رؤية كولن للديمقراطية الحديثة

لنا أنْ نطلقَ على عصرنا حِقْبَةَ الديمقراطية التي تديرها التقنية المعلوماتية، أمَّا الأفكار الدينية فليس لها سوى دور ضئيل جدًّا في العالم العلماني الذي يعيش فيه الإنسان الحديث مع اكتشافات خطيرة في العلم والتكنولوجيا.

وتؤمن العقلية الفكرية الحديثة أنَّ المرء بإمكانه القيام بدراسة تجريبية للنظام الديمقراطيّ وسيادة القانون وحقوق الإنسان دون نظر لأية أفكار روحية ودينية، بل يرى بعضهم أنّ الدين كثيرًا ما يضرّ بعملية التطور الديمقراطيّ والتقني، فالأفكار الأمّ في فصل الكنيسة عن الدولة يعدونها حلًّا سياسيًّا لمشكلات عدّة في الاقتصاد والتنمية؛ ولا يحبذ بعض المسلمين خاصة في البلدان الإسلامية النظام الديمقراطي الغربي بسبب موقفه العلماني، ورؤيته المستقبلية للإسلام السياسي، وكانت تركيا أول بلد إسلاميّ يقوم دستوره بالفصل بين الدين والحياة المدنية بشدّة، ويستخدم سلطة الدولة في تحويل المجتمع إلى مجتمع ينفر من المشاعر الدينية؛ فالدستور التركي بُنيَ على أن تركيا بلد علمانيّ يضمن حرية ممارسة العقيدة، غير أن الطيف السياسي فسّر «العلمانية» بشكل مختلف ومتنوع، فمن علمانية لادينية متطرفة جذريًّا إلى غربية تقليدية، وأصل معناها فصل الكنيسة عن الدولة مع مطلق الحرية في الاعتقاد الديني والعبادة، أما العلمانية المتطرفة فهي نموذج استبداديّ يحظر الاعتقاد الديني في الحياة العامة مطلقًا، ولم يرض الشعب التركي بها؛ ولا بهذا المسار الفكري للمجتمع والدولة، الذي يريد للحداثة أن تخرج الدين من الحياة العامة.

ورأت بعضُ المؤسسات الدينية كما في عدة بلدان إسلامية أخرى أنَّ في الديمقراطية مع العلمانية دمارًا للنسيج الثقافي الإسلامي للمجتمع التركي، ورغم ذلك لم يرفض الأتراك معايشة الدولة العلمانية الديمقراطية الاجتماعية القائمة على سيادة القانون، المحايدة في القضايا الدينية، الضامنة لحرية الاعتقاد والعبادة، وهذا خلافًا لأقلية أصولية هاجمت العلمانية والديمقراطية، ولأقلية علمانية متطرفّة فرضت العلمانية بقسوة على الشعب التركي منهجًا للحياة.

ووفقًا لعدة اعتبارات اجتماعية وسياسية، قد يُقال: الإسلام أيديولوجية تشبه كثيرًا أيديولوجية الديمقراطية أو الاشتراكية، وتُتَّبع لتحقِّقَ أهدافًا اقتصادية حقيقية إقليميًّا ومحليًّا وعالميًّا؛ الحقّ أنه فهم خاطئ للإسلام، وربما عجز كثير من العلماء والقيادات الإسلاميّة عن ردّ هذه الشبهة عن أذهان المسلمين فضلًا عن أذهان أعدائهم، حتى جاء كولن فقال في مقابلة مع خلوصي تورغوت في جريدة صباح اليومية:

“الإسلام دين، ولا يمكننا تسميته بأي شيء آخر، عندما تفوق الغرب على العالم الإسلامي في المجالين العسكري والتقني، رأى بعضهم أن الحلّ هو تسييس الإسلام أو تحويله إلى نظام سياسي؛ وهذا أشبه بنسخة حديثة من طائفة الخوارج[1]، فالإسلام إنما قام على أساس تنوير العقل وانشراح الصدر؛ لذلك يأتي الإيمان والعبادة أوَّلًا، والأخلاق الحميدة ثمرة لهما”[2].

ولما ظهرت القوى الثورية الإسلامية في بلدان من العالم الإسلامي، رأى كثيرون أنّ تركيا قد تقتفي أثرها لتتحدى تقليدها الديمقراطي الانتخابيّ الحديث ذا المائة عام؛ لكنّ علماء الدين في تركيا اتخذوا خطًّا معتدلًا للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام على الصعيدين الفكريّ والروحيّ، فرأى كولن أن الحاجة ماسّة لإيجاد نماذج جديدة للتعايش السلمي بين القوى الدينية والديمقراطية:

“فيما يتعلق بقضية الإسلام والديمقراطية ينبغي أن نتذكر أن الإسلام دين رباني وسماوي، بينما الديمقراطية هي شكل من أشكال الحكومة أسَّسها البشر. والأهداف الأساسية للدين هي الإيمان والعبودية لله I ومعرفته والإحسان في عبادته. ويدعو القرآن البشر في المئات من الآيات إلى الإيمان وعبادة الحق ، كما يسأل الناس أن يعمقوا عبوديتهم لله تعالى بطريقة تمكنهم من إدراك مرتبة الإحسان والأخلاق الحميدة، فمما يؤكده القرآنُ دائمًا الإيمانُ والعمل الصالح، ثم أن يتصرف الإنسان كما لو أنه يرى اللهَ -لأنه إن لم يكن هو يراه فإنه سبحانه يراه- وأن يؤسس بينه وبين ربه علاقة قلبية وثيقة، ثم تتويجُ ذلك كله بالأخلاق الحميدة.

