعاء بأنها بأجمعها لا تساوي شيئًا أنموذجٌ للجهل وللتعصُّب. أمَّا ردُّ كلِّ شيء خارج هذه العلوم فسذاجة وتعصُّب أحمق. أمَّا الإدراك بأنَّ كلَّ معرفة جديدة تأتي بأكوام من المجاهيل والأسئلة فهو الإدراك اللائق بالتفكير العلميِّ الصحيح”.

نعم، لا تردُّ العلوم الوضعية على علاَّتها، لكن كذلك، لا يجوز الانسياق مع الاتجاه الوضعيِّ الرافض لكلِّ ما هو خارج إطارها، ويقصد بهذا: الوحيَ، والميتافيزيقا، وكلِّ ما لا يثبت بالحسِّ والعقل.

فمراكز البحث المرومة، تتبنّى إدراكا لائقا بالتفكير العلميِّ الصحيح، حين تتخذ المعرفة الجديدة سُلَّما لأسئلة جديدة، وحقول جديدة، ومجاهيل جديدة… في حركة دائمة دائبة، وعقول سائلة مستشكلة، وقلوب متقبِّلة متواضعة… بهذا فقط ترتسم معالم “الأكاديميا” الجديدة. فهي لا تؤسَّس لتقول “القول الأخير”، أو لتصوغ “القول الفصل”؛ وإنما تمامها هو بدايةٌ لغيرها، وبدايتها بداية لبدايات لا حصر لها…

ولو أنَّا سألنا عن الهدف من العلم، من خلال “الأكاديميا” المنشودة، فإنَّ فتح الله يجيب: “العلوم مفيدةٌ لنا بدرجة قيامها بتأمين سعادتنا والارتفاع بنا إلى المستوى الإنساني اللائق. أمَّا إن أصبحت العلوم والتكنولوجيا الكابوسَ المرعب لبني الإنسان، فليست إلاّ شيطانًا رجيمًا تقطع علينا أمامنا الطريق”.

فالهدف، بهذا، يكون سعادة الإنسان، وكرامة الإنسان؛ لا أن تكون هذه المراكز معاول لهدم كلِّ ما هو إنسانيٌّ، أو أشباحا ترعبُ بني الإنسان؛ فإنها إن تحولت إلى هذه الحال حقَّ لنا أن نلقب أصحابها بلقب “الشياطين” لا “العلماء”.

ولا يترك فتح الله الفرصة تفُوته، لينبِّه مرَّة أخرى إلى العلاقة بين العلم والدين، ولكنه هذه المرَّة يستشهد من مقولة لعالم العصر “أنشتين”، فيقول: “لقد قال عالم العصر للماديين القصيري النظر الذين حاولوا تأليه العلم في بداية عصرنا الحالي: “العلم دون دين أعمى، والدين دون علم أعرج”. وهكذا انتقد هذا العالم الهذيان المرعب الذي ساد عصرًا كاملاً انتقادًا لطيفًا. ولا أدري ماذا كان سيقول لو شاهد من هو أعمى وأعرج في الوقت نفسه من بعض معاصرينا الحاليين”.

وفتح الله يحذِّرنا من “نظريات الفوضى”، ومن “ما بعد الحداثة”، ويدقُّ ناقوس الخطر ليوقظنا من سباتنا، ويهزَّنا لمواجهة خطر جارف، متمثِّل في “اللاّمعْيار”، و”اللاّقيمة”، والعداء لكلِّ “ثابت”، ولجميع “القيم”، ومن ثمة العداء للدين وللعلم على السواء.

ويتعرض فتح الله حتى للتفاصيل، في العلاقة مع التخصص، وضرورة الاهتمام بما “يفيد الفرد والمجتمع”، وعدم الإغراق فيما لا طائل منه، أو فيما هو من قبيل الترف الفكري، وفي هذا يقول: “للعلم وللعلوم الوضعية والتجريبية فروع مختلفة، ولكلِّ فرع فوائده. ومع أنَّ جميع هذه الفروع مفيدةٌ، إلاَّ أن عمرَ الإنسان قصير وقابلياته محدودة، لذا يستحيل عليه الإحاطة بجميع فروع هذه العلوم. لذا كان على كلِّ فرد تعلُّم ما يفيده ويفيد أمَّته، ولا يضيع عمره في ساحات أخرى غير ساحته”.

لكن، التخصُّص مفيد وضروريٌّ ما لم يتحوَّل إلى سجن للفهم والمنهج، يقول فتح الله: “مع أنَّ تصنيف العلوم ودرجها في الكتب شيءٌ مفيد من زاوية حفظها واستعادتها عند الحاجة؛ إلاَّ أنَّ هذا قد يصيب بالشلل ملكة الاستنباط والاستلهام لدى الإنسان”. ولا مناص من إبقاء ملكة الاستنباط والاستلهام متَّقدة، هذا الاتقاد الذي يسمِّيه المسيري: “العقل التوليدي”، أمَّا موت هذا العقل، المعبَّر عنه بـ”العقل الموضوعي الفوتوغرافي المتلقي”، فهو كارثة وسرطان للعلوم وللمعارف، ولا شكَّ.

