الصوفية بين النظرية والتطبيق في منظور كولن

يمكن تعريف التصوف أو الصوفية بسهولة بأنها البعد الروحيّ لأسلوب الحياة الإسلامي، أو بتعبير كولن «الحياة الروحية للإسلام»، فالصوفيّة خلافًا للإسلام السياسي تؤكِّد على الجانب الروحيّ في الإسلام، وتهتمّ أصلًا بإثراء العالم الداخليّ للبشر في رحلتهم نحو الحقيقة المطلقة، وينضوي الناس فيها عادة تحت مظلة روحية تجمع أبناء المشرَب الواحد، وليس بالضرورة أن تكون المظلة طريقةً من الطرق الصوفية.

ونشير هنا إلى أن الإنسان يمكن أن يتغير حقًّا، ويسمو روحيًّا بتهذيب وتوجيه المربّين العارفين بالله، لكنَّ مشاركته لهم في مجالس دينية أو إفادته من سَيْرهم وسلوكهم في رحلته الروحيَّة نحو الحقيقة المطلقة ليس معناه أنه لا بد من شيخ يكون مريدًا له أو طريقة صوفية يتبعها، فلبُّ المسألة أن يفيد المرء أعظم إفادة من السلوكيات أو التجمعات في ظل الوجود الروحي للأولياء أو المربّين ممن لهم خبرة في التزكية عرفوها وهم في طريقهم إلى الله، وعبر الرومي عن ذلك ببراعة في قصيدة له:

قلباه اسكن بقرب        مَن عنده للقلب طِبّ

وبظل أشجار أُثقلت        بنَضر الزَّهر فحسبُ[1]

ويقول كولن: “أعلى مراتب الولاية أن تتحلى بخلّة مخلصة مع الله”[2]، ويشعر أولياء الله الصالحون بهذه الخلة بحسب قدْرهم وقدرتهم، فهم وإن كانوا على صلة عميقة بالروحانيات وحظوا بقرب خاص من الله إلا أن ما يمكنهم الوصول إليه من الكمال له حدّ يتفق مع قدرتهم؛ وللولي فضائل معينة تميزه ويفوق فيها الآخرين:

“أولياء الله وأصفياؤه وإن كان كل واحد منهم إنسان القلب والروح؛ فإنهم يُذكرون بألقاب متنوعة مثل: الأبرار والمقربين والأبدال والأوتاد والنجباء والنقباء والأغواث والأقطاب؛ بالنظر إلى طباعهم وأمزجتهم ومزياتهم ومذاقاتهم ودرجة رقيهم وواجباتهم ومهامهم. وأيًّا كانت ألقابهم ودرجاتهم فهم جميعًا يشتركون بحسب استعدادات كلٍّ منهم في الخصال الحميدة مثل: الصدق والأمانة والتقوى والورع والزهد والرضا والمحبة والحلم والمسالمة والتواضع والتفاني والتوبة والإنابة والأوبة والخشية والمخافة. وكلهم تقريبا يتحركون في إطار هذه الأسس الإسلامية عدا أهل الشطحات”[3].

وكان كولن حذرًا جدًّا مِن سلوك مَن يهتم بالعبادات أكثر مما ينبغي على حساب مبادئ الإسلام العالمية الأوسع والأشمل، ومن مواقف متصوّفة لم يلتزموا بتكاليف الإسلام فضلّوا وأضلّوا، إلا أن كولن لم ينكر قط دور الطرق الصوفية وأهميتها في العالم الإسلامي، وخاصة في مراحل صعود الحضارات وأفولها:

“ورغم أن في كل عصر من العصور متعصبين من الصوفية ومتشبثين بظاهر الأحكام الشرعية من الفقهاء والمحدّثين والمفسرين إلّا أن أرباب الصراط المستقيم هم الأكثرية دائمًا بالنسبة لهؤلاء الذين أفرطوا وفرَّطوا”[4].

ولم تَعُد الدوائر القيادية في مجتمعات وديانات كثيرة اليوم تَعُدّ الفكر الإسلامي السائد يقدِّم أسلوب حياة أو نظامًا لبناء الأمة والدولة؛ دعِ المآزق السياسية والاقتصادية تجدْ من السهل شرح وتفسير قضايا الإسلام الأساسية، لكن ما أصعب وضع تلك القضايا في سياق قوميّ أو اقتصادي معين وتطبيقها على صور الواقع العملي في الحياة!

واختلف المسلمون في شأن الطرق الصوفية المتعددة في ضوء الفقه وقواعده ومقاصده وأصوله، فالصوفية في كتابات المسلمين قديمًا وحديثًا بين الإيجاب والسلب، واختلف العلماء مع الاتجاهات المتشددة اختلافًا هائلًا في قضايا الطرق الصوفية، بل بعض الفقهاء لا يرونها من الإسلام.

أراد كولن أن يحرر قرّاءه من أي تحيز أو خلط مسبق في أمر الصوفية الممثلة لروح الإسلام وعلاقتها بالمذاهب المختلفة، وله سلسلة في التصوف «التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح» استوعبت ما هو نظري وتطبيقي في الروحانيات على مدى التاريخ الإسلامي ومدارسِ المذاهب العقائدية، وتُعدّ من الأعمال المهمة في دراسة البعد الروحي للفكر والحياة في الإسلام، وتفتح أفقًا جديدًا، وتقدّم هدفًا يتعين بلوغه، وتبيّن وسائل التغلب على النزعة الحيوانية وترك التعلّق بالمادّة لبلوغ مقامات في حياة القلب والروح؛ وهي وإن بينت بوضوح أصول الحياة الروحية الإسلامية وجوانبها المختلفة إلا أنها لا تشير إلى أن كولن يؤيد طريقة صوفية بعينها، ولا أنه يدعو إلى طريقة جديدة بأي شكل أو وسيلة، وغاية ما فيها أنها تقدّم للمعاصرين شرحًا واضحًا لمجموعة كبيرة من قضايا التصوف.

قد يقال: لماذا أفاض كولن في تناول مصطلحات الصوفية ومظاهرها المختلفة في التطبيق الجماعي والتقوى الفردية؟ يجيب كولن عن هذا إجابة واضحة:

“إن دين الإسلام يركز طبعًا على العالم الروحيّ، ويَعدّ تزكية النفس من مبادئه الأساسية، فللزهد والتقوى والرحمة والإخلاص أهمية كبرى فيه؛ والمنهج الذي عُني بتلك الأمور على مرّ تاريخ الإسلام هو التصوف”[5].

ويؤكّد كولن في كتابه هذا على الحياة الروحية للإسلام في ضوء مجموعة مصطلحاتٍ بحيث يمكنك أن ترى في الصوفية الوجه الروحيّ للإسلام أو الحياة الروحية ذاتها، لا أنها علم نظريّ له مصطلحاته[6].

ويقدِّم كولن المصطلحات الصوفية في إطار المقاييس الإسلامية وأبديّةِ الحياة الروحية وعمقها الهائل، يقول علي أونال:

“يرسم الكتاب بأجزائه الأربعة حدود الطريق الروحي وينير كلَّ مرحلة ومحطة بكشافات ساطعة، فضلًا عن أنه قبل انطلاق تلك الرحلة الروحية يكسر الحدود والقيود المفروضة؛ لتنهض الحياة الروحية أو الصوفية على أساس المبادئ الإسلامية أيْ خطوة خطوة مع حدود الفقه الإسلامي دون ابتداع أو انزلاق في بدعة”[7].

