لا يتناول بحث هذا الكتاب مختلف وجهات نظر الحركات الإسلامية الموجودة في العالم، وتحليل انعكاساتها وأصدائها من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية، بل هو محاولة لفهم حركة معينة أصبحت لها صبغة عالمية. ولا يُزعم هذا الكتاب أنه كامل من جميع الوجوه، فهو لا يرقى إلى مستوى إنشاء نظرية شاملة في هذا الصدد، بل حاول فقط شرح الجذور والنتائج الاجتماعية لمفهوم “الجماعة” وما جلبته من طريقة وأصول في نظام العلاقات في المجتمعات الإسلامية.

لقد وقفتُ قليلاً عند مفهوم “الجماعة” في الفكر الغربي وفي المجتمعات الإسلامية، محاولاً وضع إطار لطريقة فهم هذا الأمر لتوسيع زاوية النظر إلى ظاهرة “الجماعة”. وكل فصل من فصول الكتاب يصلح لأن يكون كتاباً مستقلاً.

وأنا أعتقد بأن التناول الديني والتناول الاجتماعي لا يكفيان لتحليل حركة التجمعات الإسلامية المعاصرة تحليلاً صحيحاً وصائباً. ومن أهم أسباب هذا، أن محتوى علم الاجتماع قد نشأ ضمن الشروط الاجتماعية والمادية للغرب. وهذا أدّى في الحقيقة إلى مشكلة عامة في نمط فهم الغرب للإسلام كدين وكثقافة وكحضارة. فهناك فروق أساسية بين مفهوم الغرب عن الإسلام –وعن الأديان الأخرى– ومفهوم الإسلام عند المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية التطبيق. أي أن الأمر لا يقتصر على مشكلة “المنهج” و”التحليل” فقط. لذا اضطررت في هذا الكتاب إلى استعمال المصطلحات الدينية ومصطلحات علم الاجتماع معاً. وإن أدّى هذا إلى بعض التعقيد.

فإن استطاع هذا الكتاب أن يكون له أي إسهام من ناحية المعلومات، ومن ناحية أسلوب التناول لدراسات أخرى أشمل وأعمق في هذا الموضوع، فإنه يكون قد أدّى مهمته وحقق غايته. وقد تبين لي بوضوح، وجود كيل بمكيالين في جميع التحليلات الغربية التي تتناول الجماعات الإسلامية والوجود الاجتماعي والديني للمسلمين، وعدم وجود أي معيار أخلاقي في هذا الصدد. ومع أن التحليلات تبدأ بشكل موضوعي وتحت مظلة “احترام التعددية” ووجهات النظر الأخرى، إلا أنه ما إن يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي وبالجماعات الإسلامية، حتى ترى أن هذه التحليلات الغربية تفقد موضوعيتها بشكل غير مفهوم. ويتم تجاهل احترام مبدأ التعددية تجاهلاً تاماً. وعلى الرغم من جميع الادعاءات بأن تحليلاتهم موضوعية وعلمية، إلا أن التحليلات الاجتماعية تشكو العديد من المشاكل الأخلاقية.

(12-11)

ولا تخلو الساحة طبعاً من تحليلات لا بأس بها يقدمها المختصون حول الجماعات الإسلامية في تركيا وفي العالم. إلا أن هذه الكتب والتحليلات لا تذكر كل شيء. ومن الخطأ -انطلاقاً من هذه الكتب ومن هذه التحليلات- تفصيل ألبسة جاهزة لهذه الحركات. لأن هذه التحليلات ليست في نهاية المطاف إلا مشاهدات من زاوية نظر خاصة، ولا تستطيع أن تحيط بجميع الحقائق حول الطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذه الجماعات أو الحركات. فكثيراً ما ترجع الأخطاء في تحليل الحركات والجماعات إلى هذه النظرة، وليس إلى الجماعة أو إلى الحركة نفسها. ولهذا السبب تتم تحليلات غير مسؤولة إلى درجة إهمال الآليات الداخلية للحركة، وإهمال شكل تعبير الحركة عن نفسها، وكذلك الأهداف الاجتماعية التي تسعى الجماعة إلى تحقيقها.