ثم إنَّ من أساليب التغلُّب على قِصر العمر ومحدودية الإنسان، مقابلَ سعة العلم وتشعُّبه، اعتماد أسلوب “الجماعات العلمية”، و”العمل الجماعي”، وتقسيم “الهمِّ المعرفي”، وطرح أسئلة “الأزمة المعرفية”، والعمل بإيقاع منتظم، لا كلٌّ على حده، وإلاَّ فأن “تكون عالما، يعني أن تكون ضمن مجموعٍ علميٍّ” كما يقول ميشال دوبوا.

ومن عادة فتح الله أن يثور على الرداءة، وعلى الدونية، وعلى التقليد، ويذكِّر بذلك مرارا، في مقالات كثيرة، وهو هنا، يتأسَّف أنه “لا يظهرُ اليوم عندنا مكتشفون ولا مخترعون… بل يظهر المقلِّدون”. ثم يعلنها صريحة: “نحتاج إلى نفسيَّة متمرِّدة تقوم بتغيير كلِّ شيء تقريبًا. يجب أن يتغير كلُّ شيء: الكتاب… المدرسة… ومن أجل هذا التغيير فإنَّ البداية بالنقد هي الأساس”.

فمراكز البحث العلميِّ، هي حلقة في سلسلةٍ، وليست جزيرة في بحرٍ؛ ذلك أنه ما لم تتغير النفسيَّة، وما لم يهجر الناس التقليدَ، في كلِّ دوائر الحياة؛ فإنَّ هذه المراكز، ستكون على صبغة تلك النفوس، وتكون ظلاًّ لتلك المؤسَّسات، وبخاصَّة المدرسة، التي تُعتبر فسيل الجامعات، ومشتلة المراكز؛ ولعلَّ هذا مما يفسِّر اهتمام “الخدمة” بالمدارس ابتداءً، مع التركيز على جودتها، وعلى التفوُّق فيها… ثم الانتقال منها إلى الجامعات؛ و”الخدمة” هي في بدايات الطريق فيها؛ وستكون مراكز البحث، بحول الله، هي المرحلة الثالثة المقبلة؛ أمَّا العمل اليومَ فينصبُّ على البذر، لا على الحرث، والقطف…

ولقد تعرضنا في عنوان سابق إلى العلاقة بين “الخلُق الحسن” وسير الأكاديميا، وها فتح الله يؤكِّد ذلك بقوله: “عندما يتَّحد العلم مع الخلق اللين يصل إلى أعماق كبيرة”. وفحوى قوله إنَّه إذا انفصلا، بقي العلم يسبح في السطوح، ويلامس الشكل، ولا يلج إلى الحقائق والأغوار والمعاني؛ والحال أنَّ هذه الملاحظة تحتاج إلى اهتمام خاصٍّ من قِبل القائمين على مؤسَّسات الأمَّة كلِّها، وما أجمل قول الشاعر، وما أصدقه، حين ربط بين بقاء الأمَّة وخلقِها، فوجودها بوجوده، وفناؤها حين فنائه:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

ومرَّة تلو مرَّة، يربط فتح الله بين العلم والعمل، بين الفكر والحركية، في أكثر من مقال، وفي أكثر من مؤلَّف، وهنا أيضا في مقام العلم، وفي مقام التنظير للأكاديميا، يقول: “إن لم يستند العلم إلى العمل فمصيره الذبول”. فلا بدَّ إذن من إسناد كلِّ علم، وكلِّ بحث، وكلِّ مشروع… في مراكز البحث، بمقصد “النافعية”، والثمرةِ الطيبة، والعمل الصالح؛ وإلاَّ ذبل ذلك العلم نفسه، وشحُبت على إثره مرافق المجتمع الحيوية كلِّها.

العناصر الأربعة

في سياق مختلف، حين كان الأستاذ فتح الله يخطُّ المعالم الكبرى لبناء الحضارة، ويعلن بصراحة أنه يضع العلامات في الطريق، لكن ليس لوحده، وإنما مع ثلة من خيرة أبناء الأمّة، علما وعملا… يوظِّف دلالة عميقة جدا، للتعبير عن هذه الحقيقة البارزة: “ونحن نبني حضارتنا”. في هذا السياق لا يغيب معنى “العلم”، ولا “البحث العلمي” طرفة عين عن دائرة الاهتمام، ولا عن سلسلة الأسباب المباشرة.