وعُني كتاب «التلال الزمردية» بالجانب العملي من التصوف لا بأشكاله المؤسسية أو التنظيمية، فهو بهذا دليلٌ تفصيليٌّ لهذه الفكرة الأساسية: «الحياة الروحية الإسلامية جوهر الإسلام لا نظريًّا بل كما عاشها الصحابة ، فيقدِّم هذه الحياةَ تجربةً عميقةً بيَّنَها وحدّدها الإسلام لكلٍّ من القلب والعقل والجسد، ويبحث كيفية تشكلها وتطورها عبر التاريخ، فهو ينقل للأجيال القادمة تراث الصوفية بأبعادها كلها أو الحياة الروحية للإسلام بصورتها الكاملة طريقًا صحيحًا آمنًا محصنًا ضد أي انحراف»[8].

بحثًا عن الصوفية الأصلية

رغم الخلاف النظريّ بين الفقهاء والصوفية في قضايا شرعية لدى تفسير مصادر الفقه الإسلاميّ، إلا أنّه ليس له كبير أثر على الحياة العملية للمسلم، فالتصوف بوصفه البعد الروحي للحياة الإسلامية لا يمكن عدّه مستقلًا عن الفقه، ويوضح كولن هذا بقوله: “فلا اختلاف ولا افتراق، بل قد تعهّد كلٌّ من الجانبين بالحفاظ على ناحية مهمة من الدين، فكلٌّ من تلك النواحي بمثابة كلية من الجامعة، التي تمثل الكل، والتي يتوقف تكاملها على تكامل تلك الكليات”[9]، «لذا يعدّ انحرافًا ومجانبة للصواب إظهار وجهات نظر الصوفية أنها مختلفة في الأساس عن أفكار خدام الشريعة واستنباطاتهم»[10].

ويقول كولن “إن أساس التصوف هو الرعاية لآداب الشريعة ظاهرًا، والوقوف على تلك الآداب باطنًا”[11]، فيرى أنه لا فصل بين الشريعة «الأحكامِ المستمدة من الكتاب والسنة» والتصوفِ «البعدِ الداخليّ أو الباطنيّ للشريعة»، يقول:

“فالسالك الذي يُحسن استعمال هذين الجناحين يرى من الباطن ما في الظاهر من الأحكام، ويشعر ويعيش في الظاهر بالأحكام التي في الباطن. وبفضل هذه المشاهدة والشعور يسير دومًا بأدب نحو الهدف، ويجول قريبًا منه ويحوم حوله”[12].

وهذا يؤدي إلى العناية الشديدة بالشعائر الدينية؛ فالتصوف بهذا المعنى يجعل الإسلام يستقر في المسلم اعتقادًا وتطبيقًا بالجمع بين طاعة أوامر الله وأداء العبادات والعمق العميق المتمثل بقدرة العبادات على تغيير الباطن.

والتحدي الفكريّ الحقيقي هو إثبات أن الفقه والتصوف يعملان معًا، ووضعُ أهداف دينية ودنيوية من نوعية واحدة لنشر نظام عالمي في العدالة والحكم الضامن للسعادة، فأي ناشط أو داعية إسلامي ستواجهه مشكلة معقدة عند بحثه عن أرضية مشتركة بين المسلمين جميعهم بما لهم من خلفيات تاريخية وثقافية واقتصادية مختلفة؛ فالإسلام يمكن فهمه بأنه طريقة تعلم وتفكير، وبأنه منهج حياة أيضًا.

ويرى كولن أن الخلاف لفظي كما يقولون، فالمسلمون جميعًا يتبعون مبادئ الفقه العامة ويعيشون حياة روحية إسلامية في الوقت نفسه، ولكن ليس كل مسلم أو كل شعب يمكنه الأخذ بالأفكار المتنوعة للطرق الروحية في نشاطاته الدينية والدنيوية؛ فاقترح كولن أسلوبًا معينًا لجعل كلّ مسلم جزءًا من صحوة دينية وروحيّة في أنحاء العالم كافّة، وهذا التوجه يشبه مسلك السلف من أولياء ومجتهدين.

والأولياء في أذهان الناس خلافُ المجتهدين؛ إذ يرون أن بعض الأولياء ليس لهم مذهب مستقل أو تابع قائم على النص التوقيفي، أمّا المجتهدون فالحزم والالتزام بالشريعة في طريقة حياتهم سمتٌ لهم؛ والواقع أن الأولياء أشدّ التزامًا بالنصوص، فإذا أضيف إلى هذا أنهم في معية الله وحفظه تبيّن أنهم يمثلون بُعْدَي الولاية الحقة.

وفي كثرة تعريفات الصوفية لمصطلح «صوفي»، وأنَّه مشتقّ من الصوف أو الصفاء أو الصفوة…، يقول كولن صراحة عن أصل الصوفية: إنّها تمثل البعد الروحيّ لطريقة الحياة الإسلامية، ويرفض القول بأنّها مشتقة من كلمة «Sophos» اليونانية التي تعني «الحكمة» قائلًا: “أعتقدُ أن هذه التسمية شيء اختلقه الأجانب، على الرغم من أن أكثر الصوفيين من أرباب الحكمة”[13].

من ليست له ميول روحانية يمكن أن يعيش حياته كما يحلو له بلا أهداف روحية محددة، أمَّا المؤمن الحق فلِلنّيّة مكانة محورية في كل ما يقوم به من أنشطة في حياته كلها، فهو لا يرائي ولا يباهي بأعمال الخير؛ فالمبدأ الديني يقول: عملُ الصالحات تكليفٌ ونعمةٌ ربانيّة.

«مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا» حكمة لبعض الصوفية مغزاها السيطرةُ على النشوة النفسية وتغذيةُ القلب والروح بدرجة أعلى من التذلل والشعور بالمسؤولية ليعامِل المؤمن غيرَه معاملة أفضل على حساب مصلحتهم الخاصّة، قد تقول النظرة المادية: هذا نوع من امتهان الذات مآله الإضرار بالرفاهية المادية للمجتمع كافة؛ لكن كولن يأخذ بالرأي الصوفي القائل بأن هذا علامة على استنارة الروح الإنسانية مآلها تحرير المجتمع كله من جوانبه كلّها، فالحياة الروحية للصوفيّة تختلف جذريًّا عن الجذور المفترضة لأفكار الفلاسفة قبل الإسلام حول التقشف أو اعتزال المجتمع والدولة:

“نعم، إن فلاسفة اليونان والهند قد ساروا حقًّا في طريق تصفية النفس قبل ظهور الإسلام وقاموا بما يشبه عمل الصوفيين من المجاهدة، ولكن الطريقين مختلفان اختلافًا كليًّا من حيث الأصل والأساس، ذلك لأن الصوفيين يحققون التصفية بالتمسك بأسس الذكر والعبادة والطاعة ومحاسبة النفس والتواضع والمحوية، ومن ثم يسعون للمحافظة على هذا الخط إلى نهاية العمر، بينما تصفية الفلاسفة -إن كان إطلاق التصفية عليها صحيحًا- فهي تصفية اعتباطية، لا تنطوي على عبادة ولا طاعة ولا مراقبة نفس ولا تواضع ولا إنكار الذات، بل فيها دومًا الغفلة وتضخيم الأنانية وإطغاؤها”[14].

