في البدء كانت الوجهة تصحيحية بحتة حينما بُعث الرسول – صلى الله عليه و سلم – في ترصده لمواطن اليقين التي غابت عن البشرية ولم تستقر في القرون السابقة وحينما أوحي إليه اكتشف علاقة الرسالة بتربية الإنسان واكتمال صورته التي شوهتها السنون بفعل اختلالات عقلية فاسدة ومعتقدات أرضية عرجاء أوجدتها فراغات متعددة، بدءًا بالروح و الاستقرار النفسي، فكان لابد من البحث عن وسائط  يُهتدي بها إلى الحقيقة المفقودة، و كان بإمكان الخالق أن يحددها منذ البداية ويُغني النبي عن عبئها” (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين1)) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا(2) فحَقّ التكليف ووجبت المسؤولية التي استشعر بها من بعده من يطيقون حملها ويفقهون بعدها الحضاري والإنساني، ولم تكن العملية مقتصرة على جنس بشري بعينه، لأنّ طبيعة الرسالة خدمة البشرية بفئة منهم أو من خارجهم عرقًا أو لغة، وهو المفهوم الذي اقتنع به كثير من العلماء والمربين والباحثين من العرب وغيرهم. ولعل فتح الله كولن حينما اعتبر مشروع الإنسان الخلافة العادلة والبحث عن الاستقامة في وجهها الحقيقي واقعًا لا خيالاً ومجازًا، وهي الحقيقة التي يجب أن يدركها العلماء عن وعي وقد أهملها الكثير لأسباب موضوعية مختلفة قديمًا وحديثًا.

يؤمن كثير من الرجال الذين شغلتهم سعادة البشرية وتنويرها بأنّ خلاصها يستمد من منهج علمي جديد ومدروس بعيدًا عن التفاصيل المملة والأسباب المنفرة والمعاني الجارحة التي تجعل المتلقي يهابها ولا يثق في أهدافها.

واقعية الخدمة

يؤمن اليوم كثير من الرجال الذين شغلتهم سعادة البشرية وتنويرها بأنّ خلاصها يُستمد من منهج علمي جديد ومدروس بعيدًا عن التفاصيل المملة والأسباب المنفرة والألفاظ النابية والمعاني الجارحة التي تجعل المتلقي يهابها ولا يثق في أهدافها ولا يرى فيها خدمة تنفعه أو وسيلة تقيه شرّ نفسه ومحيطه وتنقذه من براثن الجهل الذي تعددت أوجهه في القرون الأخيرة، ونظرًا للخطر الذي يلحق الإنسانية قامت حركة الخدمة بلعب دور كبير على المستويين الإقليمي والدولي، حيث صارت تلعب دورًا مميزًا وبالغ الأهمية، وتساهم بفاعلية في صناعة حاضر العالم ولا سيما في منطقتي وسط آسيا والشرق الأوسط. لقد أسست حركة برامج خدمة متعالية وعميقة التأثير تستمد مادتها من العقول المتزنة، ويعد الأستاذ “فتح الله كولن” هو الأب الروحي لحركة الخدمة التي تجاوزت تركيا إقليميًّا، وفتحت كثيرًا من الأبواب التي أغلقتها قناعات تركية داخلية وخارجية ضاربة بمبدأ الحوار عرض الحائط. لكن برؤية جديدة توصل لها الأستاذ فتح الله تلغي أسباب الانغلاق وتولي للحوار أهمية كبرى باعتباره أحد دعائم العملية الإنسانية وأسباب نجاح مشروع الخدمة “فقد رأى كولن بتشريحه لمشاكل تركيا أن الفُرقة من أهمّها، بسبب غياب ثقافة الحوار وادعاء كل طرف أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وعلى مستوى العالم رأى أن العولمة -عكس ما يقال عنها- ستؤدّي إلى إيقاظ القوميات والوطنيات والمشاعر الدينية في كل العالم، ولهذا لا بد من الحوار، حتى لا يتحول التعدد إلى تناقض وتنابذ4، و هذه الحقيقة تحتاج إلى شجاعة و صبر كإجراء محاط بأشواك الاختلاف و التناقض لذا يحتاج الأمر إلى تسخير شتى الوسائل المادية و البشرية والإعلامية لإنجاحه، و قبل هذا لابد من التضحية التي تعد رأسمال ثان للخدمة إذ ” يحتاج إلى تطبيق أحكام الفترة المكّية، ومن ذلك الإنفاق بلا حدود، والتحرك بدون حدود، والتضحية بدون حدود”5.