وكما سيلاحظ القارئ فإن هذا الكتاب ليس بكتاب في سيرة الأستاذ فتح الله كولن وحياته. والحقيقة كان من الممكن أن يتم هذا البحث ضمن إطار من شرح سيرته، ولكني رأيت أنني عاجز عن تناول واحتضان جميع الجوانب المتعددة لهذه الشخصية الفذة. وأنا أعتقد بأن القيام بتحليل الشخصيات أصعب من القيام بتحليل الحركات. كما أرى ضرورة قيام المختصين بتحليل الحركات، بتناول شخصية الشيخ محمد فتح الله كولن بالتحليل ؟؟؟. لأنه الشخصية التي ظهرت في عهد المواجهة بين الحداثة والإسلام، والثقافة الإسلامية. ولأنها شخصية تملك جذور تقاليد الثقافة الإسلامية النابعة من عدة عصور. وفي الوقت نفسه شخصية شاهدت وعاصرت جميع التغيرات الجذرية التي حدثت في العصر الحديث. وشخصية لها ماهية ثقافية واجتماعية عميقة. حيث عاصرت عهداً اتجهت فيه العلاقات بين الحضارات نحو الأزمات -ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول- مما حفزه إلى طرح مبدأ “التفاهم والمسامحة” وكوّن جماعة كبيرة على النطاق العالمي تحمل هذا المبدأ.

وعلى الرغم من حدوث موجة من الدعاية المكثفة ضد الإسلام، لا سيما بعد أحداث 11 أيلول، إلا أن الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين وبالحركات الإسلامية قد زاد. أي إن تعرّف الغرب على الإسلام تم في جو من الإرهاب والعنف، أي في جو متأزم. لذا نرى أن الشخصيات الإسلامية البارزة في العالم الإسلامي وأفكار زعمائه السياسية والاجتماعية والثقافية، ونشاطاتهم في هذه المجالات، أصبحت محط دراسات وتحليلات عديدة.

وقد أدت الدعايات الظالمة ضد الإسلام والمسلمين إلى أمور سلبية بينهم وبين البلدان الغربية في النواحي السياسية والثقافية. والإعلام الغربي الآن يقدّم الإسلام كدين يتبنى العنف، حتى أصبح مفهوم الإسلام مساوياً لمفهوم الإرهاب. وهذا ما دفع المسلمين إلى خوض حرب دفاعية عن عقائدهم. ولا شك أن العديد من المخابرات العالمية متورطة في هذا الأمر مهما كانت اتجاهاتها الدينية والسياسية والعنصرية. وما من دين على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يهبط إلى مستوى تبرير مثل هذه الوحشية. لأنه يتعارض مع أسس الأديان وحكمة وجودها. ولا يمكن أن تصدر هذه الأفعال إلا من قبل أشخاص يتصفون بالدناءة. إن هذه التهمة العالمية الموجهة ضد الإسلام تُعدّ من أكبر المظالم التي وجهت إلى الإسلام في تاريخه الطويل. وعلى منتسبي الأديان الأخرى أيضاً الدفاع عنه. ويجب ألا ننسى أن وجود الإسلام –وهو الدين الأخير– ضروري جداً لدعم نظم الإيمان في مجتمعات العالم بأسره.

عندما ننظر إلى موجة الدعاية المنظمة الجارية ضد الإسلام، نعلم أن الحرب الباردة لم تنته، بل غيرت الهدف فقط. وإن هناك بعض القوى في العالم حالياً تقوم بتطوير مفهوم جديد تحت دعوى “صراع الحضارات”.

وبتعبير أوضح فإن طرفي هذا النزاع هو الإسلام والغرب. والقسم الأعظم من المحللين السياسيين يضعون هذا النزاع داخل إطار “النظام الجديد للعالم”، الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية. سننتظر وسنرى معاً مدى صحة هذ الأمر. ولكن الذي لا نشك فيه هو أن الولايات المتحدة تسعى لزيادة تأثيرها في مجال العلاقات الدولية، بل تسعى أحياناً إلى محاولة القيام بدور صاحب القرار الوحيد. لذا نرى زيادة في المخاوف وفي ظهور نظريات المؤامرة وتحليلات أخرى للأزمات السياسية. لقد أصبح الإسلام مرة أخرى موضوع الساعة. لذا زادت أهمية التحليلات التي تتناول الحركات الإسلامية في الآونة الآخيرة.