لم يكن للمرء قبل ظهور الحضارة الإسلامية أن يجد السبل الدينية والروحية والثقافية التي تَقيه الغرور والجهل الناتجين عن الخرافة أو عقدة الأنا، واجتهدت الطرق الدينية المختلفة في وضع وسائل تطهر المسلمين من الجشع والأنانية والحسد وسوء الخلق وحبّ الدنيا والمنكرات كلها، فأعماق كل روح إنسانية تتمنى بلوغ هدف أسمى بكثير من الأكل والشرب ثم الموت كما هي حياة أحياء لا تعقل، فللسعادة أهمية بالغة لدى كلّ إنسان، فالمعرفةُ والعلمُ بالخلق والحياةِ والصواب والخطأ وبالمنظومة التي تسود الكون قضايا مهمة للعثور على إجابات مقنعة لأسئلة مثل: كيف نحظى بالسعادة في الدنيا؟ وكيف نستشعر أن لعلوّ الأخلاق معنى ومغزى؟ وكيف نرى قضايا الحياة الأسمى من مصالح المرء الأنانية؟ هذا بعض ما يُعنَى به الصوفيّة.

ومصدر العلم بتلك الأمور الحيوية كلها هو القرآن، ويشير كولن إلى أن الحكمة ملازمة لهذا المصدر الأساسي للعلم، والسنة النبوية -مبادئ بها تُفهم علوم الوحي وتطبق في الحياة اليومية- هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الحكمة أي حكمة النبي ، ويشير إلى الآية القرآنية ﴿اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (سُورَةُ النَّحْلِ: 16/125)، قائلًا: “المقصود بالحكمة دقائق القرآن وأسراره”[15]، فالحكمة في رأيه بجانبيها النظري والعملي هي «المودّة والعطف» في حياة الفرد والجماعة على امتداد العالم بأسره، وبهذا المفهوم يوجه كولن الناس لينتشروا في أنحاء العالم كافّة ليعلموا وينشروا معنى المودة، ويحذّر هنا من أن يكون لنزعة القومية وتطرفها أي أثر فيما يقدمونه من خدمة إنسانية وعمل تطوعي غدا جزءًا من الكرامة الإنسانية العالمية؛ فالمهمُّ التنافسُ في عمل الصالحات كأننا في سباق دون أن نعبأ كثيرًا بأن تكون نتيجة العمل الشاق وثمرته موجهة للإنسانية كافّة أو لشعب معين منها.

وفي توظيف المعارف النافعة والأعمال الصالحة معًا في الحياة العملية يقول كولن: “إن أحدهما نتيجة إرادية للآخر، والآخر بداية قسم من المواهب الجديدة ومقدمة لها”، فعلينا «الحفاظ على الاعتدال، أي إعطاء كل شيء حقه، دون الولوج في الإفراط والتفريط، وإدراك مسؤولياتنا ضمن إطار التكاليف الشرعية وإيفاء حقها»[16].

هكذا يبدو فهم كولن العمليّ للتصوّف والشريعة، وأرى أنه بهذا يوفر الإطار لنظم اجتماعية اقتصادية قانونية جيدة بدلًا من تقديم الشريعة الإسلامية بديلًا لنظام قانونيّ ممنهج، فالشريعة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة يمكن أن تمنحنا نظامًا قانونيًّا يمثل برنامج عمل للحكم السليم، أي يمكن أن تكون أساسًا لا بديلًا للنظم القضائية في القانون المدني أو القانون العامّ، فأيّ نظام قانوني وقضائي فعال لا بد له من التزام أخلاقي وثيق بين الناس وعقلية امتثال متغلغلة في الأذهان، وبدونها تصبح القواعد والتنظيمات الإلزامية مجرد «حبر على ورق».

وأساء كثيرون في العالم بل كثير من علماء المسلمين فهم طبيعة الشريعة الإسلامية العابرة للحدود القومية، فاعتقدوا أنّ نظام الدول القوميّة يتعارض مع المثل الإسلامية العالميّة، ولا شرعية لوجوده في ظل الشريعة، ولا يدرك كثير من هؤلاء أن الدول القومية الحديثة صارت واقعًا في الساحة العالمية وتركة للاحتلال لا نستطيع تجاهلها بسهولة، فيتعين علينا في هذا الواقع أن نجعل الدول القومية أكثر توجهًا نحو الرفاهية لتستفيد منها الأغلبية.

ولا يمكن للمسلمين أن يتجاهلوا هكذا واقعَ الحياة الدولية والنظام الاقتصادي العالمي الذي يملي ويحدِّد كثيرًا من الآليات المحركة للحياة المحلية ضمن نظام الدولة القومية، صحيح أنه من الصعب السير على المثل النبيلة للقيم الإسلامية وأسلوب الحكم الإسلامي في ظل نظام الدولة القومية إلا أن تجاهل واقع هذا النظام سيمثل سلوكًا مناوئًا للدول المجاورة بل قد يعود بالضرر على مُثُل الإسلام، ويفرز مشاعر قومية متطرفة، بل قد يضر بالمصالح الاقتصادية لأي شعب؛ ومع هذا تلعب بعض القوى العظمى بورقة الانتماء القومي في مجال السياسة الدولية، ولا تحترم سيادة الآخرين؛ ولدى بعض علماء المسلمين خلط شديد في مفهومي سلطان الله  على الكون بأكمله وسلطان الدولة، إذ يرون أن الدولة القومية الإسلامية يمكن أن يكون لديها دستور إسلامي مثالي[17]، لكن مصادر الشريعة الإسلامية تختلف جذريًّا عن أي نظام قانوني آخر:

“قد تقول الدولة أو لا تقول إن قانونها ديني أو يتفق مع شريعة دينية معينة، لكن قانون الدولة له مدى جغرافيّ محدود عادةً، والكثافة السكانية التابعة لشريعة دينية معينة حريّ بها أن تكون عابرة للقوميات إلى حدٍّ كبير، فمن الناحية التحليلية يمثل التمييز بين القانون الوضعي والعرفي إشكالية، لا سيما عندما ننظر إلى الأساس النهائي لقانون الدولة”[18].

وثمة أسباب كثيرة معروفة جعلت العلماء والفقهاء يختلفون مع النظم القانونية للدولة القومية، لكن الواقعية في خطاب كولن ذات مكانة مهمة، نظرًا لأن الدول القومية حقيقة سياسية واقتصادية في عصرنا، وأن المشكلات الكبرى في كثير من الدول القومية يمكن علاجها بصورة أفضل إذا اتفقنا أن الإنسان كائن روحي في المقام الأول، وأن المدخل الروحي في علاج المشكلات القائمة يجعل حياة كل إنسان أكثر يسرًا وسعادة؛ ولبلوغ هذا الهدف يمكن للمبادئ العالمية للشريعة الإسلامية أن تساعد المسلمين في العثور على منهج أفضل وأكثر واقعية لتحقيق الحكم السليم وسيادة القانون.

يبدو تاريخيًّا أنَّ بداية تأسيس الصحابة للدولة كان في جزيرة العرب غيرَ أنّ هذه مرحلة انتقاليّة سبقت تحويل الدولة من جزيرة العرب إلى كِيانٍ سياسيّ دوليّ كان معروفًا في السابق للعرب ولبقية شعوب العالم، إذ كانت فكرة الإمبراطورية قائمة حقًّا، أما مفهوم عولمة سلطة الدولة فلم يكن قد ولد بعد، وكان على المسلمين العرب وغيرهم أن يكُونوا كالرأس من الجسد في تمثيل مُثُل الأمة التي ستؤسس دولة أعلى من القومية تمثِّل دار الإسلام للمسلمين جميعًا.

