المؤمن الحق كما يريده “الإيمان” نفسه، رجل لا يمكن أن تستـنـزفه تفاهات العيش، بل هو رجل ثائر بكل معنى الكلمة ضد “التفاهة” بكل أنواعها وأشكالها… صحيح أننا نحيا في هذا العالم، إلاَّ أننا نَمتُّ بصلة قوية إلى عوالم جادّة غاية الجد تسكن خارج عالمنا. وإنّ حياتنا الأوسع والأعمق حياةٌ موجودة خارج هذه الحياة، ومرتبطة أشد الأرتباط بالقوى الإلهية الخلاّقة التي صنعت الإنسان ومنحتْ كيانه الأعماقي قوى وطاقاتٍ إذا ما استطاع أن يفجرها فإن دويُّها سيملأ الآفاق، وسيرى في رعودها وبروقها رعود روحه وبروق قلبه.

والمؤمن -كما يريده خالقه- إنسان إيجابي فَعَّال يشارك بكل طاقاته وإمكاناته في حلّ معضلات الوجود الإنساني على هذه الأرض، ولا يقف قَطُّ منها موقف المتطلع والمتفرج، لأنَّ من أعظم مهماته ومسؤولياته الموكَّلة إليه من ربِّ العالمين الاستماتة من أجل إطلاق قوى الإيمان الخفية والفطرية في الكيان البشري، لكي يزداد الإنسان فهمًا عن نفسه وبالتالي يزداد وعيًا وإدراكًا لعمله الرسالي في هذا العالم… فالأمر الوحيد الذي يستحق أن يكافح الإنسان من أجله طوال عمره هو أن يكون إنسانًا إلهيًّا ربّانيًّا.. فما لم يتحول تاريخ المؤمن كله ليكون تعبيرًا حيًّا عن إرادة الله فيه وفي العالم، فإنه لن يشفى من كساحه الروحي المميت.. وما لم تواته الجرأة على تحطيم حبوسه الضيقة التي ألقاه فيها الزمن، والانطلاق بقوة إلى ما فوق الزمن، ليرى العالم من هناك، ويرى مكانه من هذا العالم، فإن دمارًا روحيًّا رهيبًا سيلحق به لا يقْدر على تجنبه، وسيظل لقية مهملة في زنزانات التاريخ لا تثير انتباه أحد. ولا خلاص للمؤمن اليوم من هذه الاندحارات الروحية والمادية سوى بعْثه من جديد لروح الجهاد في روحه وعقله.

فالجهاد بمفاهيمه العميقة والواسعة التي يحدثنا عنها أستاذنا الكبير  فتح الله كولن هو عملية فصد للدم الفاسد والآسن في روح المسلم بسبب جموده وركونه إلى الراحة والدَّعة، وتخلّيه عن مهماته ومسؤولياته تجاه نفسه وأمّته والعالم.. فالكسل والفراغ عنصران من عناصر التدَهور والانحلال وخور الروح والقلب كما يرى أستاذنا.

فالجهاد بشقَّيه الأصغر والأكبر كما جاء في الحديث الشريف دواء لا دواء سواه لاسترداد المسلم لعافيته الإيمانية وصحّته النفسية والعقلية، وإنقاذه من السقوط في التفاهة والعبثية و “اللامعنى”… وعلى المسلم أن ينتفض من رقاده الطويل، ويسارع إلى اقتحام أهوال الجهاد في ميدان نفسه الوسيع أولاً، لتزكيتها وترقيتها وترويضها، لكي تحيا ضمن مقومات الإيمان وتعاليم الإسلام، فتبلغ من الرقيّ والتزكية حدًّا تؤهّل صاحبها لتلقّي الإمدادات الإلهية والقدرات الربانية، فيمتلك من هذه القوى ما يرشحه لكي يكون عقل العالم إذا جُنَّ، وميزانه إذا اختلَّ، واعتداله إذا اشتطَّ، وإيمانه إذا كفر، وحلمه إذا جهل، وعدله إذا ظلم، ودواءه إذا مرض… وإن كل قطرة دم تهرق ظلمًا وعدوانًا في أي مكان من العالم تستصرخه وتشكو إليه، لأنه هو خليفة الله في أرضه، ورحمته على عباده.. وبذلك يغدو المسلم نقطة المركز في دائرة العالم في الحقّ والعدل والخير.