يقول فتح الله: “إذن علينا أن نبحث عمَّا نأمله لغدنا، في نقطةٍ تتلاقى فيها: البيئة الصالحة، وعشقُ العلم، وعزمُ العمل، والبحث المنهجيُّ”، ومعنى هذه العبارة المركَّزة، هو أنه “إذا ما أثارت البيئةُ الصالحة العشقَ العلميَّ وألهبت العزائمَ على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحسَّاسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوِّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معيَّنة. وبعد ذلك، تعمل “الدائرة الصالحة”؛ للارتقاء بإلهاماتٍ وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة.. تعقبها -باستمرار واطّرادٍ- الجهودُ الفكرية والنُّظُم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقةُ مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية”.

هل مراكز البحث هي وليدة “بيئة صالحة”، فتكون هي النتيجة؟

أم هي سبب وبيئة صالحة لميلاد العلماء، وازدهار العلم، فتكون سببا لنتيجة أخرى؟

الحقُّ أنَّ الأمرين كليهما صادقٌ؛ فمراكز البحث، في المستوى الكلِّي، ثمرةٌ للبيئة الصالحة والمحيط الخصب؛ وأمَّا في مستوى النهضة العلمية، فهي منطلق وأساس وبذرة للعلم وللبحث العلميِّ؛ ومن ثمَّ وجب السعي الحثيث لإنشائها على أصول ثابتة متينة؛ ولزم الاجتهاد في اتخاذها محاضن للفكر النيِّر، والتخطيطِ الحكيم، والتغيير المتَّزن.

فالعناصر الأربعة التي يقوم عليها تأسيس أيِّ مشروع علميٍّ، أو مركز بحثيٍّ، هي أربعة؛ إذا توفَّرت أثمرت، وإذا افتُقدت أضمرت، وهي:

  • البيئة الصالحة
  • عشق العلم
  • عزم العمل
  • البحث المنهجي

أمَّا عن البيئة الصالحة، فيعلن فتح الله أنَّها أساس كلِّ تطور، وروحُ كلِّ بحث، ويقيس ما كان عليه علماء الإسلام قبل قرون، بما صار عليه علماء الغرب أوان نهضتهم، ثم يقول: “وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلاميِّ من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خيرَ استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ”.

ولقد حذَّر فتح الله من اختزال النهضة في أسماء قليلة، مثل أن يقال “عصر ابن خلدون”، أو “عهد كانط”، مثلا؛ وهذه إشارة لطيفة إلى أنَّ أيَّ مركز للبحث ليس محضنا للعبقريات الفردية، ولا ينبغي له أن يكون فقط كذلك؛ وإنما هو تجمُّع لطاقات كثيرة، منها المواهب طبعًا؛ وبهذا يثمر العلم، ويؤتي البحث العلميُّ أكله: “فمن الغلط أن نحصر حاضر “الغرب” في آثار جهود علماء ذوي قابليَّات راقية، مثل كوبرْنيك، وغاليلو، وليونارد دافينْشي، وميكيل إنجيلو، ودانتي، أو أديسون، وماكس بلانك، وآينشتين؛ فلا يمكن أن نُرجع “النهضة العلمية” أمس ولا الفوران العلميُّ والتكنولوجيُّ اليومَ، إلى مساعي عددٍ قليل من أمثالهم فحسب. وإلاَّ، فإننا سنواجِه مشاكل نعجز عن إيضاح أسبابها بالقاعدة المعروفة بـ”تناسب العلِّية”. فإنَّ النجاحات الخارقة للعادة، المتحقِّقة أمس واليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطةٌ -إضافةً إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولِّدِ للعبقرية، والوسطِ المناسب لتنشئة المكتشِفين، والبيئةِ العامَّة الحاضنة للقابليات”.

ولقد أكَّد فتح الله على ما أسماه بالشريعة الفطرية، أي ما يطلق عليه البعض اسم “السنن الكونية”؛ فليس يملك أحدٌ مناقضتها، أو السعي في الاتجاه المعاكس من سعيها؛ حتى إنَّه ليقرِّر مبدأ حضاريا معرفيا بديعا، وهو: “أنَّ العبقرية في أرضٍ غير أرضها محكومٌ عليها أن تكون كعصفٍ مأكول، كما يُحْكَمُ على البذرة بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء والقوَّة الإنباتية”.

وهذا لعمري مبدأٌ سنني كونيٌّ لا يغادر أيَّ فكر، ولا يتخلَّف عن أيِّ حركة، مهما كان نوعها؛ إذ الفكر والحركة وليدا “وعاء، وبيئة، وتربة، ومحيط”، إذا تعفَّن وفسد، فلا تنتظر الكثير، ولا تأمل في المعجزات والخوارق؛ ومن ثمَّ كان لزاما على أرباب التغيير والإصلاح، أن يجتهدوا في توفير هذه البيئة الصالحة للأجيال اللاحقة، ومن أبرز تلك الحواضن ما يمكن أن يسمَّى “الأكاديميات”، أو “مراكز البحث العلمي”، بأعلى المستويات والمعايير الممكنة؛ وإلاَّ بقي الحديث عن “قيمة العلم”، وعن “وجوب طلبه”، وعن “علاقته بالحضارة”… سيبقى هذا الحديث مجرَّد خطابة، أو شعارات سياسية، أو كلام فارغ، ولا فراغ فؤاد أمِّ موسى.