أما الديمقراطية فهي ليست نظامًا واضحًا من كل الزوايا مثل الإسلام، بل بإمكاننا أن نقول إنها مبهمة إلى حد كبير، إذ من النادر تقديمُها دون وصفها بشيء؛ ففي بعض الحالات توصف بمصطلح آخر مثل الاجتماعية أو الليبرالية أو المسيحية أو الراديكالية، وقد لا يَعتبر شكلٌ من أشكال الديمقراطية الأشكالَ الأخرى ديمقراطيةً.

ومع هذا فإن الديمقراطية كثيرًا ما تُذكر في وقتنا الحالي دون إضافة صفة أخرى إليها، مع تجاهل طبيعة الجمع لكلمة «ديمقراطيات»، وعند الحديث عن الدين يقوم الكثيرون بمقارنتها بالسياسة التي ما هي في الحقيقة إلا جانب من جوانب الدين.

وقد نتج عن هذا الإدراك اختلاف بين المفكرين المسلمين في قضية المواءمة بين الإسلام والديمقراطية، وإن كانت آراؤهم لا تعتبر متناقضة إلا أنها تختلف في جوانب هامة.

أحد هذه الآراء يقول: “إن الإسلام دين ونظام سياسي في الوقت نفسه، فهو ينظم كل مناحي الحياة، ينظم النواحي الخاصة بالفرد والأسرة، كما ينظم النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ومن هذه الزاوية فإن حصر الإسلام في الإيمان والعبادة هو تضييق لمجال تفاعله وتفسيره”. وقد تكونت تصورات كثيرة جديدة حول هذا المنظور، وأدت إلى النظر للإسلام كأنه أيديولوجية من بين عدة أيديولوجيات سياسية. وهذه النظرة مضادة لروح الإسلام تمامًا؛ فالإسلام يعزز من حكم القانون، ويرفض صراحة اضطهاد أي قطاع من المجتمع، ويهتم بآراء الأفراد في المسائل التي تقبل الاجتهاد.

وكان من الأفضل بكثير تنميةُ الديمقراطية بموازنة الإسلام بين المادة والروح وبين الدنيا والعقبى، وإثراؤُها بجعلها تقضي حاجات البشر الدنيوية والأخروية، إذ هو (أي الإنسان) خُلق للحياة الأبدية ولا يطمئن إلا بتوجُّهه إلى الله الباقي.

نعم، ففي العالم الإسلامي -وخاصة في بلدي تركيا- من المؤلم أن ترى بعضَ الذين يتحدثون باسم الإسلام وآخرين يتحدثون باسم الديمقراطية يشتركون في خطأ واحد، وهو الفهم القائل بأنه لا يمكن التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، بحجة أن دين الإسلام مبني على حكم الله، بينما الديمقراطية مبنية على رأي البشر. ومع هذا فإنني أرى أن هناك أمرًا يُغفل عنه، وهي أن سيادة الأمة لا تعني إنكارَ أن الحكم لله، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.

إن الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد U. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا؛ فكما كان البشر أحرارًا مخيَّرين في حياتهم الشخصية، فهم كذلك أحرار مخيَّرون في اختياراتهم الاجتماعية والسياسية من وجه؛ وهذا ينطبق على عصر السعادة، عهد النبي   وعلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، رضوان الله عليهم جميعا؛ فانتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والله أعلم بالصواب.

وبالإضافة إلى هذا فإن الديمقراطية ليست شكلًا ثابتًا للحكم ونظامًا لا يُنتقد، وبالنظر إلى مراحل تطورها يمكن للمرء أن يلاحظ أخطاء لحقتها التغييرات والتصويبات. وهناك عدة أشكال وصور للديمقراطية. وبسبب هذه التغييرات في مراحل تطور الديمقراطية نظر البعض إلى هذا النظام ببعض التردد. واجتناب العالم الإسلامي الديمقراطيةَ ربما ينبع من هذا، غير أن لدى بعض الحكام أسبابًا أخرى لاجتنابهم لها”[3].

ويرى كولن في مقابلة مع نورية أكمان أّنه «من الخطأ النظر إلى الإسلام والديمقراطية على أنّهما نقيضان، فعندما لم يطبق الإسلام تطبيقًا كاملًا، ساء الوضع أكثر من ديمقراطية اليوم، فانتهكت حقوق الإنسان، وترأس المستبدون الدول، ليس الإسلامُ الديمقراطيةَ، وليست الديمقراطيةُ الإسلامَ، فالديمقراطية نظام استحسنه العالم، لكنها ما زالت في طور التنقيح والتحسين، وتسير في طريقها نحو جوهرها الحقيقي، فهي مرحلة لا ينبغي التراجع عنها»[4].

وفي مقابلة أخرى تناولت تجليات الديمقراطية المختلفة، ومنها: الديمقراطيون المسيحيون والديمقراطيون الاجتماعيون والديمقراطيون الليبراليون، تساءل كولن: لماذا لا تكون هناك ديمقراطية تتسع للأفكار والمشاعر الإسلامية، وتربط انفتاحاتها بها! وإن كان وجود ديمقراطية بشرية أمرا حتميا فلا بد وأن تتقبلني بكل ما يخصني من دنياي وآخرتي، وتجيب وتلبي هذه النوعية من احتياجاتي. «فكما ينبغي في أي نظام ديمقراطي متقدم أن يعيش العلماني حياته في أمن وطمأنينة، ينبغي كذلك أن يُمنح الفرصة من يؤمن بالآخرة»[5]؛ ويشير إلى ديمقراطية إنسانيَّة فيها بُعْد ميتافيزيقي، تحتضن البشر كافّة، وتلبِّي حاجاتهم الرُّوحيَّة:

“ويمكنكم أن تسموا هذا «ديمقراطية ذات بُعدٍ روحي»، إنها ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والحريات كحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وتُهيِّئ الظروف اللازمة ليعيش الناس ويمارسوا حياتهم حسب عقيدتهم، وليحققوا ما يتوقون إليه ويحتاجونه من الأبدية والخلود، البشر كلهم عندها سواء، فهي ديمقراطية ناضجة تراعي حاجاتهم المادية والمعنويّة كلها… لذا يلزم تطوير مثل هذه الديمقراطية، والبحث عن سبل إضفاء الطابع الإنساني عليها؛ إذ حياة الإنسان لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا كما لا تبتدئ بمجيئه إليها، فالدنيا محطة عابرة مؤقتة والناس يسيرون بلا توقف نحو مستقرهم الأبديّ؛ ومن ثم ينبغي للنظام الحاكم ألا يتجاهل أو يهمل هذه المسألة المهمّة؛ فإن فعل ذلك فقد أهمل وتغاضى عن قضية مهمة جدا بالنسبة للبشر. أجل؛ فالإنسان تنتظره حياة القبر، فحياة البرزخ، فحياة الحشر، فحياة الجنة آخر تلك الحيوات، أما الخاسرون -حفظنا الله- فتنتظرهم حياة جهنم.

وبالتالي فإن الديمقراطية المثالية كما تتكفل بواقع الإنسان وقضاياه أيضا يلزمها أن تتكفل وتوفر له مجموعة من حاجياته ومتطلباته الأخروية الأبدية، والديمقراطية التي من شأنها أن تحقق هذا لا بد وأن تكون قد تطورت وصارت مثالية إلى حد كبير، لكن المؤسف أن الإنسانية لما تصل إلى هذا الأفق بعدُ، لا يمكن حتى الآن الحديثُ عن وجود مثل هذه الديمقراطية لا في الشرق ولا في الغرب”[6].

ولما سُئل كولن عن شكل الحكم في الإسلام، قال:

“لم يحدّد الإسلام شكلًا معينًا لا يتغير للحكم، ولا سعى إلى تشكيله، بل وضع أصولًا ومبادئ أساسية للشخصية العامة للحكم، وترك للناس أن يختاروا شكل الحكم وفقًا للزمن والظروف السائدة، وفي ضوء هذا لو قارنَّا الإسلام بالديمقراطية الليبرالية الحديثة اليوم، فسندرك مكانة كلٍّ منهما من الآخر”[7].

ويشير كولن إلى أنَّه رغم كثرة عيوب الديمقراطية لكنّها النظامُ السياسيّ الوحيد الميسِّر للناس حكم أنفسهم بأنفسهم، القابل للتطبيق في العصر الحديث؛ ويبني رأيه هذا على مبدأ قرآني يحمّل الأفراد والمجتمعات المسؤولية عن مصيرهم:

“لما حمّل الإسلام الأفرادَ والمجتمعات المسؤولية عن مصيرهم، كان عليهم أن يكونوا مسؤولين عن حكم أنفسهم، فالقرآن يخاطب المجتمع قائلًا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»، وواجبات النظام الديمقراطي الحديث هي تلك الواجبات التي أسندها الإسلام إلى المجتمع وصنفها بحسب الأهمية إلى واجبات ومندوبات، فليتعاون الناسُ على اقتسام تلك الواجبات وإقامة الأسس الجوهريّة اللازمة للتنفيذ، وهي التي يتكون منها الحكم”[8].

ويؤيد كولن العلاقة بين الإسلام والديمقراطية بأن القرآن يخاطب المجتمع كلّه ويسند إليه معظم الواجبات التي تضطلع بها النظم الديمقراطية الحديثة:

“الإسلام يوجّه إلى حكم قائم على عَقد اجتماعي، بأن يقوم الناس بانتخاب من يديرون شؤونهم، ويؤسسون مجلسًا لتداول القضايا العامة، ويشارك المجتمع كله في محاسبة الإدارة، فالإسلام دين شامل يقوم على الإيمان بإله واحد هو الرب الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، فهو دين الكون كله، أي الكون كله يطيع السنن والقوانين التي وضعها الله، فكل ما في الكون «مُسلِم» يطيع الله بالخضوع لقوانينه”[9].

الإسلام والديمقراطية: شبهات وردود

من أكبر الإشكاليات في موضوع الإسلام والديمقراطية أن كثيرًا من الزعماء والناشطين المتدينين يريدون أن يُحِلّوا القانون الإلهي محل القوانين الوضعية لإثبات أن الشريعة الإسلامية هي الحل للمشكلات الدنيوية اليوميّة، وهناك سببان رئيسان وراء هذه الإشكاليّة، الأول أن كثيرين يرون سيادة الدولة تعارض سيادة الله على الكون وعلى البشرية، يقول كولن:

“…بحجة أن دين الإسلام مبني على حكم الله، بينما الديمقراطية مبنية على رأي البشر. ومع هذا فإنني أرى أن هناك أمرًا يُغفل عنه، وهي أن سيادة الأمة لا تعني إنكارَ قضية «الحُكمُ لله»، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.

إن الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد . ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا؛ فكما كان البشر أحرارًا مخيَّرين في حياتهم الشخصية، فهم كذلك أحرار مخيَّرون في اختياراتهم الاجتماعية والسياسية من وجه؛ وهذا ينطبق على عصر السعادة، عهد النبي   وعلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، رضوان الله عليهم جميعا؛ فانتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والله أعلم بالصواب”[10].