من الممكن أن تجد الدول القومية المتجاورة نفسها في حالة حرب، لكنّ الدول الإسلامية المتجاورة يفترض أن تعيش كالأشقاء على أساس مبادئ القرآن والسنة، ولكن لم يكن الأمر دائمًا كذلك عمليًّا، فالدول الإسلامية حارب بعضها بعضًا للغلبة والسيطرة القومية أو لخلافات إقليمية؛ ولا تعني حدود الدولة عند الصوفيّة شيئًا للفرد المسلم ولا لنجاته الروحية في الدنيا والآخرة، فالمسلم الحق هو من يؤمن بضرورة التعاون بين الدول الصديقة منها والمعادية؛ فالصوفي لا يعادي أحدًا لأسباب مادية أو شخصية بحتة، ولا ينبغي للخلاف أو العداوة أن تؤدي إلى أيِّ صراع عنيفٍ مع الآخرين، فينبغي أن تتوقف أشكال الحرب كلها فورًا، لكن يصعب جدًّا شرح هذا الموقف الصوفي أو الدعوة إليه في عالم تبني فيه معظم القوى الكبرى نظامها واقتصادها على أساس الحرب؛ يقول كولن: “ثم كلما تعمق بتوحيد الفكر وتكثيف الهمة، أدرك أن الموجودات كلها ما هي إلّا تجلٍّ من ضياء وجوده سبحانه، وإذا به يصل إلى أفق متباين  لتقييم جميع الكائنات وما فيها من الأحداث بملاحظة توحيدية خالصة، فيدرك كل شيء بخواصه المستورة ويحظى بتحليله”[19]؛ فما أشدّ حاجتنا إلى هؤلاء الصوفية الأقرب إلى مسلك الأولياء في خضم الخلافات الإقليمية والنزاعات العرقية، فمثلًا تاريخيًّا بعد سقوط الخلافة العباسية سنة 1258م اقتتل الجيشان الفارسي والتركي للسيطرة على بغداد، فقُضي على التآلف والانسجام بين الشعوب الإسلامية، واستثمارًا للدين في مطامع سياسية تحولت فارس عن المذهب السني إلى المذهب الشيعي، وخرج المسلمون هناك عن المسار العام للحركات الصوفية الإسلامية، ومع هذا ظلت الصوفية حركة حية في رقعة كبيرة من العالم الإسلامي، وخاصة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا والمغرب العربي «شمال غرب إفريقيا»، وسادت طرق صوفية حديثة أو محافظة الحياةَ الثقافية الاجتماعية في العالم الإسلامي قبل الاحتلال الأوروبي رغم تراجع الحركة الصوفية في مناطق كثيرة من العالم.

وفي عهد العثمانيين لم يواجه الصوفيّة أية مشكلة في التواصل عبر الحدود، وتَعَرّف صوفية الأتراك على الطرق كلها في البلدان الأخرى؛ وفي ظل الحكم الإسلامي قد يبدو أن المسلمين عامّة ليسوا بحاجة للحركات الصوفية، لكن كولن يخالف هذا، ويرى حاجة مستمرة للمربين من الصوفية للحفاظ على توعية المسلمين بحقائق أكثر عمقًا في القرآن والسنة: «ولقد راجع الفقهاء والمحدّثون والمفسرون القرآن والسنة في ضوء أصول وقواعد تستند من حيث الأساس إلى عهد الرسالة الزاهر، وصنّفوا في ذلك آثارًا جليلة كلٌّ في ميدانه، كما أن الصوفيين بمرجعية القرآن والسنة أيضًا، أظهروا اجتهاداتهم في مسائل استخرجوها من هذين المصدرين الأساسين مما يتعلق بالرياضة والمجاهدة والمراقبة والحال والمقام»[20].

ومنذ الثورة الصناعية أصيبت بلدان إسلامية كثيرة بعقدة نقص لعدم استخدامها المكتشفات والابتكارات العلمية في بناء الدولة وغيره من الأهداف، فوقعت مناطق إسلامية كثيرة في العالم تحت الهيمنة المباشرة المطلقة لقوى الاحتلال الأوروبيّ، وكان المسلمون يومئذ أقل قدرة على الابتكار في نظم الإنتاج والتوزيع للتنافس مع نظرائهم الغربيين، ويؤمن كثير من العلمانيين المتشددين في العالم الإسلامي كنظرائهم الغربيين بأن التصوف وإرشادات القرآن حول الرذيلة والفضيلة عائق رئيس يحول دون التقدُّم والرخاء الاقتصادي والعلميّ للشعوب الإسلامية.

ولطالما كرر كولن بأنَّ المعرفة الجيدة في فروع العلم والتكنولوجيا كافة أداةٌ فعالة جدًّا في فهم القرآن، وهذه ليست بدعة محرمة، فهو يؤكِّد أنه لا نجاح في هذه الحياة ولا في الحياة الأخرى بدون نظرة متوازنة إلى الحياة والعلم والواجبات الدينية ومسؤولياتنا تجاه من حولنا؛ وربما يرى متشددون في كل جماعة دينية أن الصوفية مرفوضة لانفتاحها وأسلوبها المتسامح مع الناس جميعًا، ويقول آخرون: إن الصوفية يولون اهتمامًا لا داعي له لأسرار في الحياة الروحية لا تفهم بوضوح؛ أما كولن فيرى أن الطريق الروحي له خصائص وسمات دقيقة جدًّا تميزه، وأن على الناس المشاركة الفعالة الدؤوبة في هذا الطريق للسير أو الرقيّ الروحي، فهو لا حدود له، وله مراحل ودرجات بعدد المؤمنين بداية من النبي الكريم سيد الخلق حتى أقل المؤمنين شأنًا.

“والتصوف طريق مفتوح إلى المعرفة الربانية وعمل دائب جاد، لا محل فيه للهزل واللامبالاة واللهو والعبث، وكيف يكون ذلك، فأساسه يستند إلى تشرب شَهْد المعرفة الإلهية وانتقاشها في القلب، كالنحل غاديًا ورائحًا بين الخلية والزهرة.. وتطهير القلب من الأغيار.. وفطام النفس عن ميولها الجبلّية.. وإخماد الصفات البشرية بالانغلاق التام تجاه الرغبات البدنية والجسمانية.. والبقاء دومًا متفتحًا أمام الروحانيات وإمضاء عمره على خطى سيد الأنام .. والتخلي عن مراداته لأجل مرادات الحق سبحانه.. واستشعاره بحضوره تعالى لمعرفته أن الانتساب إلى الحق سبحانه أعظم مرتبة”[21].

إن بلوغ أي نوع من الكمال في الدين والتزكية الروحية لا يتحقق في يوم وليلة، بل هو جهاد متواصل مدى الحياة من أجل الإثراء الكامل للشخصية الإنسانية بكل طريقة ممكنة على المستويين الفردي والجماعي، وشأن التضحية في سبيل الله أن تجلب منافع ظاهرة وباطنة للفدائيّ ومن يحيط به.

الخضوع لله وسمو الروح الإنسانية:

الخضوع لأوامر الله لدى كثيرين نوع من العبودية الروحية أو العقلية تسلب الحرية من حياة الفرد ليس أكثر، ولا يدركون أن المرء يتذوق فعلًا متعة النجاة العظيمة بعبوديته لله، فيتحرر بذلك من عبودية شهوات المتع الدنيوية التي لا تنتهي، وهؤلاء يرون أن السلطة التنظيمية للقانون تسلب الحرية الإنسانية، لكنها في الواقع تكفل للناس جميعًا حق التمتع بالحرية بلا ضِرار.

