لقد تمرس كولن بالمعاناة في جو من الحميمية مع المعمار حيث آوى إلى نافذة المسجد ومكث فيها ردحًا من الزمان، فكانت أفنية المساجد شاهدةً على مكابداته، وعلى ما عانى من وجع الوحم بما كان يحمل بين جوانحه من هموم مصير الأمة. وإن ظروف القمع الشرس التي استهدفت الإسلام في بلاده، كانت تجعل من الداعية هدفًا مرشحًا للتصفية في كل آنٍ، ولذلك استمرت حياته تمضي على نهج شاق من المطاردة والاستهداف.

من هنا كانت المجالدة والمجازفة الفداحة، فحمْلُ القضية، والسير على طريق غير وطيد، وسط أحوال من الضبابية والعبوس وانعدام المناصر والدليل، يجعل تجربة الحياة تجربة تغشاها المخاطر من بين يديها ومن خلفها، فلذلك ظل كولن يمضي وروحه على كفه.

العبقرية والموهبة

العبقرية منحة إلهية تُنَمَّى بالخدمة، وتخبو بالإهمال. وأكثر ما يُرى أهل المواهب منجرفين وراء اهتمامات تستلبهم، فهم مفتونون بها، لا يهمهم أن لا يؤبه بهم وهم وراءها سادرون. وإذا كانت الموهبة هي التي تصنع حياة الأفراد حين تستولي عليهم بسلطانها، وتجرفهم في الاتجاه الذي يتجاوب مع بواعثها، فإن الأفراد بدورهم قد يصنعون الموهبة ويُخرجونها من حيز الكمون إلى حيز الفعل، حين يتحاملون على عوامل الإعاقة في نفوسهم وفي ما حولهم، فيرتفعون بالإمكانات البسيطة والقابليات البكر، ويحولونها إلى سجايا خُلق، وقدرات إبداع، أشبه بالأرض البور، تُستصلح فتعطي الثمار.

قويت عصامية كولن منذ النعومة واستمرت المراحل المتلاحقة تصقل فيه الملَكات، وما زالت العبادة، وبيئة المسجد، توفران له الباعث الذاتي للتفتح الحسي، والنضج الشعوري

ومن شأن مسيرة الإنسان في الحياة أن تصقله وتزوّده بالحكمة وبأسباب النجاح؛ إذ إن عالم الحس والشعور “يتوسع وينمو لدى الإنسان بنسبة طردية مع طبيعة الحياة التي عاشها، والآلام والمصاعب التي عاناها، والإنسان الذي عاش على هامش الحياة دون فكر منتج، ولا معاناة مُقَوِّية، لا يمكن أن تنمو أحاسيسه ولا حتى ملكاته الأخرى، بالمستوى الذي يحقّق له الأهلية والرشد، ولا تكون لمثل هؤلاء في أي وقت علاقة قوية مع الوجود”.

عصامية كولن في حياته

وليس من الاعتباط في شيء تأكيد العلاقة بين عبقرية كولن وبين مسيرته الحياتية؛ إذ عصاميته بدت -كما أسلفنا- تقوى منذ النعومة، واستمرت المراحل المتلاحقة تصقل فيه الملَكات، وما زالت العبادة، وبيئة المسجد، توفران له الباعث الذاتي للتفتح الحسي، والنضج الشعوري، ما صقل وجدانه، وأهَّلَه لأن يكون على هذا المستوى الخصيب من الكفاءة الإبداعية والفنية التي تتجلى في أعماله وسيرته وسيكولوجيته.

تمرس كولن بالمعاناة حيث آوى إلى نافذة المسجد ومكث فيها ردحًا من الزمان، فكانت   المساجد شاهدة على مكابداته، وبما كان يحمل بين جوانحه من هموم الأمة.

يقول كولن – في كتابة ترانيم روح وأشجان قلب –  متحدثًا عن أثر الانتقاش الذي تتْركه حوادث الطفولة في الإنسان : “بفضل هذه المشاعر وهذه الأحاسيس تبدأ أحيانًا الحقائق المقدسة والمبهمة التي ترسخت في أرواحنا في العهود المبكرة بشكل معارف بدائية.. تبدأ كالأزهار النضرة في شعاب قلوبنا، بفضل النور والإيمان اللذين يملكان قوة إثباتية، فنرى كيف أن تلك الحقائق المجردة التي قبلناها ببراءة الأطفال، تعود إلى كياننا ووجودنا، هنا نذوق ونحن في دهشة طعم تحول هذه الأسرار في صمت في أعماقنا، إلى براعم ثم تفتحها أزهارًا”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الأولى، ٢٠١2، ص: 67

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.