فحقيقة الجهاد وروحه -كما يعرضه لنا الأستاذ- إنما هو مداد ودم، وكلمة وسيف، ونور ونار.. وليس هو دمًا وسيفًا ونارًا فقط، بل هو كل أولئك، وإلاّ تحوّلنا دون أن نشعر -من كوننا عنصر بناء وإعمار كما يريدنا الإسلام- إلى عنصر هدم وتخريب وحرق وإحراق، ونكون قد أسأنا إلى إسلامنا وعتَّمنا عليه وغشيناه بسحب سوداء قاتمة تجعل الآخرين يخافون منا كما يخافون من أشباح الليل وقواه الشيطانية.

هذه المفاهيم عن الجهاد وإن كان عمرها أربعة عشر قرنًا إلاّ أن الكثير منا -ولا سيما في هذا العصر- قد نسيها أو تناساها أو أكد على جانب منها دون جانب، أو أخذ منها ما يروق له ويخدم توجهاته الفكرية أو السياسية، وأغفل عن عمد جوانبها الأخرى… غير أن أستاذنا -أمد الله في عمره- عالج موضوع “الجهاد” من جميع جوانبه، ووضع هذه المفاهيم تحت حزم ضوئية قوية كشافة، حتى لا يلتبس الأمر على الدارس الجاد الذي يبتغي الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.

فذهنية المسلم اليوم ذهنية معذبة تعاني من اختلاط الأوراق واختلاف الأفكار والمفاهيم، وكثرة الالتباسات والاشتباهات التي علقت بالكثير من المصطلحات الإسلامية… ولعلَّ أخطر هذه الالتباسات ما لحق بمصطلح “الجهاد” في الإسلام، حيث أحاق بهذا المصطلح ظلم عظيم سواء من قبل الأعداء المتربّصين بالإسلام كلَّ شر، أو مِن بعض الأصدقاء الذين يحْلو لهم أن يفسروه كما يشاؤون من دون أن يبذلوا أي مجهود لدراسته الدراسة الـمُعمَّقة للتعرف على حقيقته ومفاهيمه وأبعاده الإنسانية.

ولا أضيف جديدًا إذا قلت: إن هذا الكتاب هو دراسة معمّقة جدًّا لمصطلح “الجهاد في الإسلام” على ضوء الكتاب والسنة، واستقراء التاريخ والسيرة، مع عرض نماذج من شخصيات صحابية خطوا بدمائهم الزكية أعمق معالم الجهاد المعنوي والمادي -كما يعبّر الأستاذ- على صفحات تاريخ الإسلام.. ولا أشك لحظة واحدة بأن هذا الكتاب سيملأ فراغًا فكريًّا في ذهن المثقّف المسلم، وسيجلي ما غمض من أمر الجهاد في النفوس أو اعوجّ من شأنه عند الآخرين، وسيكشف عن ممارسات مغلوطة تمارس باسم الجهاد بينما هي أبعد ما تكون عنه.

والكتاب يعرض بعد ذلك شمولية الإسلام في تناول قضايا الحياة كافة، واحتضانه الإنسانية جمعاء، وتوفيقه بين شؤون الدنيا والعُقبى، ورفعه الإنسان إلى مرتبة أحسن تقويم. كما يشرح الجهاد الأصغر والأكبر بشكل تفصيلي مع بيان وظائف الجهاد وما يلحق بالمسلمين من المهالك والأخطار بتركه. ويبين مدى خطر الإرهاب وخدمته للأعداء الخارجيّين الذين يريدون الصيد في الماء العكر.

والمؤلف بأسلوبه البديع يخرج الجهاد من مفهومه الضيق، ويجعله أمرًا يملأ حياة المسلم بكل حركاته وتصرّفاته وسكناته وتفكيره.. وأن الجهاد الأصغر مرتبط بما يحرزه المسلم من الانتصار في ساحات الجهاد الأكبر في نفسه وعالمه الداخلي. وعلى المسلم أن يقوم بوظيفة التبليغ والإرشاد في المجتمع الذي يعيش فيه لإنقاذ مَن يجوب في وديان الضلالة ويضيّع حياته في سبيل العدم.. وأن الجهاد هو وظيفة الأنبياء وسبب خلق الإنسان وشأن الخلافة على الأرض، وذلك أن الهدف المقدّر للإنسان هو الإيمان بالله ومعرفته تعالى والوصول إلى طريق الخلود بتلك المعرفة والإيمان ورؤية جلوات البقاء والخلود في هذا العالم الفاني.. والجهاد بمفومه الواسع هو الكفيل بالوصول إلى هذا الهدف المنشود.

Leave a Reply

Your email address will not be published.