هنا أود الإشارة إلى أمر مهم يتعلق بالصعوبات التي تواجه التحليلات الاجتماعية التي تتناول الجماعات الإسلامية، وهو وجود فراغ أو مسافة بين مبادئ هذه الجماعات وآلياتها الداخلية، وبين بعض تصرفاتها التي يمليها عليها الواقع المعيشي. إذ تتهم هذه الجماعات بأنها تتبع سياسة “التقية”. فإن لم نقم بفهم صحيح للأمور، فسيؤدي هذا إلى فهم مشوه لهذه الجماعات من وجوه عديدة. ومع أن العالم الإسلامي يعاني من قاسم مشترك من المشاكل، إلا أننا سنركز اهتمامنا في هذا البحث على تركيا.

إن تركيا بلد يعاني من مشكلة تعدد القوميات والثقافات، ولم يستطع بعد حل المشاكل الناجمة عن هذا التعدد على الرغم من وجود تجربة تاريخية طويلة له في هذا الصدد. وحتى البلدان التي تطورت فيها الديمقراطية وتكاملت، لم تستطع إحراز نجاح يذكر في مضمار التعددية. لأنه عندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والعقيدة خاصة، نرى في هذه البلدان الديمقراطية ضعفاً واضحاً. وإحدى الصعوبات التي تواجه أي بحث وتحليل للجماعات الإسلامية هي هذا الضعف. وفي الديمقرطيات التي تشكو من ضعف في حرية التعبير والعقيدة تتحدد مقولات الجماعات الإسلامية في إطار من القوانين السائدة دون أن تستطيع الخروج عليها.

والحقيقة أن أي حركة تتبع الطريق نفسها، حذراً من الخروج على قوانين البلد وعلى أيدولوجيته، وليس في هذا ما يُستغرب منه، ولكن المشكلة هنا هي: الأيدولوجيات الرسمية، تقدم وكأنها عقيدة سياسية وتطلب من الجميع إقرارها باللسان، والإيمان بها بالقلب. وفي الديمقراطيات التي تحمل أيدولوجيات سياسية، يدخل الأشخاص في امتحانات الإخلاص للنظام من ناحية النية وخطرات القلب. ولا يتم الاكتفاء بأقوالهم المعلنة حول إخلاصهم للنظام. وهذا معناه أن النظام عندما يسدّ بابه في وجه بعض المدارس الفكرية وفي وجه بعض الجهات، فإنهم يتعرضون للاتهام من قبل النظام بـ”التقية” مهما كانت أقوالهم مشروعة. ولا يقتصر وجود المشكلة على تركيا، بل تعاني جميع الأوساط الإسلامية من مثل هذه العلاقة غير الصحية والمعرضة للانكسار. ويمكن أن يتطور هذا إلى ديمقراطية يحف بها الخوف. ويجب ألا يتناول أي تحليل اجتماعي أي حركة اجتماعية من منطلق مثل هذا الخوف.

وهذا لا يعني عدم القيام بالتحليل في حالة وجود فرق أو فراغ بين تحليلات الحركة الاجتماعية وبين (17-16) أسسها الفكرية وآلياتها الحركية. ولكن بشرط ألا يتم القيام بهذا التحليل على أسس مطاطية وغير موضوعية مثل مفهوم “التقية”. ومفهوم “التقية” مفهوم مرن جداً، بحيث يمكن مطّه وادعاء تطبيقه على كل حركة. ولكنه لا ينطبق ولا ينسجم مع حركة دينية، بينما نرى أن الحياة السياسية قائمة في العديد من البلدان على أسس من “التقية”.

لذا فإن أي تحليل اجتماعي يجب أن يتناول -إضافة إلى مقولات الحركة المتوافقة مع النظام الرسمي- الأسس الفكرية والعقائدية للحركة ومصادرها الثقافية مع التقاليد والآليات الداخلية التي تتبعها وتستخدمها. ولكن العديد من التحاليل لا تتبع -مع الأسف- هذا الأسلوب، بل تفسح مجالاً واسعاً لبعض أقوال الحركة التي قالتها تحت خوف سيف ديموقليطس. إن الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يوجه دنيا الفكر والحركة للجماعات الإسلامية. والمهم هنا كيفية فهمها للإسلام وتفسيرها له وكيفية نقله إلى المجتمع، أو كيف تقوم –إلى جانب تفسيرها للأسس الإسلامية- بإنشاء الروابط والعلاقات مع القيم الاجتماعية في ظل هذه المدنية الحديثة، وكيف تتعامل مع مرحلة الثقافة العالمية ومع أصحاب وجهات النظر والآراء المختلفة. فمن ثم حاول هذا الكتاب أن يقدم أسلوب حركة محمد فتح الله كولن من هذه الزاوية.