ويصرح كولن أنه ليس في الإسلام نموذج معين لطريقة الانتخاب أو لنظام الإدارة، ويستفيض قائلًا:

“حينما ننظر إلى التطور التاريخي لنظام الحكم الإسلامي، نجد أن أبا بكر  قد انتخبته العامّة، أما سيدنا عمرُ فقد اختِير بعد أن رشّحه أبو بكر، واختير سيدنا عثمانُ من بين العشرة المبشرين بالجنة اللذين أشار بهم عمرُ ، أما انتخاب علي كرم الله وجهه فشهد معارضة، ومن ثمّ فقد تشكلت إدارة أخرى في دمشق، وكانت تلك فرصة لمعاوية، ثم صار الحكم وراثيًّا في عهد الدولة الأموية، واستمر ذلك في عهد العثمانيين، وهذا يعني أن أصول الدين و محكماته مصونة لم يحدث أن تم المساس بأي من هذا قط، وباستثناء تلك الأمور تركت الأقسام ذات الحقائق النسبية مفتوحة محلّ الاجتهاد والاستنباط بحيث تراعى فيها ظروف العصر واحتياجاته”[11].

لكن باسم «الديمقراطية» تَميل القوى العلمانية في البلدان الإسلامية إلى هدم التماسك الاجتماعي والتناغم الثقافي الذي يصون الحياة الأسرية أكثر مما عليه الأمر في الغرب، وتركيا من البلدان التي أثبتت فيها القوى العلمانية بانقلاباتها العسكرية أنها مصدر تهديد مباشر لقيام حكم ديمقراطي حقيقي؛ لكن لم يفقد كولن الأمل قط في النظام الانتخابي في تركيا رغم كثرة الأمثلة الصارخة على إساءة استخدام العلمانية والديمقراطية فيها، فهو واثق من أن الناس حينما يتمتعون بالحرية والحق في اختيار الأمناء نسبيًّا لحكم البلاد فإنهم سيتخذون القرار السليم.

ويضيف كولن أن القوميين والعلمانيين الأتراك بحاجة إلى القيم الإسلامية إذا أرادوا أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين يخدمون شعبهم دون أن يسقطوا في بئر الفساد الذي استشرى في أوصال الحكم حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين، يقول:

“يسعى النظام الاجتماعي الإسلامي إلى بناء مجتمع الفضيلة لينال رضا الله I، ويعترف بالحق لا بالقوة أساسًا للحياة الاجتماعية، وينبذ العداوة، وإذا رعَت الديمقراطية البشر أجمعين، ولاحظت حاجاتهم المعنوية والبعد الروحي لوجودهم، وأن الحياة الإنسانية لا تقتصر على هذه الدنيا الفانية، وأن للناس تطلعًا وتَوَقانًا شديدين إلى الخلود، فقد تستطيع أن تبلغ أوج كمالها ونضجها بل ستمنح البشرية مزيدًا من السعادة، ويساعدها على تحقيق ذلك مبادئ الإسلام في المساواة والتسامح والعدالة”[12].

فلا يمكن للديمقراطية وحدها في أي بلد مسلم أن تشكل نسيج القيم الاجتماعية والثقافية المتضمنة في المناخ الروحي والديني؛ ولقد فعلت عدة بلدان إسلامية مثل تركيا، حيث قبلت بالديمقراطية نظامًا لعلاج المشكلات والنزاعات السياسية حول اقتسام السلطة بين فصائل متنازعة على أساس انتماء حزبي وإثني.

ويرى كولن أن نظامًا سياسيًّا عادلًا يقوم على أساس المبادئ الديمقراطية لا يمثل أية مشكلة للنظام الاجتماعي الإسلامي والقيم الثقافية الإسلامية، فقد رأينا كيف عجزت القوى العلمانية والقومية المتشددة عن حلّ مشكلة الانفصاليين الأكراد مثلًا؛ لأنهم بإعلائهم لكل أسلوب غير ديني يهملون القيم والمبادئ الإسلامية التي تعزز الوحدة وتوفِّر فعلًا الأساس الضروري لحل مشكلة الإرهاب الذي يمارسه الانفصاليون؛ لذا ظلت سجلات تركيا حول حقوق الإنسان تزداد سوءًا في ظل الحكومات العلمانية المتعاقبة حتى نهاية ثمانينات القرن العشرين، ثم بدأت تتحسن تدريجيًّا إثر التغيير الذي مرت به البلاد لا في الاقتصاد فحسب بل في التحول الديمقراطي أيضًا.

وعُدّ وصول حكومة محافظة ذات ميول دينية إلى السلطة في كثير من البلدان الإسلامية تهديدًا للمبدأ الدستوري في الفصل بين الدين والدولة؛ فكلّ نظام ديمقراطي غربي يعدّ فصل الكنيسة رسميًّا عن الدولة ركنًا في الديمقراطية؛ لأن الكنيسة تدخلت قرونًا طويلة بصورة سلبية في شؤون الدولة، ناهيك عن الحروب الدينية المتواصلة في تاريخ أوروبا الطويل، «فأصبحت العلمانية ضرورة للسلام والاستقرار المدنيين، ثم سرعان ما بدأت الدول ترفض السعي وراء أية أهداف دينية، فصار فصل الدولة عن الدين حجر الأساس في نظام الدولة الأوروبيّ، وصارت العلمانية هي السمة الأساسية للحداثة»[13].