وأمَّا عن عشق العلم، ففي مقال بعنوان “أجيال الأمل”، من كتاب “ونحن نبني صرح الروح”، يشرِّح فتح الله الانحراف الذي سيقت إليه الأمَّة من قِبل دعاة مبشِّرين، هم منَّا، ولكنهم زاغوا بصرا وبصيرة، فهؤلاء “لم نسمع منهم إلاَّ جمًا كثيرًا من الأمنيات الخادعة عن حاجاتنا الحقيقية، مثل تفسير العصر، وتقييم العلم، وتفهُّم حكمة الوفاق والاتفاق، والتغلُّب على الفقر الذي يقصم ظهرنا منذ زمان طويل”.

أمَّا من يُنتظر منهم خيرٌ، ويؤمَّل من بابهم مخرجٌ، وتشرئبُّ الأعناق وجهتهم مطلع كلِّ شمس، أو من يمكن أن نسمِّيهم في سياقنا هذا “بالفِدائيّين”، هؤلاء يتحلَّون بتعشُّق العلم، ثم يتَّصفون بعشق العلم، وإذا ما أقاموا صروحا عملية أقاموها على أكتاف عاشقةٍ للعلم، وأبلغُ وصف لهم أنهم “أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيَّات، الفاهمين للعصر، والعاشقين للحقيقة، بشُبوب اشتياقهم للعلم، والمحدَودَبة ظهورهم تحت ثقل المعضلات الحقيقية الحاضرة والقلق المتصوَّر في المستقبل، والمنعكسة دواخلهم على سلوكهم وتصرُّفاتهم، والمتنفِّسين هواء قلوبهم، والمتطلِّعين دائمًا إلى ما خلف الآفاق… أبطال اللدنيات الذين يئنُّون بآلام الأجيال، إذ يسعون للنهوض بها إلى درجة معيَّنة، ويحوِّلون مستقبلها الكدِر إلى دموع في أرواحهم، فينوحون نواح أيّوب u، ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم، ويَشُبّون إلى العلى بالشكر باحتساب لذائذها أنعما من الحق تعالى”.

فمثل هذه المراكز المبتغاة، ومثل تلكم الأكاديميات المأمولة، إذا لم تكن بهذا العيار، وفي هذا المستوى، وإذا لم يكن أربابها بهذه المواصفات، فلا حاجة للأمَّة إليها، وإنها لا شكَّ ستكون وبالاً عليها لا فتحًا لها؛ فالعلم في “الرؤية الكونية” الإسلامية له وظيفته، وله مهمَّته، وله شروطه، فهو ليس ترفا ولا شرفا، بل هو همَّة ورسالة، وواجب وجهاد.

في مقال بعنوان “الحركية والفكر”، يعالج فتح الله هذه العلاقة الوطيدة بين العلم والعمل، والتي هي خاصية “البراديم كولن” بلا أدنى ريب؛ وبهذا ينبِّه إلى أنه لو أنشئت مؤسَّسات للفكر، فلا بدَّ أن تكون وثيقةَ الصلة بالعمل، وهو ما سماه “العزم على العمل”، وفي هذا يقول: “إنَّ أهمَّ شيء وأشدَّه ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروريِّ أن نتحرَّك على الدوام في ظروف قاهرة نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات، ونفتح صدورنا أمام معضلات، الحركية المستمرة والفكر المستمر، ومهما ضحَّينا في هذا السبيل، فإنْ لم نتحرَّك نحن، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم”.

ولا ينهي فتح الله أسبابه الأربعة إلاَّ بالتنبيه إلى “البحث المنهجيِّ”؛ لأنه ليس كلُّ بحث في العلم “بحثا علميًّا بالضرورة”؛ إذ المنهجية لازمة من لوازم العلم الحقِّ، والفوضى لا تولِّد إلاّ فوضى مثلها، أمَّا غياب المنهجية فهادر للوقت بلا طائل، وموهِمٌ بالفكر فيما ليس بفكر، وناشرٌ لسراب البحث والحقُّ أنه ليس شيئا.