والموضوع الآخر المتعلق بهذا البحث هو قيامي بتصنيفٍ ثلاثيٍ لحركة محمد فتح الله كولن، التي يحسبها البعض بأنها حركة دينية صرفة. فقمت في هذا التصنيف بتناول هذه الحركة بأبعادها الثلاثة؛ الاجتماعية والثقافية والدينية. أي حاولت شرح هويتها وطابعها الاجتماعي والثقافي إلى جانب طابعها وهويتها الدينية. لا شك أن لهذه الحركة طابعاً دينياً، ولكننا عندما ندقق بنيتها التي اكتسبتها على النطاق العالمي في هذا الموقع الجغرافي، نرى أنها تملك أيضاً هوية اجتماعية وثقافية عالمية. وعندما قمنا بتناول ماهيتها الدينية أوضحنا الطبيعة الصوفية والإنسانية المتسمة باللين والمسامحة التي تبناها الأتراك في هذه البقعة الأرضية إبان تعرفهم إلى الإسلام واهتدائهم بهديه. لأن الجذور التاريخية لمشروع الحوار والمسامحة والابتعاد عن التعصب، تركية إسلامية (Islamic Synthesis). حيث كانت هذه سمة الحركات الصوفية للأتراك المسلمين في الأناضول والتي رفعت شعار “توقير الخلق والإنسان”. لا شك أن الحركة الصوفية حركة واسعة النطاق وقديمة العهد تمتد إلى بداية العصور الإسلامية. ثم إن هذه الحركة تتشكل حسب الظروف السياسية والاجتماعية في أمكنة وأزمنة مختلفة. فوجهة نظر فتح الله كولن أكثر تلاؤماً مع البنية الاجتماعية التي تكونت في هذه الأراضي منذ ألف عام.

عندما قمنا بتحليل الآليات الداخلية والمعنوية لحركة محمد فتح الله كولن رأينا أنها: “نتاج جديد لتقاليد صوفية قديمة جُعلت متلائمة مع شروط المجتمع الحديث وظروفه. وحين تطرقنا إلى الحياة الروحية (19-18-17) والمعنوية للإسلام، ذكرنا أن جوهر الصوفية ولبّها يكمن في مبادئ الزهد والتقوى والإحسان. كما أن هذه المبادئ هي الأسس المعنوية للإسلام. وقد قمنا بتأسيس علاقة مباشرة بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولكن عند قيامنا بذلك لم نتطرق طبعاً إلى التغيرات التي أصابت هذه المفاهيم طوال التاريخ الإسلامي. وكما أننا لا نريد غض النظر عن هذه التغيرات فلا نرغب كذلك في الدخول في تحليل لغوي واصطلاحي تفصيلي لها، بل نكتفي بشرح المعاني السطحية العامة لهذه المفاهيم والإشارة إلى مكانتها في الأدب الإسلامي.

إن مفهوم الزهد والتقوى والإحسان موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهما المصدران الأساسيان للإسلام. وفي المقابل فإن مفهوم التصوف ظهر بعد عدة عصور وراح يؤدي دوره في الحياة. ثم عبر –وإن كان يحمل مفهوماً تنظيمياً ذا إطار معلوم– عن الحياة الروحية والمعنوية للإسلام. بينما أكّد البعض على وجوب التمييز بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولا أرى شخصياً أهمية كبيرة لمثل هذا التمييز.

والجدير بالذكر، إن حركة الزهد ظهرت في العهود الإسلامية الأولى كرد فعل روحي ضد التغييرات التي حدثت في الحياة الاجتماعية الإسلامية نتيجة الفتوحات والاختلاط بالثقافات الأجنبية. وقد تطورت حركة التصوف كرد فعل تجاه التبدلات السياسية والاجتماعية السلبية في المجتمع الإسلامي، وأحدثت في مدة قصيرة حياة إسلامية تتصف بالتقشف. لقد أبدى ذلك الجيل رد فعل قوي ضد التغييرات والتحولات الاجتماعية التي ظهرت نتيجة هذا الانفتاح بالانغماس في حياة دينية متشددة.