ويؤمن المؤرخون الغربيون والمحتلون بأن هذا هو الحال في الحضارة الإسلامية أيضًا، لكن الحقيقة أن الإسلام طوال العصور الوسطى كان دوره تقدميًا جدًّا في البناء الوطني لبلدان كثيرة مثل الشرق الأوسط العربي وشمال إفريقيا ووسط آسيا وإيران وتركيا وشبه القارة الهندية.

وقام المؤرخون الأوربيون والإمبرياليون في ظلّ القوى الغربية المختلفة بكتابة ذلك التاريخ مرة أخرى، مستخدمين نماذج العلمانية الحديثة في فصل الدين والقيم الأخلاقية عن نظام الدولة، وأدخل ذلك التاريخ المزيف في المناهج الدراسية للنظام التعليمي كله؛ وكانت تركيا العلمانية ودول وسط آسيا السوفييتية أكبر ضحية لذاك العبث في نقل المعرفة عن طريق نظام تعليمي خاضع لسيطرة صارمة تعادي الإسلام، ونجح هذا التلقين الكاره للإسلام أيما نجاح في كثير من النظم التعليمية مثل النظام البريطاني والسوفييتي والتركي أيضًا، وشقِيَ غالبية الشعب التركي بالأيديولوجيا العلمانية المتطرفة المنكرة لأي وجود ديني في الحياة العامة؛ ثم كان كولن هو من أرسى المبدأ القائل: يمكن للمسلمين وينبغي عليهم أن يواجهوا هذا التحدي فكريًّا وروحيًّا بدلًا من أن يجعلوه سببًا للشقاق الفكري بين المسلمين وغلاة العلمانية، ويرى أن النزاع بين الالتزام الديني والعلمانية لا جذور له، يقول: “ينبغي ألا تقف العلمانية عقبة أمام الالتزام الديني، كما ينبغي ألا يشكل الالتزام الدينيّ خطرًا على العلمانية”[14].

وتمثل العلمانية السوفييتية أو الفرنسية المتطرفة تهديدًا خطيرًا للقيم الاجتماعية والثقافية الإسلامية، وحاول السوفييت تعويض ذلك أو تحييده باعتناق القيم العالمية الاجتماعية والتعددية الثقافية، لكن الخصائص الإلحادية الشيوعية الروسية أحبطت كل ما ألمح به السوفييت من إيماءات لتحييد التوجه المعادي للإسلام في الكتلة الشيوعية، وقضى التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979م على كل الآمال في تحقيق أية مصالحة بين الإسلام والاشتراكية؛ وتمثل الجذور الغربية للعلمانية إشكالية للمجتمعات التي استوردت خبرتها من الغرب عن طريق هيمنة الاحتلال والإمبريالية، فأصبحت القطاعات الدينية منذ حقبة احتلال العالم الإسلامي لا تُعنَى بالحياة السياسية في بلدانها، وما حدا بهم في النهاية إلى الانخراط في الحياة السياسية تحت مظلة هذا الحزب الديني أو السياسي أو غيره سوى الطابع العلماني الإلحادي المعادي للإسلام، الذي فُرض على جماهير المسلمين وصار مصدر قلق عندهم؛ لكن كولن الذي يرفع الدين فوق السياسة بكثير لم يشترك في أي نشاط سياسي، وحذر كل محبّيه من الانضمام إلى أي حزب سياسي بصورة مباشرة؛ فأبناء تلك الحركة -كما يقول- لا تغريهم الشهرة أو المنصب أو المال، ففي كل ما يفعلونه في هذا العالم العابر يجب أن يضعوا الآخرة أمامهم، ومرضاة الله U غاية لهم؛ غير أنه يشجع الناس طبعًا على التصويت في الانتخابات، ويرى أن هذا من حقوق المواطن وواجباته، فالدين مصدر للأخلاق التي تتوافق ولا تتعارض مع الممارسة المسؤولة للسياسة، وهذا برأيه أفضل سبيل يمكن للمرء أن يخدم به أمته ودينه معًا دون خوف من عذاب الله أو اضطهاد الدولة.

ويدعو كولن إلى «الحفاظ على الاعتدال، أي إعطاء كل شيء حقه، دون الولوج في الإفراط والتفريط»[15]، وهنا يوفق بين جوانب الإسلام الدنيوية ومبادئ الحكم الديمقراطية الأصيلة، يقول:

“يهتمّ الدين أساسًا بثوابت الحياة والوجود، أما النظم أو الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فلا تهتم إلا ببعض الجوانب الاجتماعية المتغيرة في حياتنا الدنيا، علمًا أن العبادة والمعايير الأخلاقية العالمية الثابتة لا تتعلق كثيرًا بالزمن والحياة الدنيوية؛ فالدين يقيم مبادئ ثابتة تتعلق بالإيمان والعبادة والأخلاق، فما ينبغي مقارنته بالديمقراطية هو الجوانب الدنيوية في الإسلام فقط”[16].

البحث عن المشترك: النموذج التركي

العداء المفرط أو التجاوب المفرط هما ردُّ فعل كثير من المسلمين تجاه الحركات الديمقراطية العلمانيّة عامة وتجاه السياسات التي تفرضها السلطة العلمانية العليا على الشعب خاصة، هذا باختصار هو تاريخ بناء الدولة في العالم الإسلامي خلال القرنين السابقين؛ وأمام تحديين متشابهين يتمثلان في العلمانية الأيديولوجية والإسلام السياسي، سعى كولن إلى عكس المسار التاريخي للعلمانية المتطرفة في تركيا بوسائل سلمية تخفف حدة المعارك الأيديولوجية الدائرة بين المؤسسة العلمانية المتشددة والقوى الدينية، ونجح في إقناع كلا الجانبين بأن التطرف من أي نوع ليس حلًّا لأيٍّ مشكلة تواجهها تركيا، فحظيت أفكاره بالقبول لدى الغالبية من مختلف مجالات الحياة بفضل ثقافته الدينية ومنهجه السّمِح، رغم دعاية مكثفة شنتها ضده أقلية علمانية متطرِّفة حاولت تصويره على أنه عدوّ.

