ربما استطاع الأستاذ فتح الله أن يمسك بالخيط الرفيع الذي كان مفقودا في أمصار وأزمان مختلفة، وكأنهعثر على الشفرة السرية لفتح ما انغلق أمام الكثير من العلماء والمصلحين منذ عقود. وهو بذلك يزيل الحجاب عن أشعة النور الحقيقية لكافة الناس، فَيُنَقبوا عن الأدوية الشافية لأسقام أمتنا المترامية.
استطاع الأستاذ فتح الله أن يمسك بهذا الخيط الرفيع بفضل منهجه المعصور مما عقله من لغة العصر وما ذاقه من أسرار القرآن، ثم ما وعاه عن زمن النبوة والصحابة الكرام. فاستمع إليه حين يقول: “والحقيقة أن من عرف طريقه في أي عهد من العهود وعرف الهدف الذي يتوجه إليه، وكان واثقاً من القوة التي يستند إليها استطاع بفضل هذا الشعور … لأنه لا يمثل الأمسَ فقط ولا اليومَ ولا الغدَ، بل هو في موقع يَسرِي كلامه إلى الأزمنة جميعا فهو “صاحب الوقت” و”ابن الزمان”. يعرف إضافة إلى لغة عصره روح الدين وأسرار القرآن.. كل من يراه ويتلمس شخصيته يتذكر عصر النبوة والخلفاء الراشدين…” .
ثم استمع إليه وهو يصرخ في صمت: “إن إزالة هذا الانحراف الهرِم، المادّ جذوره إلى عصور خلت، المُمَدّ بالعلم والتكنولوجيا في عصرنا، بحاجة إلى اكتشاف أنفسنا من جديد، والعثور على ذاتنا، وإثارتنا للشعور الإسلامي من جديد بمنطق إسلامي وعقل إيماني، وإلى جهد متواصل وهمّة أصيلة وزمان كاف وصبر غير نافد وأمل حيوي وإرادة صلبة وتأنٍّ بعد تأنٍ…”
بهذا المنهج الرصين والهم الدفين أبدع الأستاذ كولن في منهج الشفاء لعدد من الأدواء، وتفنن في إضاءة الطريق أمام الأجيال المعاصرة، حين عرف كيف يذيقهم من الشفاء القرآني، ويربطهم بخيوط النور الرباني. وقد وجدته نهرا رقراقا يمد الجداول بالمياه العذبة حتى تينع ثمارها، بل هو شمعة دائمة الاحتراق من أجل إنارة طريق الناس في مختلف دروب حياتهم. بذلك يبدو أنه قد وُفق في فتح كثير من الأبواب المغلقة في وجه الأمة في عدد من المجالات.
وإذا كان للأستاذ فتح الله خصوصيات في المنهج و في التربية و في الفكر، فإن تميز منهجه في تفسير آي الذكر الحكيم، وتوليد مبانيها، وكشف بعض معانيها، يعد واحدا من مجالات تميز الرجل وشموخه.
• البعد الروحي في فهم القرآن عند الأستاذ “محمدكولن”:
لعل النفور الذي يقع من حين لآخر بين التفكير العقلي والإحساس الوجداني، قد خلق شرخا كبيرا في الوعي الفردي والجماعي لدى كثير من الأجيال المتعاقبة لأمتنا. حتى بات الحديث عن الروح، بله الاهتمام بها أمرا مقبوحا. و قد غدا هذا الشعور جزءا مما اجتاح أمتنا من الأفكار الدخيلة والمناهج المادية المستوردة أو المفروضة. فانسلخت القيم السائدة من كل ما له علاقة بالروح، وغدا المهتمون بعالم الروح في نظر المتحررين وكثير من أبناء الأمة ماضَويونو رجعيون و ظلاميون.