يحاول الصوفي أن يستسلم «لمشيئة الله» دون نظر إلى الكسب والخسارة، فإذا بأشكال شتى من المنافع تأتيه من مصادر إلهية، فالقناعة الصوفية تقول: لكلِّ البشر والمخلوقات مَدَدٌ من نِعَمٍ إلهية يستحيل بدونها بقاؤهم في الأرض، فمع فضل الله على البشر أيّا كان دينهم بهذه النعمة الكونية ثَمّة مبدأ قرآني عام هو مبدأ الثواب والعقاب بما كسبت يدا الإنسان، فلا وجود في الإسلام للعقاب الجماعي ألبتة، فلا يثاب أحد أو يعاقب إلا بخير أو شرّ نجم عن أفعاله هو، والآيات التالية تصرّح بتلك القاعدة الكونية قاعدة الثواب والعقاب للبشر جميعًا: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/164)[22]، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (سُورَةُ النَّجْمِ: 53/39).

هنا يمكن للمرء أن يلاحظ اختلافًا لافتًا للنظر بين المفهوم الإسلامي والعقائد والمذاهب القانونية الأخرى في أمر الثواب والعقاب، فالإسلام لا يحصر الثواب والعقاب بالآخرة وفقًا لأعمال المرء في حياته، بل الأمر أعمّ من ذلك، يشمل الطمأنينة والاضطراب في الروح الإنسانية والسلامة العقلية والجسدية لأي فرد، والمشكلة عند كثيرين أنهم يجزئون الجزاء كما لو أن الله لن يجازي أو يعاقب أحدًا في الدنيا، وأن ثوابه وعقابه بعد الموت فحسب.

هذا تصور خاطئ لمفهوم «الخضوع لله» وآثاره في الإسلام، فالمسلم وغيره يمكن أن يحصل على المنفعة أو الثواب في الدنيا أو الآخرة إذا أطاع سنن الله في الأرض، ولا يمكن للمرء في الآخرة أن يهرب من خزي وذلّ يلحقه بمعصيته لأوامر الله، وهذا يعني أن على المرء أن يخلص العمل طول حياته لتطهير سريرته وأفعاله، وما أكثر النعم الإلهية في الأرض التي أراد الله أن يتمتع بها الخلق أيًّا كان عرقهم أو دينهم أو جنسهم، لكن سوء استخدام أي نعمة إلهية له عواقب وخيمة كثيرة تبدو كأنها عقوبات إلهية.

وللزمن دور بالغ الأهمية في هذا، فما نراه أو ندركه أمام أعيننا ليس هو نهاية المطاف، وما يتكشف من حوادث له أهمية أكثر من المعاناة أو المتعة الحاضرة التي يمر بها المرء، وهذه رياضة روحية في منتهى التعقيد، فحينما يقترب العبد من ربِّه جل وعلا لا يمكنه أن يتعالى على الآخرين لأنهم ليسوا كذلك؛ وقد يُذهل أهل النعمة ممن سلكوا مسلك التقى والورع من مكاشفة الأسرار والخفايا التي تحيط بنا يوميًّا، ويشرح كولن هذا الموقف المركب في ضوء مصطلحات التصوف عن الدَّهشة والهيمان[23]، ويخالف بدقّة عالية مَن يتشدد ويتزمت ويعتقد أن الإسلام ليس به شيء من الدهشة بعطايا ربانية يكاد الإنسان يفقد عندها السيطرة على نفسه برهة من الزمن:

“وقد عُرّفت «الدهشة»، أنها بقاء الإنسان مبهوتًا مأخوذًا أمام أية حادثة كانت، عاجزًا عن استيعابها بعلمه وإدراكه، نافدًا صبره.

والهيمان لدى أرباب التصوف: هو ذهول السالك العاشق عن نفسه وفقده سيطرته على إرادته بالتجلي الفجائي والمواهب الإلهية التي تحيط بقلبه في أثناء الطريق بسبب استغراقه في الإعجاب والاستحسان والأذواق الروحانية، …وقد حاول بعضهم ربط الهيمان بالآية الكريمة ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ (سورة الأعراف: 7/143) إلّا أنه واضح جدًّا أن مقام الوحي -وهو مقام التلاقي- لا يتناسب مع الذهول والهيمان. وأرى أنه من الأفضل توضيح حادثة الطور من هذه الوجهة أنها ظهور التجلي الجلالي على طول موجة الحقيقة المجردة ماسحًا كل صورة ورسم، مع شعور يخص شخص سيدنا موسى بحيرة ودهشة واعية”[24].

حسن السريرة والنتائج العظيمة

مع تراجع قوة المسلمين العسكرية في أنحاء العالم كافة تحت وطأة الاحتلال وما بعده أصيبت النخب الحاكمة المسلمة بالتخبط والارتباك حتى إنها وجّهت قوتها المسلحة إلى جيرانها بل إلى شعبها نفسه؛ فسقط كثير من علمائنا في عقلنة بحتة للآيات القرآنية مستندين إلى المعاني الحرفية دون معرفة أو فهم الأسرار والخفايا الإلهية التي تحيط بنا في كل لحظة في هذه الحياة، وإنّ هزائم الجيوش الإسلامية أمام العدو خلال القرنين الماضيين كانت تستحقها القوى القومية أو الجيوش الرسمية المسلمة، ولا علاقة لهزيمتها بنهضة الحضارة الإسلامية أو تراجعها، والمشكل أنَّ هذه النقطة الجوهريّة لم تتضح في أذهان المسلمين؛ فعوامل المجد الرئيسة في إعلاء راية الحضارة الإسلامية تمثلت في أشخاص نذروا أنفسهم لتحقيق نظام عادل في جوانب الحياة الإنسانية كلها لا سيما النظام القضائي، وهؤلاء عند كولن هم “أطبـاء الروح والمعنى المنفتحة قلوبهم على سـاحات العلم والذكاء والعرفان والواردات والفيوضات كلها، من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الرياضيات إلى الأخلاق، ومن الفنـون الجميلة إلى التصوف، ومن الكيمياء إلى الروحانية، ومن الفضائيات إلى الأنفسية، ومن الحقوق إلى الفقه، ومن السياسـة إلى السير والسلوك”[25]؛ إذًا مفهوم التصوف عند كولن واسعٌ جدًّا، فالسريرة من هذه الزاوية مفتاح لتحقيق أعظم النتائج في الدارين.

وما يحدث اليوم من توجيهِ جُلِّ الاهتمام إلى منفعة شريحة ضئيلة في بلد أو منطقة سينتهي بإفلاس الدولة أو البلاد بأكملها، وكم من أمم وجماعات إثنية نجحت من قبل بإمكانيات يسيرة في تقديم الكثير لتعزيز دين معين أو حضارة معينة بينما نجد أعمال الدول الحديثة المدمرة تفزع وتروع جميع المحبين للسلام.

“الناس اليوم أكثر ثراء مقارنة بالقرون السابقة، ويتمتعون بقدر أكبر من وسائل الراحة والرفاهية، إلا أنهم سقطوا في هُوّة الجشع والافتتان والإدمان والاحتياج والوهم أكثر بكثير من أي وقت مضى، وهذه حقيقة لا ريب فيها. وكلما أشبعوا شهواتهم الحيوانية زاد جنونهم بإشباعها أكثر؛ فيظمؤون كلما شربوا، ويزدادون شَرَهًا كلما أكلوا، ويُسلمون الروحَ للشيطان في مقابل أخس المصالح والنزوات، ويدخلون في تكهنات لا يتخيلها عقل طمعًا في مزيد من الكسب المادي؛ فيبتعدون شيئًا فشيئًا عن القيم الإنسانية الحقيقية”[26].

ولكي يصبح المرء إنسانًا حقيقيًّا عليه أن يتحلَّى بصفاتٍ حميدةٍ إلهيَّة المصدر في سعي دؤوبٍ لإسعاد الآخرين، يمضي فيه حتى منتهاه.