ولقد أعطى فتح الله مثالا واضحا عن مؤسَّسة افتقدت المنهجية، فكان مصيرها الزوال والانسحاق، ولذلك “لا يمكننا الحديثُ عن مبادرة تتَّصف بالديمومة والمنهجية في هذا المجال” أي المجال التربويِّ العلميِّ الفكريِّ. ودليله في ذلك أنَّ “المدارس (التقليدية) -مثلا- والزوايا والتكايا التي كانت تربّي مهندسِي فكرِنا وعمال روحنا في الماضي، لم تنتج مشاريعَ تأخذ بأيدينا إلى المستقبل. وإذ لم تنجح هذه المؤسَّسات في ذلك، فإنها قد انسحقت تحت ركام أنقاضها”.

وما من شكٍّ أنَّ هذه المؤسَّسات هي “مراكز البحث” أوان ازدهارها، وهي “الجماعات العلمية” زمن إشراقها؛ ولا عبرة بالأسماء والألفاظ، وإنما العبرة بالمحتويات والمقاصد.

مراكز، تكتب قصَّة الوجود من جديد

يمكن اعتبار كتاب “حقيقة الخلق ونظرية التطور” دستورَ المعرفة في فكر فتح الله، ففيه تبرز “أحلام الأستاذ” بما ستكون عليه مراكز البحث مستقبلا، وفيه تتضح الانحرافات التي طالت الفكر الغربيَّ من جهة، وسحقت العالم الإسلاميَّ من جهة أخرى؛ والحقُّ أنَّ مجرَّد تحليله فقرةً فقرةً يمكِّننا من رسم خريطة “للعلم والعلماء في البراديم كولن”، رغم أنَّ الكتاب ليس سوى “حلقاتٍ حوارية شفوية، أفرغت بعد ذلك”، ورغم أنه “من بواكير مؤلفات الأستاذ”، إذ صدر في السبعينيات، وقد نوقش قبل ذلك في الستينيات، إلاَّ أنه مكثَّف أيما تكثيف، ودالٌّ على المقصود أيما دلالة، وهو عنوان لما يأتي بعده في مجال المعرفة، ونظرية المعرفة، والرؤية الكونية… وغيرها.

ولعلِّي سأقتصر بقراءة بعض النماذج، بما يفي الغرض من هذا الفصل، تاركا التفصيل لمجاله وأوانه.

فعن كوْنِ “الظاهرة الإنسانية” ظاهرةً معقّدة، تستعصي على الفهم والبحث بالمناهج والوسائل المعاصرة، يقول فتح الله: “للوجود وللحياة ولعالم الأحياء ولاسيما الإنسان -الذي يحتل موقعًا متميزًا فيه- نواحٍ متعدِّدة تشكِّل أساسًا لعلوم مختلفة. وحتى لو تناولنا الإنسان وحده في هذا الموضوع رأينا ظهور علوم عديدة كالمورفولوجيا، والفيزيولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والطب وعلم التربية، وعلوم أخرى عديدة… وكلُّ علم من هذه العلوم اختصاص قائم بذاته، وله مختصون متفرغون له. ولكن لا يوجد للكون بأجمعه، ولا للإنسان، ولا للأحياء متخصِّصون. لذا لم يكن في الإمكان حلُّ المشكلات المتعلِّقة بالوجود وبالإنسان بهذه العلوم، أو قول الشيء النهائي والأمر الفصل فيها”.

فالحقيقة التي ينبغي التصريح بها إذن، هي أنَّ ثلاثية “الكون، والإنسان، والأحياء” لا تزال خارج دائرة “العلوم” في تمثلها المنهجيِّ اليومَ، وهي لم تلقَ بعد مَن ينبري لها في كلياتها، وفي تركيبيَّتها، ولذا “كانت هناك حاجةٌ ماسَّة لمراكز متكاملة تستطيع تصنيف معلومات وأفكار لفهم الإنسان، وإنتاج التكنولوجيا ووضع النظريات والأفكار العامَّة التي تخاطب الشعور الجمعي وتكون في مستوى العصر وقادرة على احتضان جميع أموره وفتح الآفاق أمامه”.

ولكن، هل يقتصر فتح الله على وصف المعضلة، أم أنه ينتقل إلى الفعل كعادته؟

الجواب حمله بقية النص، إذ يقول: “وأنا أتوقَّع أنَّ العديد من الكتب ستؤلَّف في هذا الخصوص في السنوات القادمة، وستطرح العديد من الأفكار البديلة في هذا الخصوص، كما ستشارك العديد من المراكز العلمية في هذا الأمر؛ لتغذِّي وجهة النظر هذه وتثريها. وسيقوم آنذاك عددٌ من المفكِّرين ومن العلماء المحظوظين بكتابة قصَّة الوجود من جديد، وسيكتشفون كلَّ شيء، وكلَّ الأحياء -ولا سيما الإنسان- من جديد، ليضعوا الحقائق حول مدى سعة عالم الإنسان أمام الأنظار، وليشرحوا بشكل واضح المواضيع التي تشكل قواعد العلم وأسسه”.