ولا شك أن الجيل الحالي لم يقم بتنظير التصوف ولا بتنظير تجاربه ومشاهداته، مثلما حصل في العهود التي اكتسب فيها التصوف طابع جماعة منظمة تعكس الحياة الروحية للإسلام. بل بقي التصوف لديه كمظهر احتجاج روحي ومعنوي ضد التغيرات والتبدلات الحاصلة في النظام الاجتماعي. بينما تطور التصوف في القرنين الرابع والخامس الهجري، ونضج كحركة فكرية وكأسلوب حياة، ضمن منظمة وجماعة. وعندما تناولنا الوجه التصوفي لحركة محمد فتح الله كولن أشرنا إلى هذا الفرق، وأكدنا بشكل واضح وصريح، أن حركته هذه لم تشكل “طريقة” من الطرق الصوفية.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن براعة محمد فتح الله كولن في الخطابة ومهارته، ساهمت بشكل كبير في إعطاء شكل معين وسمة معينة لحركته. فاستطاع بقابليته الخطابية هذه جلب انتباه الجماهير وإثارة اهتمامهم. وفي أحاديثه وخطبه يُلاحظ أنه بجانب كونه مفكراً… العلم والمعرفة فإنه في الوقت نفسه يحرك العواطف والأحاسيس أيضاً. أي إنه خطيب يخطب على المنابر بوجدانه وقلبه كما يخطب بفكره وعقله. لذا فكما يتم تحليل مقالات فتح الله كولن ونشاطاته الثقافية الاجتماعية، يجب تحليل شخصيته من خلال ألفاظه الشفوية وأحاديثه الثقافية. لقد كان نقل المعلومات الثقافية شفاهاً من أهم وجوه (20-19) النقل والتواصل الثقافي في المجتمع الإسلامي.

وقد وُجد هذا النسيج الثقافي المتلائم مع البنية الاجتماعية للإسلام طوال عصور عديدة. فازدهر الوعظ وتطورت الخطابة في التاريخ الإسلامي كفن أدبي، وشرع يلعب دوراً مهماً بنقل التراث الثقافي والإسلامي من جيل إلى آخر. لذا وجدت بداية النشاطات الاجتماعية والدينية لحركة فتح الله كولن نفسها في إطار هذا النقل الثقافي الشفوي. فحاولتُ تحليل هذا التقليد الإسلامي، أي “تحليل تقليد الخطابة الشفوية” في القسم الأول من هذا الكتاب تحت عنوان مستقل، ثم تحليل دور هذه الخطابة في تشكيل ملامح المجتمع الإسلامي. وتوجد آثار عميقة للخطابة الشفوية في الحياة الاجتماعية والثقافية للجماعات الإسلامية المعاصرة. وعندما ندرك التأثير الاجتماعي لثقافة الخطابة على الجماهير، ندرك السبب الكامن وراء التأثير الكبير لكلام وتوصيات ونصائح زعيم عقائدي مثل فتح الله كولن على الجماهير الواسعة. وعلى الرغم من أن محمد فتح الله كولن لا يتربع على قمة هرم منظمة. بشكل فعلي وعضوي، ولكن لأفكاره وتوصياته تأثير مهم على الجماهير.

لذا فإن سبب التزام الجماهير، بتوصياته وأفكاره كل هذا الالتزام، ووضعها ضمن المشاريع الاجتماعية، يعود إلى قابليته الخطابية هذه، وإلى تأثير هذه الثقافة الشفوية العميقة والمتأصلة في المجتمع. وعندما تغيب هذه النقطة عن الأذهان يضطر محمد فتح الله كولن وبإلحاح على التوكيد بأن ليس له علاقة عضوية بالجماعة ومؤسساتها. ولا نجد نظيرا لهذا التأثير الاجتماعي الجماهيري للثقافة الشفوية بهذه القوة وبهذه المساحة في الثقافات أخرى. فكل الأديان تقوم على تعاضد وتضامن جماعي، وتسعى لتحريك “شعور الخير المشترك” والعمل به ضمن نطام معين. لهذا فإن الدعاة المبشرين في أرجاء العالم –كما يقول طه آق يول([1])– بالمقارنة مع الموظفين الرسميين، يملكون دافعا أقوى وحماسة أكبر في نشاطهم ودعوتهم. وعندما يتحد شعور “الخير” الموجود في الإنسان مع المثل الاجتماعية للإسلام، يتحول إلى تأثير ومحرك جماهيري. حيث تظهر هنا أهم وظيفة للثقافة الشفوية. الإسلام دين واسع المدى والأفق –بلا حدود- لذلك فهو دين عالمي.