وتعد قضايا العدالة ركنًا لكلِّ الأطراف التي تتلاقى وتتجاور قصدًا أو اتفاقًا، ومفهوم العدالة في الإسلام ليس صلبًا جامدًا ولا مطاطًا يُستغل في المفاسد أو الأغراض المناقضة لمصالح الناس؛ وتسعى بعض المؤسسات الإسلامية من قناعتها بأن الإسلام دين العدالة والتحرير للبشر كافّة إلى تطبيق القضاء الإسلامي وتطهير النفوس بتحقيق العدالة الجنائية في المجتمع بطوائفه كلها، لكن الله بين لنا أنه لا إكراه في الدين، ومنظومة العدالة الجنائية جزء يسير جدًّا قد يصل إلى 1% من المنظومة العامة للمجتمع والدولة؛ فمفهوم الخضوع لمشيئة الله واسع جدًّا، ولا بد من فهمه بأبعاده كلها حسب الواقع العملي للأفراد والدول المعنية.

“وأي منظومة فرعية في أي مجتمع إسلامي هدفها وضع إطار إسلامي للحياة، فإذا كانت التنمية تعني التغيير في اتجاه مرغوب فهدف التنمية في الإسلام هو الانتقال من الكفر إلى الإسلام؛ وهدفها في السياسة والاقتصاد والمجتمع بلوغ المثل الإسلامية العليا، وفي الإدارة الإسلامية تعظيم القيم الإسلامية الإنسانية ومن أهمِّها العدل والإحسان”[27].

إن قدرات الفرد واكتشاف الكون والمجرات دائمة التمدد والاتساع محدودةٌ جدًّا، لكن إمكانياتنا نحن البشر كثيرًا ما تبدو غير محدودة، ومع ذلك فنحن -المجموعة التي تقوم بعمل منتج- لا بد أن نرتب أنشطتنا حسب الأولوية، وهذا فيه صلاح لنا ورفاهية لغيرنا وللمجتمع أجمع؛ لكننا نحن -المجموعة الفرعية من العاملين أو الهيئات المهنية- لا نستطيع أن ندخل في كل مجال من مجالات التخصص في الوقت نفسه، فهذه ليست مسألة حرية أو كرامة إنسانية بل قضية على البشر جميعًا أن يتعاملوا معها لتحقيق أفضل فائدة بما لديهم من وقت وطاقة وموهبة خلال فترة محدودة متاحة لهم منذ بلوغهم سن الرشد وقدرتهم على الإبداع في هذه الحياة.

ومن الخطأ الاعتقاد بأن التسليم بمشيئة الله يجعل الإنسان عبدًا لنخبة دينية أو لحكومة لاهوتية، فتشريع الإسلام في الحلال والحرام منظومة لتوسيع نطاق الحرية الإنسانية دون الإضرار بالآخرين، فهي منظومة تمنع الفوضى على المستوى الحكومي والفردي، غير أن كثيرًا من علمائنا اليوم لم يتمكنوا من المقارنة الدقيقة بين السلوك الإنساني المتسيب والأعمال الفوضوية التي تمارسها نخبة عسكرية حاكمة؛ واستخف كثير منهم بأهمية العقل العلامة المميزة للإنسان، وخدعوا أنفسهم بزعمهم أن الوصول إلى الله بهدي النبوة ممكن دون استعمال الموهبة والحكمة التي منحها الناس، وهنا يمتاز تصور كولن للتصوف في استكشاف مختلف السبل والوسائل للوصول إلى الله:

“اليقظة تعني لغة: الانتباه والإفاقة، ولدى أرباب التصوف تعني: التيقظ والانتباه والدقة إزاء أوامر الحق تعالى ونواهيه من حيث المبدأ؛ ومن حيث المنتهى -للمحظيّ بألطاف إلهية- هي الحفاظ على الاستقامة الفكرية والروحية تجاه واردات مقامات ومراتب مختلفة من دون الوقوع في التباسات، والبقاء على بصيرة دائما”[28].

ومن الهراء في نظر كولن أن يُنظر إلى الصوفية بأنهم جبريون كسالى هَمّهم مجالس الذكر لا غير، فلا مكان للجبرية في الإسلام عنده؛ فأصحاب هذه الفكرة (الجبرية) يرون أنفسهم كالجماد؛ لكن كولن لا يدافع عن الصوفية جميعهم، بل يخصّ بالمدح من يحاولون ما استطاعوا اتباع هدي الكتاب والسنة، فالقرآن لطالما أخبرنا وأوصانا بطرق شتى أنه لا أمان ولا نجاح لأحد في رحلته إلى الله بدون اليقظة التامة. نعم، نقد الذات ومحاسبة الإنسان نفسه قد يورث بعض القلق المؤقت والحزن أيضًا، لكن كولن يرى المحاسبة وكأنها قنديل في عالم المؤمن الداخلي، وناصح أمين في وجدانه[29]، وحفظ ذلك النور يقتضي أن يكون المؤمن يقظًا دائمًا في وجه قوى الشيطان أو الأشرار ممن لديهم استعداد دائم لفتق الجراح في قلوب الآخرين وعقولهم، وفي مواجهة المصالح الوطنية والدولية التي تقلقنا جميعًا، يقول كولن عن نقد الذات ومحاسبة النفس:

“يمكن أن نعرّف المحاسبة أيضًا بأنها اكتشاف الإنسان بنفسه، جوانبَه اللدنّية وعمقَه الداخلي وسعة معناه وروحه، ومعرفته لهذه الجوانب، ومن ثم القيام بتحليلها وإظهار مكنونها، فهي بهذا المعنى جهدٌ روحي، ومخاض فكري في سبيل استخراج قيَم الإنسان الحقيقية، وإنماءٌ للمشاعر التي هي أسس هذه القيم والحفاظ عليها، ولا يمكن أن يحافظ الإنسان على استقامة الوجدان إلّا بمثل هذا الجهد والفكر، اللذين يمكّنانه من التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والنافع والضار، مما يتعلق بأمسه ويومه وغده”[30].

ويحاول كثير من العلمانيين الغربيين وغير المؤمنين تحاشي الطرق الفاضلة التي تسير فيها الصوفية أو أي طريقة لحياة إسلامية معقولة كذلك؛ لأنهم لن يتمكنوا من الاستمتاع بهذه الحياة الدنيا كما يشتهون، ولكن النظرة النهائية تَعُدّ طريقة الحياة المنضبطة المتوازنة أفضل من المبتذلة المتسيبة؛ وانطلاقًا من التوحيد الخالص تغدو المعاناة أو المشقة في الحياة مفيدة للمؤمن القوي في سعيه نحو درجة أعلى من الكمال في العقيدة والعمل الصالح، هكذا يرى كولن:

“الحزن حِمىً، يحُول دون تشتت جهاز قلب الإنسان وعالم مشاعره في وديان الغفلة، وسورٌ يحفظ الارتباط الوثيق بالحق تعالى، وبهذا يكون الحزن طريقًا لا مناص منه إلى التركيز، بحيث إن السالك الحزين، بفضل التوجّه الاضطراري هذا، يمكنه أن ينال من المراتب في الحياة القلبية والروحية وفي أقصر وقت، ما يعجز عنه الآخرون في «خلوة الأربعين» مهما تكررت”[31].

إذًا ليس من المهم والمتاح للمسلمين جميعًا في العالم أجمع بلوغ مستوى مشابه من الإيمان الراسخ بالتوحيد أو طرق طاعة الله وتلقي نعمه المنتشرة في عالمي الغيب والشهادة، بل أهم شيء في الحياة عدم التسبب في إضرار الآخرين حتى المخلوقات البعيدة عنّا، فعلينا فعل أقصى ما يمكن من الخيرات لأنفسنا وللآخرين من حولِنا أو الجُنُبِ عنَّا.