مِن أسس الإسلام الراسخة أنك إذا لم تؤمن بالكتب السماوية لأهل الديانات والأعراق الأخرى، لا تكون مسلمًا حقيقة؛ وقد أعلن زعيم ديني كبير في بنجلاديش اسمه «حافظي هُزور» أن “المسلمين هم إخواننا في الدين، وغير المسلمين أقاربنا، فكلنا أبناء آدم وحواء”؛ غير أن أتباع حافظي لم يفهموا ما ينادي به، بينما لبّى ملايين الشباب التركي من الجنسيْن نداء كولن في الأمر نفسه؛ ونشر كولن هذه الفكرة بكتاباته وخطبه في المؤسسات الدينية والعلمانية في تركيا خلال أربعة عقود مضت؛ وتساءل كثيرون: كيف عثر على ذلك الطريق المتوازن في الدعوة إلى الإسلام في عصر العداء والتعصب الذي نعيشه؟ وكم حاول كثيرون غيره على مدى التاريخ الإسلامي أن يحققوا التوازن بين حماسهم لتطبيق الإسلام بكل جوارحهم ورغبتهم في إظهار الاحترام العميق للديانات الأخرى!

لقد نأى كولن بنفسه عن الخلافات السياسية والدينية كلِّها حتى بعد بلوغ شعبيته أوْجَهَا في مطلع القرن الحادي والعشرين، وصرَّح بعدم نيته ممارسةَ السياسة أو دعمَ أيّ حزب سياسيّ؛ لكن مع ذلك تراه يقول: ليس من حق رجال السياسة الأتراك أن يفسدوا، أو يحرموا الشعب من نصيبه المستحق في النظام الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاجه البلاد.

“لقد تراكمت لدى الشعب التركي مشكلات كثيرة في عدة قرون خلَتْ، سببها الرئيس تركيزنا الخاطئ على ظاهر الإسلام، وإهمالنا للدرة الثمينة الكامنة في جوهره، ثم تقليدنا للآخرين، ووهمنا أن بين الإسلام والعلوم الوضعية تعارضًا، فالجهل هو أخطر مشكلة مطلقًا، فلنحاربه بالتعليمِ أهمِّ الطرق لخدمة وطننا، فالجهل بالتعليم يُهزم، والفقر يُهزَم بالعمل وامتلاك رأس المال، والشقاق والانقسام الداخلي يُهزم بالوحدة والحوار والتسامح”[17].

وكثير مما يطلق عليه الأحزاب السياسية الإسلامية حاولت أن تحظى بنصيب أوفر في الشؤون السياسية الاقتصادية لبلدانها، فأُبعدوا عن ممارسة السياسة أو المشاركة في الانتخابات في بعض البلدان، واستخدمت القبضة الحديدية العسكرية أخيرًا لمنعهم من الوصول إلى سُدّة الحكم في بلدان أخرى:

“فصارت الديمقراطيات القائمة تقبل بانتخابات مزورة وغير عادلة للحصول على مكاسب سياسية حسبما ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش اليوم [واشنطن العاصمة، 31 يناير 2008م] إثر صدور تقريرها العالمي لسنة 2008م، فالسماح للأوتوقراطيين بأن يظهروا بمظهر الديمقراطيين دون مطالبتهم باحترام الحقوق المدنية والسياسية التي تجعل للديمقراطية معنى جعل الديمقراطيات القوية المؤثرة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما يخاطرون بتقويض دعائم حقوق الإنسان عالميًّا؛ فما أسهل أن يُفلِت الأوتوقراطيون اليوم من الحساب باعتلائهم قمة نظام ديمقراطي صوريّ كما قال كينيث روس المدير التنفيذي لمنظمة هيومان رايتس ووتش؛ ومن الصعب على الولايات المتحدة وبعض حلفائها أن تطالب الحكومات الأخرى باحترام حقوق الإنسان بينما ترتكب هي انتهاكات كثيرة أثناء حربها على الإرهاب؛ وتقول المنظمة: عندما تتهرب الحكومات الأوتوقراطية من الانتقادات التي توجه إليها لانتهاكها حقوق الإنسان بادعاء أنها حكومات ديمقراطية، فإن الدفاع عن الحقوق عالميًّا يصبح معرضًا للخطر”[18].

في إطار هذا السيناريو العالميّ لا يستطيع المرء تخيّل أنّ تركيا بعلمانيتها المتطرفة ستسمح لمن يطلق عليهم القوى الإسلامية بالوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها سلميًّا فترة طويلة من الزمن، لكن أثبت رجال السياسة بما لديهم من طابع معتدل أنهم قادرون على التعايش مع القوى العلمانية والقومية في تركيا قدرتَهم على قيادة التنمية السريعة للنموّ الاقتصادي، فقد وصلت صادرات تركيا سنة 2007م إلى 100 مليار دولار، وذلك لأول مرة في تاريخها، واحتلت المركز السابع عشر بين أكبر اقتصادات العالم باستثمار أجنبي مباشر يتجاوز 20 مليار دولار أمريكي سنويًّا.