وقد توجّه محمد فتح الله كولن إلى مشاعر الخير والمسامحة الثرة الكامنة داخل الإنسان التركي، وحركها وأثارها. إن هذه التضحية الأسطورية للإنسان التركي، مظهر من مظاهر فهمه العميق للإسلام. وهنا تكتسب رسالة فتح الله كولن أهميتها. يتصرف المجتمع أحيانا كالطفل المقبل على النمو، فهو يريد أن يملك كل شيء من جهة، ثم يقوم بإسراف وتدهور ما في حوزته من جهة أخرى. أي، لا يحسن الاستعمال. (22-21-20) إن الشعب التركي كريم ومعطاء، وقد حدس محمد فتح الله كولن عمق هذا الكرم والعطاء الموجود عند الشعب التركي. ولكن لكي لا يتم استغلال هذا الكرم إستغالاً سيئاً فقد اعتنى –محمد فتح الله كولن- عناية خاصة بتوجيه هذه العاطفة والمشاعر نحو المصالح العليا للمجتمع. وحث السير ضمن هذا الإطار باستمرار وبلا توقف. وهكذا أوجد نظاماً جديداً للتضحية وللتساند الجماعي في المجتمع.

لقد اعتنى فتح الله كولن بالعقل والفكر وتزويدهما بالعلم والحكمة والمعرفة من جهة، وبالقلب والوجدان وتقويمهما بعوامل الخير والإحسان من جهة أخرى. وهكذا اكتشفنا جانبين من شخصيته؛ الجانب الأول هو كونه “عالماً”، والثاني هو كونه “عارفاً”. فهو يملك معلومات واسعة، عارف في العلوم الدينية وفي الثقافة الغربية وفي الفلسفة وفي الظروف الاجتماعية والثقافية للعالم الحديث. أي، تتوضح هويته كعالم ديني وكمفكر عقلاني في جميع الساحات هذه. وباستنادٍ إلى مخزون معلوماته وإلى تراكم تجاربه، أصبح محمد فتح الله أنموذجا مثاليا في أفكاره النيرة وآرائه العقلانية تجاه العالم. وأما الجانب الثاني من شخصيته –أي جانب التصوف والعرفان– فهو يحتوي على معلوماته الميتافيزيقية حول الوجود والكائنات، وعلى تجاربه في هذا الخصوص.

ولا شك أننا إن بقينا في إطار أحاسيسنا المادية وما تعكسه هذه الأحاسيس من العالم المادي، يصعب علينا فهم جانبه هذا. لذا فلكي نفهم جانبه المعنوي ومكتسباته في هذه الناحية، علينا تجاوز الحدود المادية التي تشكل إطار فكرنا. وطالما بقينا في إطار الحدود التي رسمها العالم المادي في أذهاننا، فلن نستطيع فهم تجربته الروحية والمعنوية الغنية. إن التجربة الصوفية الإسلامية تستدعي مستوى عالياً ومختلفاً من المعرفة والمشاعر. وسيبقى كل ما يقال في هذا الخصوص ضمن قدرة اللسان على التعبير.

وأنا أعتقد بأن هذا الجانب العرفاني العميق لـ”فتح الله كولن” يستحق أن يكون موضوعاً لكتاب آخر، وأرى أن أي تحليل مصطلحي للصوفية لا يستطيع التعبير عن مثل هذه التجارب الروحية تعبيراً وافياً. لأنه لفهم هذا يجب ممارسة مثل هذه التجربة الروحية والمعنوية العميقة. وأستطيع كخريج كليةِ شريعةٍ، ذكر بعض الأمور حول مستوى علمه في العلوم الإسلامية، وقابليته في تركيب المعاني والاجتهاد والتفسير. فهذا ممكن ضمن إطار التعبير اللغوي والثقافي.

ولكني لا أعتقد بأنني أستطيع قول شيء يذكر حول جانبه المعنوي، وحول مدى عمق هذا الجانب وعمق تجربته الروحية. فهو من الناحية الشخصية مسلم عادي يعيش ضمن جو روحاني عالٍ، ويعرف كل القريبين منه بأن من لا يملك سعة وغنى في القلب والروح والذهن، لا يستطيع مشاركته في عالم المشاعر هذه، ولا يستطيع أن يديم علاقته به مدة طويلة. وخطابه للقريبين منه والموجودين حواليه يتضمن إيقاعاً معنوياً عميقاً. فطراز حياته المتسم بالحساسية، وعلاقته بالموجودات، بل حتى علاقته الجمالية بالمكان المحيط به، يقدم صورة عن جانبه العرفاني العميق… إذن دعني أخط بعض الأسطر في شرح هذا الأمر.

