(عبير العدوي) لا يخفى على المتابعين ما وصلت إليه الحال من تراجع للديمقراطية بتركيا خلال السنوات الأخيرة، فى ظل نظام بسط هيمنته على منظومة القضاء، ورسائل التهديد له باستمرار، فضلا عن وجود رئيس لا يتوانى عن بث الرعب لكسر جناح العدالة.

لم يعد أمام القضاء خيار آخر سوى إصدار قرارات وأحكام باعتقال منتقدى أردوغان ومعارضيه، إرضاءً للأغا التركى.

ولم يكن غريبًا أن يقبع أكثر من 300 صحفى فى سجون الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، من دون أى تهمة أو محاكمة، وأبرز ما توجهه لهم السلطة هى تهمة الانقلاب على السلطة أو الإرهاب أو التجسس، ليس هذا فقط، بل إن 50 ألفًا من المعتقلين هم قضاة، ونواب عموميون، ومدرسون، وأطباء، وعمال نقابات، وجميعهم تم اعتقالهم خلال عام 2017 الماضى، وكان السجن والاعتقال هما أسلوب التنكيل الوحيد فى ظل رفض شعبى كبير لأردوغان، ففى محاولة للسيطرة على مفاصل تركيا، فصل أردوغان 150 ألف موظف عمومى من عملهم دون إجراء أى تحقيق إدارى أو سبب قضائى.

ضحايا القمع التركى

هنا كانت قناعةٌ تترسخ لدى المواطن التركى بأن قضاء بلاده بكل درجاته، وصولا إلى المحكمة الدستورية العليا الملزمة بالنظر فى قضايا قد انتهكت حقوقهم الأساسية، لن يتمكن من تحقيق العدالة وتطبيق القانون والدستور فى ظل هذا النظام، بل أصبحت هذه المحاكم شريكا فى تغييب قيم العدالة وتضييع الحقوق، منتهجةً إجراءات إدارية متعمدة تسهم فى ذلك، منها إطالة مدة التقاضى، وتعليق القضايا إلى أجَلٍ غير مسمى، أو ربطها بملء استمارات قضائية وإجراءات إدارية متعددة تستغرق آجالاً طويلة.

ورغم عضوية تركيا فى المجلس الأوروبى، وشروط محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بضرورة استيفاء جميع درجات التقاضى أمام المحاكم المحلية، كفرصة لتعديل وتصحيح الانتهاكات التى حدثت داخل منظومتها القضائية، فإن تركيا لا تنوى تصحيح تلك الانتهاكات، بل تزداد حاجة إلى عمليات قمع فى الشوارع وأماكن العمل وغيرها، لا سيما مع اقتراب الانتخابات.

وعلى مرأى ومسمع من المجتمع الدولى لم يحصل ضحايا انتهاك حقوق الإنسان فى تركيا على حقهم فى محاكمات عادلة فى القضايا المتعلقة بالاضطهاد.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه ومع إعلان أردوغان على الملأ عزمه ملاحقة واضطهاد كل من ينتمى إلى حركة جولن، فتجد أن القضايا الملفقة ضد الأفراد المتهمين وراءها غرض سياسى، وتفتقر إلى تهم وأدلة حقيقية.

مقصلة القضاة تحصد 4463 قاضيًا

وتؤكد مصادر بتركيا أن القُضاة وأعضاء النيابة العامة يمتثلون للخط المرسوم لهم من قبل حكومة أردوغان تمامًا، خوفًا من فصلهم بشكل تعسفى من وظائفهم، أو حتى اعتقالهم كما حدث لأكثر من 4463 قاضيا ونائبا عموميا تم تسريحهم من عملهم أو اعتقالهم وتجميد أموالهم.

وأصبح القانون التركى فى يد سلطة قمعية تديرها عقلية النظام الحاكم فى أنقرة، وفى ظل مناشدات دولية لمحكمة العدل الأوروبية فقد خطت أولى خطواتها عندما فرضت غرامة قيمتها 21 ألفا و500 يورو جراء اعتقال تعسفى لصحفيين بشكل عشوائى،ما يعنى انتباه الاتحاد الأوروبى مؤخرًا على أحقية المواطنين الأتراك فى بيئة قضائية سليمة فى ظل هذه الأرقام غير المسبوقة من الاعتقالات وضحايا الاضطهاد الجماعى.

استغاثات النشطاء

وطالب الناشطون الأتراك، بإعفائهم من شرط التوجه إلى القضاء المحلى معتبرين أنه يقفز على القانون ويتحايل عليه، لا سيما بعدما أصبح أداة فى يد السلطة القمعية التى تديرها عقلية النظام الحاكم فى إسطنبول.