لم يستطع العلمانيون في تركيا تقديم أية تنمية اقتصادية سريعة بمجرد فصل المتدينين عن غير المتدينين، ويبدو موقفهم الانقسامي “أشبه بموقف ديكارت، الذي وضع خطًّا أحمر بين العلم والدين لمنع تجاوز أحدهما على الآخر”[19]؛ فعانت تركيا من حرب داخلية باردة بين الدين والعلمانية المتطرفة، اشتدت وطأتها مع التدخل الجائر والحظر الكامل للحجاب في مؤسسات التعليم العالي سنة 1997م، صحيح أن العلمانية المتطرفة حققت نصرًا سهلًا نسبيًّا في التشبث بالسلطة على كافة المستويات عدةَ عقود، ووصمَت جميع أشكال القوى السياسية الإسلامية المعتدلة بأنها قوى أصولية، لكن هذا لم يجعل الجهاز الحكومي مستبدًّا فحسب، بل غدا غارقًا حتى أذنيه في الفساد.

كان الاقتصاد التركي مصابًا بأزمة عميقة لأسباب متعددة بدءًا من أواخر سبعينات القرن العشرين حتى نهاية الانقلاب العسكري الذي وقع سنة 1980م، من تلك الأسباب انتشار الإرهاب الماركسي والنزاع السياسي وسوء إدارة الحكومة وزيادة التفاوت بين الطبقات الاقتصادية، ففي ظل تلك البيئة بدأت القوى المعتدلة بأنواعها تشكّل تدريجيًّا تحالفًا ضد النخبة الفاسدة بعد استعادة الحكم المدني سنة 1984م، فالنخبة العلمانية والقومية المتطرفة لم تتخذ أي خطوات للتحرك نحو انتخاب حكومة تمنع انتهاك الحرية الدينية، وتحافظ على الحياد في القضايا الدينية.

ولما انهار الاتحاد السوفييتي فقدَ الإلحاد والعلمانية قدرتهما على الانتشار بوصفهما قيمة للتبادل الأيديولوجي عبر الحدود، هدفها تحقيق إصلاحات اقتصادية، فصار إقبال الجماهير على القيم الإسلامية أقوى بوصفها علاجًا للفساد المستشري ونظام الحكم الهزيل؛ وحاولت القوى العلمانية المتطرفة أن تبعد من يطلق عليهم «الإسلاميين» عن الوصول إلى السلطة بالانتخابات، فما كان ليسمح لتركيا بالتحرك في أي اتجاه غير الطريق العلماني في التنمية، فطفح الكيل بالمسلمين التقليديين تجاه العلمانيين المتطرفين، الذين أهدروا القيم الأسرية والثقافة الإسلامية حتى إن صورة المسلمين الأتراك شُوِّهت في البلدان الإسلامية المجاورة.

ورفض الغرب الاعتراف بوجود أزمة علمانية في العقود الأخيرة، وإن كان البابا بندكت السادس عشر ذكر في محاضرة بعنوان «الكنيسة وتحدي التحول العلماني» أن العلمانية «تغزو كل جوانب الحياة اليومية، وتؤدي إلى تكوين عقلية يغيب فيها الرب فعليًّا كليًّا أو جزئيًّا عن الحياة والضمير الإنساني، وهذا لا يهدد عامّة المؤمنين فحسب، بل أصبح منذ فترة واضحًا في قلب الكنيسة نفسها»[20].

وأدرك كولن الداعية الإسلامي منذ أربعة عقود أن مصالح المسلمين في تركيا في خطر كبير منذ زمن طويل، لكنه قرر ألا يخرج على الحكومات العلمانية التركية، بل ظل يدعو بأعلى صوته إلى الهدوء والسكينة أيّا كانت الظروف، والاعتدالِ والرفقِ ولو في النقاش:

“أجل، ينبغي ألا نناقش من أجل الذات أو الأنا، وإنما لنُسهِم في إظهار الحق؛ وهذا سلوك يجب على الإنسان التحلي به؛ فالمناظرات السياسية التي همُّها الوحيد التغلب على الآخر لا نجد فيها أية نتيجة إيجابية، فإظهار الحق في المناقشة يقتضي وجود مبادئ مثل تبادل الفهم والاحترام والتزام العدل، وهذا الأمر باعتباره قاعدة قرآنية لا يمكن أن يحدث إلا في بيئة تشجع الحوار.

فأكبر طغيانٍ هو إخراس الإنسان كل أصوات الضمير التي تذكِّر بالله، والظلم في الوقت نفسه يعني الاعتداء والقمع وفرض الآراء على الآخرين، وهو من هذه الناحية ينطوي على الشرك والكفر، فربما لا يكون كل مشرك أو كافر معتديًا على الآخرين بالمعنى الذي ذكرناه، ولكن من ينشرون الظلم بين الناس بالمعنى المشهور، ومن يحملون السلاح لقطع الطرق، وينتهكون حقوق الآخرين وحقوق الله تعالى ويخرجون على العدالة الإلهية؛ ينبغي التصدي لهم في إطار القانون”[21].

يتبين بهذا الكلام الفارقُ الدقيق بين كولن والقادة الدينيين المعاصرين، إذ يرون أنّ عليك أولًا أن تغير قوانين الدولة لتوافق المبادئ الإسلامية، حتى تتمكن من منع الطغيان الحكومي وإقامة العدل، أمّا كولن وحده فليس من الحكمة عنده ألبتة أن تحارب طغاتك بالعنف، بل حاول أن تغير في إطار القوانين، وهذا قد يفيد كثيرًا في جعل النخبة الحاكمة تدرك أنه لا أحد ينتهك حقوق الناس ويفلت بسهولة، فإذا لعبت الجماهير دورًا مهمًّا في صياغة رأي عام تقدُّمي، فسيكون بإمكانهم تدريجيًّا وضع نظام حاكم عسكري أو مدني يحقق أهدافًا سامية تضمن السلام والعدالة للناس جميعًا.