(24-23)

من التراث إلى الحداثة

لم أستطع تقديم تحليل وافٍ في هذا الكتاب حول شخصية محمد فتح الله كولن. لأن الكتاب ليس محصوراً في إطار استعراض مراحل حياته. لذا فهو لا يغني في هذا الصدد. وقد كانت عندي أسبابي العديدة التي ثبطت عزمي عن استعراض مراحل حياته وتحليلها. لأن تناول شخصية كبيرة بهذا المقياس بالتحليل يتجاوز قدراتي ومعلوماتي وتجاربي وقابليتي في التعبير. لذا فما كتبته هنا هو في الأكثر عبارة عن ملاحظاتي المتواضعة النابعة من معرفتي به، وليس تحليلاً عميقاً لشخصيته. فما دمت لم أقم بتحليل الجوانب المتعددة لشخصيته، فلِمَ إذن أُقدم هنا ملاحظات ومشاهدات متبعثرة؟.. أقوم بهذا من أجل شرح الصعوبة الموجودة في فهم الشخصيات التقليدية للعلماء الذين قاموا بنقل التراث الإسلامي من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، ولعبوا في هذا الصدد دوراً مركزياً وفعالاً.. أي شرح الماهية الروحية العميقة والاجتماعية لهم بالمصطلحات العصرية ونماذجها. فليس من السهل النفوذ إلى العالم الداخلي لهؤلاء بكل أجوائه الروحية والمعنوية والتصوفية، ولا إلى جو الوقار الذي يحيط بهم ويظهر في تصرفاتهم.

وأقول مرة أخرى، بأننا إن بقينا محصورين في إطار ما تقدّمه لنا حواسنا وفكرنا المتسم بـ”العقلانية” (Rational) للعصر الحديث، فلن نستطيع النفوذ بحقٍ إلى أغوار العوالم الروحية والمعنوية لمثل هؤلاء العلماء التقليديين، ولا يمكننا فهم العلاقة الميتافيزيقية التي يؤسسونها مع الأشياء والموجودات، ولا فهم أحاسيسهم حول كونهم مراقبين من قبل الله تعالى.

إن محمد فتح الله كولن من الشخصيات التي يصعب حقاً تحليلها. وحسب ما أرى فهو من الحلقات الأخيرة لسلسلة العلماء المسلمين. ولا أقول هو الحلقة الأخيرة لأنني لم أتتبّع سلسلة معينة منهم. إن فتح الله كولن هو صورة للتراث الإسلامي في العصر الحديث. ولم أصادف شخصياً في حياتي أو إنساناً آخر يملك هذا المستوى الرفيع من المعرفة ومراقبة النفس في كل شأن من الشؤون. لا محل للفوضى في حياته، فهو يعيش بنظام ودقة الساعة. فكأنه اتخذ من النظام المدهش السائد في الكون أساساً لحياته. ويمكن مشاهدة هذا الأمر في جميع شؤونه بدءً من أبسط حركاته، ووصولاً إلى قيامه بتخطيط الكثير من الفعاليات والأنشطة. فكأننا أمام عقل يعمل بإيقاع منظم على الدوام. وهو حساس جداً أمام العناصر المعنوية كحساسيته أمام العناصر المادية. نظراته وأطواره وقورة جداً، وهذه النظرات تبدو وكأنها لا تلامس المظاهر الخارجية بل تنفذ إلى الأعماق.

 

(28-27-26)

لا يلتفت محمد فتح الله كولن إلى القيم والأذواق المادية التي فتنت الناس ولا يعيرها اهتماماً. قد تكون هذه القيم والأذواق من توابع الحياة، وأموراً طبيعية بل ضرورية للإنسان كشخص دنيوي وكأب وزوج ورئيس عائلة. وهي تشغل حيزاً ما في قلوبنا، وتهب نوعاً من الآمال والسعادة أو اللذائذ الدنيوية، ولكنها ليست على الإطلاق عناصر رئيسية في صراعنا وفي سبب وجودنا، فقد وُجد الإنسان على ظهر هذه الأرض لمثل وقيم عليا أسمى منها. ولو لم يكن هذا صحيحاً، إذن لماذا ضحّى الإنسان بنفسه وماله من أجل ما يعتقد أنه قيم مقدسة؟ ضحّى بنفسه من أجل الدين والوطن والأمة.. هذا هو ما يجعل الإنسان عظيماً ومهماً. هذه هي القيم السامية التي يدعو إليها محمد فتح الله كولن. يدعو الجماهير إلى أمور أسمى من الأمور اليومية الصغيرة التي ينشغل بها الإنسان في حياته اليومية، وإلى القيام بخدمات أسمى وأهم، وإلى مشاعر متأججة، وإلى قيم إنسانية عليا. هذا هو لبّ وجوهر نضاله. يناضل ضد الارتخاء في أحضان الدنيا. قد استصغر الدنيا وملذاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين. وهذا يعني التوجه نحو الأزلية.