ففي هذه الفقرة “توقُّع”، و”استشراف”، و”أمر”، و”تخطيط”… وفيها بيان لمهامِّ “مراكز البحث مستقبلا”، حتى لا تكونَ ظلا للواقع المختزَل، ولا شبحا للفكر المتخزِل؛ ولتعرِف أنَّ أمامها مهامّ كبرى، ومسؤوليات جسامًا، أمثلُها على الإطلاق “كتابة قصَّة الوجود من جديد”، و”اكتشاف كلِّ شيء، وكلِّ الأحياء، ولاسيما الإنسان من جديد”.

وفتح الله، في منهجه الفكريِّ والدعويِّ، لا يُلغي أيَّ إيجابية مهما بدت صغيرة، ولا يسمح لنفسه ببخس “أشياء الناس”، ذلك أنه لم يقُل، شأنَ بعض القائلين: “إنَّ الغرب ومراكز البحث في الغرب اليومَ لم تحقِّق شيئا، ولم تفعل شيئا”؛ وإنما اعترفَ لها بالفضل فيما لها فضل فيه، فقال عنها: “نستطيع اليومَ أن نقول بأنَّ المختبرات الحديثة تقوم بفحص الأحياء بدقة غير مسبوقة. حتى إنَّ المادة والجزيئة والخلية أصبحت معلومة بمقياس كبير، وبدت السوائل وجميع أجزاء الخلية حتى أصغرها وأدقّها معروضة أمام الأنظار بفضل الأشعة السينية (أشعة أكس). كما قامت بعض المختبرات الحديثة وبعض مراكز البحوث بإلقاء الضوء، ليس على التركيب الماديِّ فقط لجزيئات البروتين، بل على طبيعة الأواصر التي تربط هذه الجزيئات الكبيرة بعضها ببعض وطبيعة عمل الأنزيمات التي تفرق وتركب هذه الجزيئات وتأثيرها، وكذلك القوانين السارية في الخلايا والروابط التي تربط الأنسجة التي تشكِّلها هذه الخلايا مع الأعضاء الداخلية، وطبيعة السوائل في الجسم كالدم والصفراء وعلاقاتها مع بيئتها، وكذلك تأثير المواد الكيمياوية على الجسم وعلى الشعور… كلُّ هذه الأمور أصبحت معلومة ولو نسبيًّا”.

بل إنَّ هذا المستوى الأوَّل من العلم، للأسف لم نحقِّقه نحن في عالمنا الإسلامي برمته، ولذا “على الرغم من هذا التقدم الذي يستحقُّ كلَّ تقدير في ساحة العلم (عالميًّا)، فإنَّ من غير الممكن القول بوجود مثل هذا التقدُّم في ساحة العلم أو في المراكز العلمية في تركيا أو في أي ساحة أخرى منذ عهد التنظيمات حتى الآن. فبدلاً من البحث العلمي نرى تقليدًا أعمى، وبدلاً من التدقيق العلميِّ نرى أننا في عهد من شعارات رخيصة مرفوعة تأخذ مكان العلم”.

ويسافر فتح الله في “حلمه الموجَّه” عبر الزمن، ليشخِّص عيون الأجيال القادمة، وهي تنظر بعين الشفقة والأسى إلى عصرنا هذا، بجميع أطيافه، وبكلِّ مكوناته، وفي جميع مستوياته، ثم يعود مهموما مغموما، ليخبرنا أنه… “لا شكَّ أنَّ الأجيال القادمة ستذكر عهدنا هذا بكثير من الأسف. ذلك لأنَّ الوجود قُدِّم في هذا العهد وكأنه عبارة عن وسط من الفوضى، وكأنَّ الأشياء لعبةٌ بيد الصدف العمياء تطوح بها ذات اليمين وذات الشمال، وكأنَّ الأحياء لقمةٌ بسيطةٌ وسائغةٌ بين الأسنان الوحشية لـ”الانتخاب الطبيعي”. أمَّا الإنسان فقد هُوي بمكانته وجُعل في مقعد متفرِّج نكِد الحظِّ، يتفرَّج على حلبة الموت، وحكم عليه أن يرى ويسمع ويعيش ما يجري أمامه”.

وهذه الملاحظة تندرج ضمن “الرؤية الكونية” في أعلى صورها؛ إذ العلم ليس منفصلا عن “حقيقة الوجود”، وعن “القيمة”، وعن “المعنى”، وبخاصَّة ما كان من شأن “الإنسان” ومكانته وقدره؛ بينما الصواب أن ينظر إلى الإنسان في كلِّ علم، وفي كلِّ جهد علميٍّ، على أنه خليفة لله في أرضه، وأنه كريم، وأنه مخلوق لله، ليس إلها، ولا شيطانا، ولا مجرد شيء ومادة. وفي ذلك يقول المسيري في كتابه “دفاعًا عن الإنسان”: “ثمة أسبقية الإنسانيِّ على الطبيعيِّ؛ لأنَّ الإنسان قادرٌ على تجاوز النظام الطبيعيِّ الماديِّ وعلى تجاوز ذاته الطبيعية المادية؛ ولأنَّ فيه بُعدًا غيبيًّا يستعصي على الاختزال والتشيُّؤ”.