الصوفية بين البسط والاطمئنان

من أشهر شبهات الغرب أن المسلمين عندهم خوف شديد من الله، أمّا النصارى فالرب عندهم هو رب المحبة. نعم، الإله لا يختلف باختلاف الشرائع والناس، فالله واحد أحد منزه عن الجنس والعدد، لكن أتباع الشرائع كثيرًا ما يحاولون تصوير إلههم بأنه يختلف عن إله الآخرين ليثبتوا علو إلههم؛ أما المسلمون بوصفهم مؤمنين بالحساب فيدعون الله بقلوب ملؤها الخوف والشوق أيضًا، ويتتبعون الهدي الإلهي، ويتوكلون على الله، فيشعرون بانبساط القلب النابع من الرجاء، ويعلمون أنهم إذا اتبعوا الهدي الإلهي فلا خوف عليهم في الآخرة إن شاء الله تعالى، فيبذلون أقصى ما لديهم ليراقبوا الله في حياتهم كأنهم يرونه «فإن لم نكن نراه فإنه يرانا».

إن الله هو الحق المطلق لا يحتاج إلى ما يثبت علو مكانته، فكم من الأدلة على قدرته المطلقة وإحاطته بكل الأشياء وما يدور من حولنا، وعالم المخلوقات ليس ما نراه فحسب، فقد عرفنا الإسلام بقوى خفية كثيرة في الكون وما حوله وفي المجموعات الشمسية، ويؤكد القرآن كثيرًا أن كل ما في الأرض والسماء خلق من أجلنا، ويخص الصالحين والصالحات بأنهم لا يمسهم من خلقه سوء ولا ضرر.

ولم يستطع بداية كثير من قراء القرآن أن يصدقوا أن للبشر قدرة على تكثير القوى العديدة من حولهم، واستغلالها فيما ينفعهم وفي صنع كثير من وسائل الفناء، فكل شيء يمكن أن يتكاثر بالتعاون بين القوى أو بدونه بأن يتكاثر عن طريق إنتاجه هو، والباعث لكل إنسان في سعيه إلى نشر ذريته أو إلى القضاء على أعدائه في الأرض هو الرغبة في ضمان الحياة أو السعادة الأبدية، لكن القرآن ينبهنا بأن هذا ليس سبيل السعادة والعظمة، فلا مسوغ لاضطهاد أي إنسان في أي مكان جريًا وراء الأوهام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/10)، ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/14).

فنعمة الله ورحمته عامّتان، ولكن هذا لا يعني أن الله لن يعاقب من يحيك المكايد، ويرتكب الشر ضد أبرياء أو أشياء هي مظهر للنعم الإلهية في الأرض. نعم، يعجب كثيرون قائلين: كيف يمكن للإله الرحيم أن يقسو بعقاب من اكتسب إثمًا، فهل هذه مفارقة إذ قضى الله بالنقص في البشر وقيد حريتهم في إدراك جوهر الوجود الإنساني وعلاقته بالله وبالكون؟!

إن التفكير البشري الساذج قاصر في كثير من الجوانب؛ وهذا يؤدي إلى كثير من الفهم الخاطئ حتى في القضايا المادية في الحياة، فما بالك بالعوالم الروحية الأكثر تعقيدًا في فهم واتباع التوجيهات الخفية التي ينطوي عليها كلام الله؟ لقد فوض الله كثيرًا من الطاقات والقدرات لمنظومة القوى الطبيعية وللجنس البشري عامّة وللأمم والأفراد خاصّة، وأرشد الناسَ بالأنبياء إلى ضرورة العناية بالمهتدين ونبذ ما في غيرهم من خصال ذميمة؛ ولتوضيح هذا أكثر للعامة يكرمنا القرآن بقصص السابقين، فمعظم الناس المؤمنين وغيرهم يعرفون أن في القرآن كثيرًا من القصص المذكورة في الكتب المقدسة الأخرى.

ليس سهلًا أن نفهم حكمة سرد القصص في الكتب المقدسة، ومن السهل التلاعب بتفسير آيات معينة في أي كتاب ديني وإساءة توظيفها لأسباب أو مصالح شخصية، دع عنك بعض التناقضات الواضحة، فكثيرًا ما نجد عبارات وأحكامًا معقدة ومركبة في تفاسير الكتب المقدسة، وهذا مردّه قصور في طريقة التفكير أو التفسير، وليست لدينا طريقة تجريبية تستطيع فهم ما يقوله الله في تلك الكتب بدقّة، كما أن الأفكار المسبقة لشخص أو جماعة قد تؤدِّي إلى تأويلات مختلفة فيما يستنبط من عبارة النص أو إشارته في الكتب المقدسة؛ وفي الأمثلة التي يقدمها رسول الله  لتأويل الآيات ما يزيل تلك المعضلات، وإذا بلغ الناس الغاية في المعرفة والإخلاص والدّقة عند البحث عن أسرار المعاني العميقة لرسائل الكتاب والسنة فقد ينعمون بمعرفة خاصة ونمط حياة أعلى وأسمى، ولكن ضغوط الوضع السياسي والاقتصادي غيَّبت حتى عن العلماء الرسائل الأساسية الكليّة للقرآن.

ويرى كولن أن التفكير الإنساني السطحي قد ينتج حيرة وجدلًا في الرسالة القرآنية. نعم، قد يجد قارئ القرآن مفردات لغوية في القرآن ظاهرها التناقض غير أن الدراسة الدقيقة تكشف أنها دلالات على أن العواقب تختلف باختلاف نوعية الأفعال والمواقف، ولا يمكن قصر جوهر الرسالات على تلك التعبيرات، فالمبدأ الجوهري الذي نعتمده نحن المسلمين المخلصين للصمود أمام مكر الأشرار المعروفين هو هو، أما غير المعروفين فقد ذكر الله مرارًا أن من جنود ربك من يقينا ممن يمكرون السيئات لمحو الإنسانية والألفة بين الجماعات والمجتمعات المدنية، ويشير القرآن لتلك النقاط في حوادث وقصص وردت في الكتب المقدسة الأخرى أيضًا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ۝ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ۝ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 14/5-7).

كثير من علمائنا بحاجة إلى تدريب جيد يفي بالتعامل مع الازدواجيات الأيديولوجية التي تتراءى لأول وهلة في مواضع من القرآن وفي هذه الحياة؛ فبعض الكُتّاب ذوي الخلفيات الدينية لا يفهم المعنى الأعمق لعدالة الله بمآلاتها الكاشفة عن كثير من النعم والمظاهر القاسية لمنظومة العدالة الطبيعية؛ فاجتهد كولن وأبحر ليفهم ويُفهِم محبّيه كيف يمكن السير في أعمالهم على السبل المباركة التي شرعها الله، وكيف يمكن حماية الناس من مخططات القوى الشيطانية الشريرة ومكايد المفسدين المضرة بالناس وببيئتهم.

ولا يمكن لأي متكبر أو جاهل أن يسير على طريق الحكمة والعمل هذا. نعم، الإسلام ليس اسمًا للمثل والمبادئ، بل هو رؤية لحياة أفضل وأطهر من أجل الناس جميعًا أيًّا كان العرق أو الدين أو الجنس، فالعثور على هذا الطريق فرض عين والدعوة إليه فرض كفاية.

“إن الذين حدّدوا موقعهم أمام الله سبحانه، هم في توازن دائمي سواء في حياتهم الدينية أو في علاقاتهم ومعاملاتهم مع الناس أو في مراقباتهم النفسية الخاصة بهم”.

