يقول كُولن: “الأفكار مناطة بالتطبيق وإلاّ بقيت أحلامًا وردية”. كثيرًا ما سجَّلنا للأستاذ كولن واقعيته الفكرية، وقصدنا بالواقعية الفكرية هذا التمثل التوصيفي للواقع، والترصد الإحصائي الحسي والسببي لمكوناته، والتصور العملي لمعضلاته وتعقيداته.

ومن المؤكد أن قطاعاتٍ لا تنتهي من التفكير البشري لا تفتأ تتفق في كل عصر وكل منعطف على تخيل حلول، وافتراض بدائل، يتحسن بها الواقع الإنساني ويستقيم، لكن جلّ ذلك التفكير -لقصور النظرة- يظل مجرد تحويمات فوقية، لا تمتلك قابلية القبض على كيمياء الأوضاع المدنية والحضارية، وتحويلها في الاتجاه الذي يُحدث الانفراج.

الأفكار مناطة بالتطبيق وإلاّ بقيت أحلامًا وردية

نسبة كبرى مما تخطّه أقلامُ المفكرين والأيديولوجيين والمنظّرين هي في الحقيقة صدًى معاد، ونُسخة تتكرر على الدوام، عن حلم المدن الفاضلة؛ إذ يذهب الجنوح التنظيري بأصحاب هذه الكتابات إلى خارج مدارات الواقع، فيخبطون بعيدًا عن الموضوعية، من حيث يحسبون أنهم يُفَعِّلون الواقع، ويضعون أسس تغييره.

لكن ما تميز به فكر الأستاذ كولن أنه يقبض بقوة على مبدأ الواقعية، ويتسم -أصالةً- بها؛ لأنه يعي أهمية الدور الذي يجب على المفكر المسلم أن يلعبه في عهود الخزي التي لا تزال الأمة تعيشها منذ قرنين تقريبًا. إنه دور استنقاذي، استعجالي، يسدد نحو الغايات بلا توانٍ أو تردد، انعطافًا بالأمة نحو الصحوة والمعافاة.

النظرة الموضوعية لدور الدولة

ومن واقعية نظر كولن، أنه يشترط توفر الدولة الحرة لتنفيذ المخطط النهضوي الحضاري، فأهم أركان عملية إنجاز الحضارة -بحسبه- هو الإنسان المؤمن المؤهل، وأقوى أسسها الحيوية هو دولة حرة ومستقلة، وأثمن رؤوس أموالها هو الزمن.

ومن المؤكد أنها نظرة موضوعية، ومتزنة؛ إذ ما أكثر ما رأينا أهل الفكر المعارِض للنظم الشمولية يجعلون في أولوية شعاراتهم الدعوة السافرة إلى الثورة على الدولة، والانقلاب على نظمها؛ توسلاً لتنفيذ أي إصلاح أو تعديل في البنية والمعطيات المدنية. لكن الأستاذ كولن، بواقعية تقديراته، يرى أن دور الدولة أمر أساس في الإقلاع الحضاري، غير أن كولن يشترط للدولة أن تكون حائزة على مقوّم الحرية؛ لأن الدولة الحرة هي المؤهلة لخوض التغييرات الكبرى، وإنجاز الوثبات الأبعد. ذلك لأن كولن صاحب فكر عملي، استمد مقومات تفكيره من خلال ملابسة واقعه الوطني، وارتباطه به، وأيقن أن شمولية الرهانات المصيرية، والتحولات الكبرى، إنما تتحقق على يد الدولة المرَشَّدة التي تدرك دورها، وتنهض به، فتشمل بجناحيها سائر مكونات المجتمع، وتؤهبها، وتدفع بها نحو الغاية الانبعاثية، الأمر الذي يختزل الوقت، ويحقّق النجاعة والفاعلية في تحقيق الأهداف.

ما تميز به فكر الأستاذ كولن أنه يقبض بقوة على مبدأ الواقعية، ويتسم بها؛ لأنه يعي أهمية الدور الذي يجب على المفكر المسلم أن يلعبه

الدولة والإنسان صانع النهضة

حقًّا إن كولن يرى أن الإنسان الفعّال، المتجدد في روحيته وجدارته، هو الطرف الأبرز في صناعة النهضة، لذا فإن خطة تهيئة وإيجاد هذا الإنسان؛ إذا ما تمت برعاية الدولة تكون أسرع وأشمل، عكس ما يكون عليه الحال إذا ما كانت مساعي هذا التهييء والتكوين تجري خارج إشراف الدولة، أو عكس إرادتها، فعندئذ يكون الجهد سباحةً ضد التيار، وتنشأ علاقة الاعتراض والقمع التي تعيق أي صحوة، بل وتصادرها، وتضطرها إما إلى الانطفاء، وإما إلى العمل في جنح السرية والتخفي، مع ما يكون في ذلك من مخاطر على العاملين، ومن ضآلة ومحدودية على مستوى المردود والنتائج العائدة عليها.

من هنا رأينا الأستاذ كولن يقرر أن النهضات تنفّذها الدول الحرة، فهي التي تضمنها وتعطيها الصبغة الوطنية والقومية، بحيث تغدو رهانًا جمعيًّا، ومقصدًا مركزيًّا تتضافر على بلوغه الإرادات الخيّرة والجهود المباركة.

لا ريب أن مبدأ إناطة النهضة بالدولة الحرة -كما رسم كولن- إنما أسَّست له تجربةُ العمر، وتَقلُّب الأوضاع بالأستاذ في مجتمعٍ سارت به سياسة التغريب على طريق الانسلاخ والتفريط في الهوية الأصلية.

أجل، كان الأستاذ يدرك أهمية تلك الأحجار القليلة التي يضعها أساسًا لليقظة، وقيمة تلك الخطوات التي يقطعها بكل جهد وإجهاد على طريق توطيد الصحوة، وكان موقنًا بأن ضم موضع شِبر إلى الأرضية المضاءة بنور الدعوة، هو فتح مبين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: من كتاب “الانبعاث الحضاري”

Leave a Reply

Your email address will not be published.