وهو أحد نماذج الدعاة النشطين الذين أنتجتهم التقاليد الإسلامية ضمن عصور عدة، وأنموذج مثالي من هذه النماذج. ولا يُعدّ من هواة وضع الأيدولوجيات التي تقيم المجتمعات ثم تهدمها مثل واضعي الأيدولوجيات في العصر الحديث، الذين قاموا بهدم جميع ألوان التقاليد والأعراف، لأنهم تصرفوا بالروح الثورية الهدامة لعصر التنوير. لم يقم محمد فتح الله كولن بمد يده إلى شرايين المجتمع والعبث بشعيراته. بينما قام جميع واضعي الأيدولوجيات بهذا العبث دون أي شعور بالمسؤولية. لذا كان ضد التمسك بهذه الأيدولوجيات.

إنه إنسان أنتجته تقاليد طويلة وعريقة. نشأ في بيئة محافظة. كان قد استوعب الجو المحافظ بكل تفاصيله وشكّل منظومة فكره ونظرته إلى العالم وتفسيره له. وكان يدرك أي النقاط يجب المحافظة عليها وتفسيرها وتوسيعها. وساعدته على هذا معرفته الواسعة بالعلوم الدينية ومنظومتها الفكرية. ولكنه –كإنسان- يملك شخصية ثقافية عميقة، يدرك بها أحوال العصر الذي يعيش فيه، ويملك قابلية التجديد. كان شاهداً على هذا العصر الذي أحدث تغييرات ثقافية عميقة تجرّعت الإنسانية مرارتها. كان من أفضل المدركين للموجات والتغييرات السياسية والفكرية الجذرية وبتأثيرات الصراعات والتحزبات والانقسامات التي جلبتها.

عندما ننظر من أعتاب دنيا إدراكنا العقلي المعاصر، نرى أن محمد فتح الله كولن يملك شخصية معنوية وفكرية قوية، قد عركته تجارب سنين طويلة في دنيا الفكر، فوقف بشكل مهيب يخاطب هذا العصر الذي ضعف فيه الروح والفطرة السليمة والإدراك الصحيح. ولا يحس الأشخاص القريبين منه في ظل الثقل الفكري والمعنوي له بالراحة. لأن عليهم أن يكونوا يقظين على الدوام وفي جو روحي عميق. ولا يمكن الولوج إلى عالمه بأحاسيس ومشاعر تميل إلى الدنيا وإلى متاعها المادي ومصالحها ومنافعها. أي لكي تلج إلى عالمه عليك أن تتجاوز حدود عالمك الشخصي وتتعداه. كما أنه لا يساعدنا كثيراً على فهمه وتحليل شخصيته بعمق، لأنه يقوم بإخفاء العديد من الأمور المتعلقة به ويسترها بسبب تواضعه الجم. هذا في الوقت الذي يسهل كثيراً، تحليل العديد من الشخصيات، لأنها تحاول بكل ما تملك من قوة، وبكل جهدها إظهار كل ما يتعلق بها. ولكن هذا الطريق مسدود بالنسبة لـ”محمد فتح الله كولن” الذي اختار حياة الوحدة وحياة العيش وراء الأستار. فهو وحيد حتى مع أقرب الموجودين حواليه. وهو -ككل صاحب دعوة- يحاول التسلق إلى أعلى ثم إلى أعلى ووضع كل شيء في إطار من النظام.

لذا نرى أن إنسان هذا العصر الغارق في الدنيا وفي أنانيته ومصالحه الذاتية، لا يستطيع فهم مثل هذه الشخصيات -التي يغلب عليها طابع الروح والمعنويات التي هي نتاج تاريخ طويل من التقاليد- حق الفهم.

([1])  كاتب وباجث وصحفي تركي معروف (المترجم)

Leave a Reply

Your email address will not be published.