وبينما كان كولن يمضي بعزم وقوة في رسالته السلمية النبوية، كان البابا بندكت السادس عشر -وا أسفاه- يقتبس من خطاب معادٍ للإسلام للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني: “أرني ما الجديد الذي جاء به محمد، لن تجد سوى أشياء شريرة غير إنسانية، كأمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بالسيف”؛ أنَّى لشخص أن يدرك أثر النبي الكريم   في تحضر الإنسانية إذا كان يعتقد أن الإمبراطور البيزنطي السفاح مانويل الثاني شخص مستقيم مُنصِف في تقييمه لرسالة النبي في نشر العدل والحب والسلام والرفق للناس جميعًا؟!

ويشير أَرْكَنَه -وهو محقّ- إلى أنّ نشر معلومات ومفاهيم خاطئة لفّقتها أطراف مُغرِضة هو السبب الرئيس وراء تشويه صورة الإسلام الصافية بوصفه دينًا يدعو للسلام:

لذا يصعب على الجماهير الغربية المحاطة والمحاصَرة بوسائل الإعلام هذه أن تَعرف أو تستوعب ماهية الألاعيب التي تجري اليوم في بعض بلدان العالم الإسلامي، فإن لم تصل إليهم معلومات وأخبار صحيحة عن الإسلام فلا يملكون -أمام هذه الصورة المشوهة- سوى الشعور بالرعب والفزع، ولا يستطيعون معرفة حقيقة اللعبة التي يلعبها الغرب في العالم الإسلامي، فالصحوة التي يشهدها العالم الإسلامي، وتصاعُد الوعي الإسلامي فيه، يبدو لهم وكأنه قرين لتصاعد العنف والإرهاب الدولي[22].

ورغم أن الغرب يقدم للمجتمع غالبًا صورة متحيزة عن الإسلام تضرُّ كثيرًا بمصالح جمهور المسلمين، لكنّ كولن لم يُعادِ ولو تعريضًا في خطبه أو كتاباته أيّ شعب أو أمّة، ولم يقف عند لوم الناس لجهلهم بالإسلام، بل جاهد للتعريف برسالة الإسلام الصحيحة وللحوار بين الأديان والحضارات، وبهذا الحوار أثبت مدى إخلاصه في محاولته جمع أبناء الديانات على طاولة للنهوض بالإنسانية كلها، ولتنوير أرواح البشر جميعًا دون نظر إلى العرق أو الدين أو النوع.

 

[1]  «الخوارج» اسم مأخوذ من الخروج، وهي أول فرقة دعت إلى وجهة نظر أصولية للإسلام وبناء مجتمع مثالي بالعنف، خرجوا على عليّ رضي الله عنه واغتالوه عام 661م وانحرفوا عن مسار الإسلام السائد.

[2]  Hulusi Turgut, Sabah daily, January 23-31, 1997.

[3]  السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، ص 125-127، دار النيل 2014م.

[4]  من حوار أجرته الصحفية التركية «نورية آقمان (Nuriye Akman)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «صباح» التركية في تاريخ 27 كانون الثاني/يناير 2004م.

[5]  من حوار أجرا التركية فتح الله كولن، نشر في اله الصحفي التركي «محمد كُونْدَمْ (Gündem)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «ملّيّت» التركية في تاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2005م.

[6]  فتح الله كُولَن: سلسلة الجرة المشروخة-5، غيث الأصيل، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 152.

[7]  Gülen, Windows onto the Faith: Islam and Democracy, New Jersey: The Light, 2004, pp. 4–5.

[8]  The Fountain, M. Fethullah Gülen: Essays, Perspectives, Opinions, Rutherford, NJ: The Light, 2002, p. 16-17.

[9]  The Fountain, Ibid., pp. 17-18.

[10]  السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، إشراف أ.د. زكي ساري توبراك، ص 127، دار النيل 2014م.

[11]  من حوار أجراه الصحفي التركي «محمد كُونْدَمْ (Gündem)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «ملّيّت» التركية في تاريخ 16 كانون الثاني/يناير 2005م.

[12]  «An Interview with Fethullah Gülen,» The Muslim World, Hartford, Vol. 95, Number 3, July 2005, p. 20.

[13]  Yavuz and Esposito, Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, NY: Syracuse University Press, 2003, p. xv.

[14]  Ünal and Williams (eds.), Fethullah Gülen: Advocate of Dialogue, New Jersey: The Fountain, 2000, p. 167.

[15]  فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-2، «الحكمة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 32.

[16]  The Fountain, M. Fethullah Gülen: Essays, Perspectives, Opinions, pp. 13–14.

[17]  The Fountain, Ibid., pp. 83–85.

[18]  http://hrw.org/englishwr2k8/docs/2008/01/31/usint17940.htm

[19]  من حوار أجراه الصحفي التركي  «محمد كُونْدَمْ (Gündem)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «ملّيّت» التركية في تاريخ 16 كانون الثاني/يناير 2005م.

[20]  Pope Benedict XVI, «Exalted Values of Life to Counteract Secularisation,» March 8, 2008.

[21]  فتح الله كولن: الحب مكنون في روح الإنسان، «الحوار مع أهل الكتاب»، ص 182 (لما يترجم عن التركية).

[22]  محمد أنس أركنه: فتح الله كولن – جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص 129، دار النيل 2011م.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.