أمَّا عن الفوضى التي يدَّعيها العلم، فإنه يمارس في غرسه لهذه الصورة أيديولوجية إقصائية خطيرة، بينما “لو تم النظر من زاوية أخرى لكان في الإمكان مشاهدة حقيقة وجود تساند وتعاون في كلِّ جزء من أجزاء هذا الكون، ووجود نظام وتناغم دقيق فيه، ولظهر أنَّ كلَّ شيءٍ قد خُطِّط لهدف معيَّن، ولغاية محدَّدة، وأنَّ كلَّ شيء مرتَّب ككتاب وكمعرض رائع وكامل يذهل العقول”.

وأيديولوجية “الفوضى” للأسف، لم تبقَ حبيسة العالم الغربيِّ المتطوِّر نسبيًّا، في علوم المادَّة، وإنما انتقلت عدواها إلى واقعنا، مع تخلُّفه، بل إنَّ الذي انتقل إلينا هو مظاهر التخلُّف فقط، دون مقوِّمات النمو والنماء والتمدّن؛ من هنا وجب التأكيد على “أنَّ الوسط العلميَّ عندنا في عهد معيَّن قد جُرَّ إلى وسط من الفوضى، ورُبط بمحور معيَّن بحيث إنَّ العديد من مراكز البحوث العلمية والمختبرات انجرّت دائمًا وراء سؤال: “كيف؟” ولم يلتفت الباحثون إلى أسئلة من نوع: “لماذا؟” وأنشأ نظامُ التعليم أجيالاً لا تفكِّر إلاَّ في الإجابة على “كيف؟” ولا تفكِّر في الإجابة على “لماذا؟” أو “من؟”. لذا فلم يظهر مِن هذه الأجيال أيُّ مفكِّر أو عالم على المستوى العالميِّ طوال هذه العهود”.

لو قدِّر “للأكاديميا” أن تنشأ على أسس متينة، كالتي سطَّرها فتح الله، فإنها لن تلهو على شاطئ “الكيفيَّات” المنفصمة عن “ماذا” و”من”؟ وإلاَّ فإنَّ العجز عن “إنشاء مفكر وعالم عالمي” سيستمرُّ للأسف إلى أجَل غير مسمًّى.

ويسأل فتح الله عن المشتغلين بالعمل عندنا اليوم، وعن جدوى ما هم عليه، وهم في جامعاتهم، ومراكزهم، لكنهم أنهكوا في البحث عن “كيف؟” وكفى؛ وغفلوا عن “لماذا؟ ومن؟”؛ فكان التحدِّي، على صيغة سؤال، بل أسئلة:

  • “كم عالمًا استطعنا تنشئتهم لكي يستطيعوا اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين؟
  • فمثلاً كم منهم وجد في نفسه الشجاعة لكي يوضِّح خطأ نظرية دارون ونقصها وجوانبها المشوَّهة، وأنها -مثلها مثل النظريات الأخرى- يمكن مناقشتها؟
  • وكم منهم استطاع تجديد فكرة أنَّ الإنسان هو أشرف المخلوقات؟”.

ووظيفة المراكز المرتقبة، والأكاديمية المبشَّر بها، هي الجواب على مثل هذه الأسئلة، بلا تردُّد، ولا ادِّعاء، ولا غفلة، ولا وجل؛ ذلك أنه إذا لم يُجَب عنها، وعن مثيلاتها، فسيبقى التخلُّف والهوان والتبعية قدَرنا، ومصيرنا، بل ومصير البشرية قاطبة.

والمراكز التي يتصوَّرها فتح الله ليست أحادية التخصُّص، مع احترامه للتخصُّص، لكنها متعدِّدة التخصصات، متداخلة المجالات، كلية الرؤية، شمولية الفكر. ولهذا المنظور أدلة عديدة، من كتاب “نظرية التطور” منها قوله:

  • “إننا إن وضعنا جانبا التساؤل حول وجود أو عدم وجود علماء دين عندنا يستطيعون تناول هذا الموضوع ومناقشته، فإنَّ التربية والتعليم الديني عندنا لم يحقق بعد الحلم الذي ساور العديدين منذ قرن تقريبا، ولم يصل إلى المستوى اللائق، ولم يشمل دراسة العلوم الوضعية أو في الأقل دراسة مبادئها الأساسية. وهذه حقيقة مؤسفة ومحزنة تقف عقبة أمامنا”.
  • “يقول العالم سير جيمس جينز المختص في علم الفيزياء الكوني -الذي يعد من أكبر علماء القرن العشرين، والذي يُنعت من قبل الكثيرين بأنه “آنشتاين ثان”- في كتابه “الكون المليء بالأسرار” و”الكون من حولنا” المترجمَين للغة التركية: “إنَّ الإنسان المشغول بفرع من فروع العلم يصل إلى درجة الفناء في ذلك العلم. أي إنَّ الإنسان يتشرَّب بفرع العلم الذي ينشغل به إلى درجة الفناء فيه. فلا يسمع إلاَّ بأُذُن ذلك العلم، ولا يرى إلاَّ بعينه، ولا يتكلَّم إلاَّ بلسانه، ويعيش انفعالات ذلك العلم…”.

ثم يقول: “قام بعض العاملين في الحقل الهندسيِّ بعمل أشكال مثلثة ومربعة في صحراء شبه الجزيرة العربية وفي الصحراء الكبرى في أفريقيا وأوقدوا فيها النيران الكبيرة، فأحدثوا أنوارًا وأضوية قوية ساطعة لكي يجلبوا أنظار الكائنات الذكية الأخرى التي يرون احتمال وجودها في الكون من الذين يفكرون هندسيًا مثل الإنسان. هؤلاء العاملون في الحقل الهندسي قد ذابوا وفنوا في عالم الهندسة. ويعتقد المختصُّون في حقل الرياضيات أنَّ الصانع (جلّ وعلا) قد خلق الكون بمقاييس رياضية. وهؤلاء أيضًا فنوا في الرياضيات”.

“أمَّا دارْون فلكونه قد قضى حياته في ملاحظة وتدقيق ودراسة الحيوانات ومتحجِّرات الحيوانات، ولم يخرج خارج إطار هذه الساحة فإنه نظر إلى الوجود وإلى الخلق وباختصار إلى كلِّ شيء من زاوية، ومن نافذة هذه الساحة، ومِن منظارها، واستعان بتفاسير لا يقبلها لا العلم ولا المنطق ولا العقل لكي يبرهن على فرضيته. والأمر نفسه نلاحظه عند الذين تبنّوا نظريته بتعصُّب وإصرار. وقد نبّه العالم الفلكي “جيمس جينز” إلى مخاطر التخصص مع الاعتراف بفائدته”.

  • يذكر فتح الله ضمن مقال “نظرة إجمالية إلى الإسلام”، من كتاب “ونحن نبني حضارتنا”، مبدأ الإسلام، ووجهة نظره، حول التخصُّص، فيقول: “إنَّ الإسلام لا يمنع المسلمين من تعلُّم علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفضاء والطب والهندسة والإدارة العامة وإدارة الأعمال والزراعة وأمثالها، بل يحثُّهم على التخصُّص فيها وأخْذِها والاستفادة منها من أيِّ مصدر كان، لكنه لا يريد أن يبقى المسلمون تبعًا لغيرهم على الدوام، بل يحبِّذُ لهم الاستفادةَ مما عند الأجانب من هذه الأمور، ثم التخلُّصَ السريع من استجدائها، وإقامةَ عالمهم الذاتي في الأوامر الإلهية التكوينية كما في الأوامر التشريعية”.

إذن، هذه هي العناصر الأربعة، التي يقوم عليها صرح العلم عموما، وصرح “مراكز البحث العلمي” بالخصوص؛ وأيُّ خلل في أيٍّ منها، سيكون سببا للبتر والقلَّة والعجز، وسوف لن يحقِّق الهدف المرجوَّ، ولا الغاية المتوخَّاة؛ وتكون نتيجة ذلك كارثيَّة على شتى مناحي حياة الأمَّة الإسلامية اليومَ. أمَّا لو اكتملت، وذلك هو المرجوُّ، ولا نظن بالله تعالى إلاَّ خيرا، فإنَّ الأمَّة ستعرف بحول الله ربيعا آخر في تاريخها، وستلد من رحمها علماء أفذاذا، وحكاما مرشدين، ومحكومين راشدين، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(الرُّوم:4-5).

فهرس الكتاب

About The Author

ولد عام 1967م في يزجن بــالــجــزائــر. حـصـل على الماجستير فـي العقيدة والفكر الإسلامي من جامعة الـخـربـة. ثــم حـصـل على الدكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان من جامعة الأمير عبد القادر بالقسنطينة. يعمل حاليا مديًرا لمعهد المناهج للدراسات العليا بالجزائر العاصمة. لـه العديد من الكتب والمؤلفات العلمية والفكرية منها «مـن بنات الأسفار»، «مطارحة معرفية»، «البراديم كولن.. فتح الله كولن ومشروع الخدمة»..

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.