كولن: من المعلوم أن إحدى المعضلات الرئيسة التي تعاني منها أمة المسلمين اليوم: الفرقة، وهي… إحدى زوايا مثلث التخلف الحضاري الذي يضم أيضا الجهل والفقر.

ففي المجال التربوي استطاع مشروع الخدمة أن يستقطب فئات واسعة من الشيوخ والشباب والأطفال ويصنع من عمله حركة إنسانية تربوية واسعة النطاق ويحضنه دعاة الخير وخدّامه من قريب ومن بعيد فأُنجزت المدارس والثانويات والمعاهد ومراكز التربية والخير بشكل كبير تجاوز حدود تركيا إقليميا ” بعد أن أرسى قواعد الخدمة كما تقتضيها رؤية الأستاذ فتح الله كولن الإنسانية إذ “يؤكد نوزاد صواش رئيس تحرير مجلة حراء أن العمل التربوي الناجح في مدارس الخدمة ليس فيه أسرار بل أسباب.” تلك الأسباب هي التي تجعل من الإنسان إنسانًا صافي السريرة وتبني فيه روح المبادرة والأخوة وغرس علاقات الثقة والمحبة والتعاون وهو ما تؤكده الرسالة النبوية الطاهرة حينما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم-يغرس في الناس حب السعادة وإشباع عقولهم بأسبابها الموضوعية قبل إشباع بطونهم، ولعل هذا الذي يسعى إليه مشروع الخدمة للأستاذ، وتكاد تتسع رقعته عبر العالم بشقيه، العربي والغربي ولاقى رضا من كثير من الشعوب العربية.

رأى كولن بتشريحه لمشاكل تركيا أن الفُرقة من أهمّها، بسبب غياب ثقافة الحوار وادعاء كل طرف أنه يمتلك الحقيقة المطلقة.

المنهج الذي استحدثه الأستاذ فتح الله كولن باعتبار ما تعانيه تركيا وتحاول معالجته كدولة مسلمة أكيد تعاني منه أمم عربية أخرى في الضفة الأخرى وأحد أسباب تخلفها وأخطرها “الفرقة” وقد عبّر عنها الأستاذ نفسه حينما وصف المخاطر التي تحيط بالعالم الإسلامي ” من المعلوم أن إحدى المعضلات الرئيسة التي تعاني منها أمة المسلمين اليوم: الفرقة، وهي… إحدى زوايا مثلث التخلف الحضاري الذي يضم أيضا الجهل والفقر6، فقد كانت العرب أيام الجاهلية تعاني الفرقة بشكل فظيع لم تكن تستطعم حياتها بأريحية و هناء إلا لما بعث محمد – صلى الله عليه و سلم – انتشلها من مغبة الخوف والجوع، فوفَّر لها بقدرة الخالق ما ينبغي أن تكون عليه أمّة بحجم الأمة العربية وهي في أمس الحاجة إلى منقذ بحجم الرسول – صلى الله عليه وسلم – يأخذ بيدها ليجتث من نفوسها الحقد والفرقة والعصبية وتصحيح مفاهيم العلاقات الإنسانية وحبّ الخير، وترك فيهم ما يحيي نفوسهم ويدعو إلى تربيتها حقّ التربية، هذه الحقيقة أدركها الأستاذ فتح الله كولن فتشكلت لديه قناعة واضحة عن معنى الإنسان وإعداد برنامج تربوي يسميه مشروع الخدمة يسهر على تجسيده في الواقع مجموعة معتبرة من الرجال المخلصين لمسناه فيما تقدّمه تجربة تركيا الرائدة إن تربويا أو علميا أو سياسيا أو اقتصاديا و هي تسعى سعيا حثيثا في إحداث تجربة التواصل مع الآخر المختلف بهدوء وذكاء وحذر .

ـــــــــــــــــــــــــ

  • القرآن الكريم، سورة هود، الآية: 118
  • سورة يونس، الآية: 99
  • د. فؤاد البنا – عبقرية فتح الله كولن: بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة – مجلة حراء، الأحد, 01 كانون 2/يناير 2012
  • المرجع نفسه
  • المرجع نفسه
  • المرجع نفسه