“…وقد ربط القرآن الكريم بآياته المختلفة، كون المؤمن مؤمنًا حقًّا، بمدى تنسيقه لكلامه وسلوكه وعالمه الداخلي بل جميع أطواره وفق الصدق، ومدى نسجه لها جميعًا حول الصدق، وكذلك أكدت الآيات الكريمة أن هذا التنسيق والتنظيم بالصدق هو أساس سعادة الدنيا والآخرة[32]”.

وكولن على قناعة راسخة بأنه من السهل الدعوة إلى التشريع والقيم الدينية على أساس رسائل القرآن الظاهرة والباطنة، ولكن ما أصعب إدراك قيمتها أو اتباعها في سياق الواقع السياسي والضيق الاقتصادي، ففي الحديث الشريف: “لَنْ يُدخِل أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ[33]، وبرهن الإسلام بشتى الطرق على أنه لا ولاية أو قداسة تعد كفارة لذنوب الفرد أو الجماعة أو الأمة، وهذا لا يعني أنه يقلل من شأن القوى والطاقات الروحية للأتقياء الأنقياء، فحياة التقوى تختلف عن نمط حياة الفسق التي تغوي أيّما غواية وتشبع هوى أصحاب الذنوب.

وليس في جهاد محبّي كولن الفكري والروحي أية رغبة في الحكم أو السياسة في تركيا أو غيرها، لكن خُطَب كولن وكتاباته حرب فكرية مبتكرة دقيقة جدًّا ضد ألاعيب حفنة سياسية وعسكرية للاستيلاء على المال العام، وهو يفرق بين مشيئة الله المطلقة ومنظومة العدالة القائمة للقوى الإلهية أو الشيطانية في الأرض وفي المجموعات الشمسية المعروفة للعقل وغير المعروفة[34].

والمؤسف أنَّ حكوماتٍ إسلاميَّة كثيرة ما زالت تتصرف بطرق غير مسؤولة ألبتة، وتسيء إدارةَ المال العامّ، فإذا بكثيرين لا يجِدُون كسبًا طيبًا أو تصيبهم عدوى الفساد، ولا علاقة لهذا بسوء فهم المسلمين للنظام الديمقراطي أو سيادة القانون كما يظن أكثر الغربيين، فجل الزعماء وحكام المسلمين لا يكترثون بشعوبهم مطلقًا، ومن مؤشرات وجود هذه الظاهرة الاعتقاد السائد بين النخب الحاكمة وأوساط المال والأعمال الحديثة بأن معظم الجماهير عبء اقتصادي لا لزوم له، وتحويل ثروات الشعب إلى الغرب لحسابهم الخاص، يقول يلدريم:

“خلافًا لما في معظم أنحاء العالم تسود في الشرق الأوسط فكرة الدولة المستأجرة لوفرة الثروات والطاقة الطبيعية، وهي لا تعتمد على رعاياها في مواردها المالية أي الضرائب، فتحصل الدولة والنخبة الحاكمة على مواردها من بيع الثروات الطبيعية في الأسواق العالمية… ويؤدي عدم اعتماد الدولة على المجتمع إلى غياب المساءلة الديمقراطية أمام الشعب”[35].

نعم، نظام الدولة القومية في تركيا استثناء من هذه الظاهرة، فهي تفصل تماما بين آليات الدولة والمصالح المجتمعية، فرغم كل أشكال الإيذاء السافر والعنيف لمشاعر الجماهير الدينية استطاع المفكر «فتح الله كولن» أن يدعو شعبه بنية حسنة وإشارات فياضة بالمودة إلى محاولة التوحيد بين المجتمع والدولة بدلًا من إدخال قضايا يغلب عليها الطابع الديني في السياسة وألاعيبها، وهذه الحكمة تفتقر إليها الحركات الإسلامية المعاصرة في مناطق كثيرة من العالم.

إن صلة الروح الإنسانية بخالقها مسألة دقيقة ورقيقة، فلولا الجمع بين الخوف من سخط الله ورجاء محبته ورحمته في القلوب لما صمدت أية قضية عظيمة في الأرض طويلًا، ولولا الطمأنينة العظيمة عند الفرد لما استطاع بلوغ الدرجة الأسمى وهي الرضا، ومعناها الاجتهاد الدؤوب لتحقيق الأفضل في أسوأ الظروف، وبناء حياة ناجحة بلا معصية.

ويُعدّ كولن مثالًا مضيئًا في هذا المقام؛ فهو لم يخرج على حكومته أو شعبه قط، بل حقق أهدافًا دينية وروحية لم يستطع كثير من الدعاة والسياسيين المعاصرين إدراك قيمتها الحقّة.

 

[1]  جلال الدين الرومي: الديوان الكبير، رقم الغزل: 563.

[2]  فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الخُلّة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول  2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 268-275.

[3]  فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الولي وأولياء الله»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول  2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 72.

[4]  فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 22.

[5]  http://fgulen.com/en/press/interviews-claims-and-answers/25016-claims-and-answers

[6]  Ali Ünal, «Foreword,» Key Concepts in the Practice of Sufism: Emerald Hills of the Heart, Vol. 3, M. Fethullah Gülen, New Jersey: Tughra Books, 2009, p. ix.                                                                                                                                                        

[7]  Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. x.

[8]  Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. xii.

[9]  فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 20.

[10]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 22.

[11]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 14.

[12]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 14.

[13]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 25.

[14]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 27.

[15]   فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-2، «الحكمة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول  2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 34.

[16]  فتح الله كُولَن: المصدر السابق، «الحكمة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول  2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 32-34.

[17]  See A.B.M. Mahbubul Islam, Islamic Constitution: Qur’anic & Sunnatic Perspective, Dhaka: Professors Publication.

[18]  Gordon R. Woodman, «Globalization, Social and Religious Diversity, Legal Pluralism: Can State Law Survive?,» Law Journal, issue 15:2, 2007, pp. 159, 161.

[19]   فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-2، «الفناء في الله»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 151.

[20]  فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 19-20.

[21]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 14.

[22]  جاء ذكر هذا القانون الأخلاقي الكوني خمس مرات في القرآن الكريم. انظر أيضا الآيات: سورة الحجر: 15/17، وسورة الكهف: 18/35، وسورة الأعراف: 7/39، وسورة ص: 38/53.

[23]  فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-2، «الدهشة والهيمان»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 47.

[24]  فتح الله كُولَن: المصدر السابق، «الدهشة والهيمان»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 47-49.

[25]   فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح، ص 27؛ ولمزيد من المعلومات انظروا إلى مقالة «ورثة الأرض» في نفس الكتاب، ص 13-17.

[26]   فتح الله كُولَن: سلسلة العصر والجيل-6، أفكار في طور الاخضرار، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 153.

[27]  Abdun Noor, Social Justice and Human Development. Dhaka: Adorn Publication, 2007, p. 95.

[28]   فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-2، «اليقظة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 230.

[29]  فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 39.

[30]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 38-39.

[31]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 70.

[32]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 138، 148-149.

[33]  صحيح البخاري، المرضى، 19؛ صحيح مسلم، صفة القيامة، 17.

[34]  أثبت العلم الحديث وجود مجموعات شمسية مستقلة تبعد عن المجموعة الشمسية التي نعيش فيها بمسافة تتجاوز خمسة عشر ألف سنة ضوئية.

[35]  A. Kadir Yildirim, «Islam and Democracy: A Critical Perspective on a Misconstrued Relationship,» The Fountain, Issue 61, January–February, 2008, p. 15.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.