فلما بارت الفلسفات المادية وكثر عورها، أنتجت من القيم ما دنس القلوب وشغل العقول، فأدخلت الناس في ظلمات بعضها فوق بعض، وغشيت الأمة أمراض لا قبل لهم بها، ساعتها بدأ الناس يتهامسون حول الحاجة إلى بصيص نور يضيء دروب الحياة التي عمها ظلام دامس، ويشفي أسقام الناس التي خفتتأمامها كل النظريات المستوردة والفلسفات المعاصرة.
حينها تعددت الدعوات إلى الرجوع للدين والثقة بالذات، في كثير من المنابر والمحافل والجهات، حتى تنادى على ذلك أعلام ودول في كل المعمور. في خضم ذلك كثرت مناهج العلماء والمفكرون وتعددت بتعدد ميادينهم واهتماماتهم.
وفي غمرة هذه المحاولات انبجست بين الناس أفكار الأستاذ محمد فتح الله، حاملة رياح منهج جديدوأسلوب بديع تلقفه المختصون وهام فيه العارفون. و إن من أسباب ذلك الهيام، نجاح هذا الرجل في مصالحة العقل للروح، وتقديمهما في كل كتاباته كيانا واحدا، لا يمكن تغليب الواحد منهما عن الآخر فضلا عن تغييبه. ولعمري إن كثيرا من الأمراض التي أصابت أمتنا ناجمة عن النقص الفظيع الذي تعاني منه الإنسانية في غذاء الروح.
يقول الأستاذ فتح الله في ذلك: “إن الإسلام طرح عناصر منسوجاته المهمة على العقل والوجدان والروح والجسد، فغزل ذاك القماش الزاهي ذا البعد الدنيوي والعقبوي الغائر في الأعماق. ولئن تقدم واحد منهم على غيره في مستوى معين أحياناً، فليس في قدرة أي منهم أن يصور الإسلام وحده أو يمثله أو يُعبّر عنه”.
إن حضور البعد الروحي في كتاب الأستاذ ” أضواء قرآنية” كما في منهجه عموما، وما ألبسه من أسلوب واقعي مؤثر، وتربوي بليغ مختلف عما ألفه الناس في أساليب العارفين، ونظريات الحكماء والفقهاء والمفسرين، قد أضفى عليه مسحة خاصة تعد من أهم أسباب التميز والنجاح في منهجه. فتأمل قوله: “…هذا الكتاب الذي يفسر حقيقة الإنسان والوجود والكائنات يمحص حقيقة الإنسان تمحيصا بالغ الدقة،…لذلك فإن رجال الروح والقلب الداخلين إلى عالم القرآن الآخذ بالألباب، يرون كل شيء يشعرون به ويحسونه في قرارة أنفسهم كمفردات فهرست، فيطالعونها مفصلا في محتوى كتاب الكائنات، يستشعرونها، ويمضون و يمضون أعمارهم كلها في عالم الإشارات والأمارات، في سعي حثيث نحو القرآن كمن يسيح في الأرض…هذا الكتاب يرسل إشارات ويلمح بها إلى الأعماق الداخلية للإنسان والكائنات، وإلى سعة روح الإنسان، وإلى أهم أبعاده الحيوية مثل الحس والشعور والإرادة والقلب، وإلى الغاية والمعنى في خِلقة هذا الموجود المتكامل (الإنسان) التي تعد ولادة جديدة للكائنات، وإلى الفائقية في تجهيزاته، وسعة دائرة فاعليته، وعظمته الكامنة، ورغباته وآماله و هيجانه وعواطفه …يرسلها بحيث لا يبلغ إليها خيال علوم الفلسفة ولا علم الاجتماع ولا علم الأحياء و لا علم النفس ولا علم التربية…”
ونظرا لهذا الأسلوب الشائق والمعنى الرائق، اعتبر العديد من يحتج برأيهم الأستاذ “فتح الله” يقدم منهجا جديدا وأملا عريضا ينير طريق الأمة من جديد ويعافيها من بعض ما ابتليت به من الأسقام وما تراكم في كافة أركانها من سلبيات لعقود خلت.