وتؤكد التقارير الداخلية فى تركيا أن كشف عدد من القضاة عن قضايا الفساد التى تورط فيها أردوغان كانت البداية الفعلية لهجوم أردوغان على جناح العدالة، واستخدام صلاحياته لشن حملة اعتقالات وإقالة شرسة لجميع القضاة وأعضاء النيابة العامة وضباط الشرطة ممن تولوا التحقيق فى هذه العمليات، فقد أسفرت عن الكشف عن فساد مالى ضخم يبلغ بلايين الدولارات تورط فيه أردوغان وبطانته.

أردوغان يتخلص من معارضيه

وبلغت هذه الحملة ذروتها عقب محاولة الانقلاب المزعوم فى 15 يوليو 2016، والتى اتضح فيما بعد أنها لعبة شارك فيها أردوغان من أجل توسيع نطاق عمليات القمع والاضطهاد والاعتقال الجماعى لكل مخالفيه ومنتقديه دفعة واحدة وتحت غطاء الانقلاب وقوانين الطوارئ، وقد استدعت كل هذه التطورات الدور الفرعى والإشرافى لآليات القانون الدولى ووضعته فى المقدمة.

وهكذا.. لم يعد القانون فى تركيا يطبّق، وبات القضاء التركى المحلى غير فاعل، وأصبح عمل المحكمة مقيدًا بأجندة الحكومة السياسية، التى تتحكم وتتدخل فى إجراءات الطعون المقدمة للسلطة القضائية العليا وتعرقل عمليات الدفاع.

وإذا كانت المحددات الرئيسية لأى محاكمة عادلة هى هيئة الدفاع، وهيئة النيابة العامة، وهيئة المحكمة، فقد سقطت هذه المنظومة بكاملها فى السنوات الأخيرة، نتيجةً لتحويل السلطة القضائية إلى جزء تابع للسلطة التنفيذية، التى تحبط كل عمليات الدفاع عن المتهمين.

وتعمل فى الوقت نفسه على توظيف قضاة مؤيدين للحزب الحاكم وموالين للحكومة فى هيئة النيابة العامة وأجهزة القضاء المختلفة، وتخول لهم النظر فى تلك الدعاوى، وبالتالى فإن هؤلاء المعينين من الموالين فى النيابة والقضاء، لن يُسمح لهم بتجاوز الخطوط التى رسمها لهم النظام، ولن يلتفتوا إلى مصداقية التهم الموجهة ضد المتهمين من عدمها.

الزجّ بالمحامين فى السجون

يمثل الدفاع طرفا مهما ومساويًا للنيابة العامة فى جلسات المحاكمة العادلة، إلا أن ذريعة مكافحة الإرهاب فى السنوات الأخيرة بتركيا حرمت محامى الدفاع من قدرتهم على أداء مهمتهم فى الدفاع عن موكّليهم.

بل صارت المهنة نفسها جريمة، ففى أعقاب الانقلاب المزعوم فى يوليو 2016 احتجزت الحكومة التركية أكثر من 1000 محام، واعتقلت 114 آخرين، موجهة إليهم جملة من الاتهامات مثل ارتباطهم بحركات اجتماعية معينة، أو الزعم بأنهم متواطئون فى الجرائم الموجهة ضد المتهمين الذين يمثّلونهم، فمشهد الزج بمحام فى السجن أثناء زيارة موكله لا تجده إلا فى تركيا.

وأجُبر محامون على الاعتراف بالتهم الموجهة لموكليهم تحت وطأة التعذيب، إضافة إلى إجبارهم على دفع أتعاب تعادل عشرات أضعاف الأتعاب العادية.

تلك الانتهاكات الواسعة كانت دافعًا لكثير من المحامين للهرب خارج البلاد، ما دعا اللجنة البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) عنونته بـ”ضمان (تأمين) اتصال المحتجزين بالمحامين”، أعربت فيه عن قلقها إزاء الوضع الحالى فى تركيا.

تعذيب المقبوض عليهم

منهجية تعذيب المساجين والمشتبه بهم فى تركيا مثل “شيك على بياض”، فلا ضمانات لحماية المواطنين من عمليات التعذيب ولو فى حضور محاميهم.

وتذكر محامية تركية لمنظمة حقوق الإنسان، أن موكلها تعرّض للضرب بالعصا على وجهه وفى أماكن عدة من جسده، وهو مقيّد اليدين لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولم تستطع هى أيضًا أن توقف ما يتعرض له موكلها من تعذيب، ووصفت ذلك بالقول: “وفى لحظة، لم أعد أتحمل أن أشاهد ما يحدث لموكلى وأدرت وجهى، لقد كان وضعًا مريعًا، لم يعد باستطاعتى إحصاء الضرب الذى وُجِّه إليه، وما كان بإمكانى وقف ما يتعرض له من تعذيب، وفى النهاية استلبوا منه الاعتراف الذى أرادوه”.

الاعتداء مستمر

واعتبر محللون أن المحامين يتعرضون لحملة مستمرة من الاعتداء الجسدى والتخويف والإرهاب التى تقوم بها الحكومة ضد المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

وتعرض “توجاى بك”، محام، للاعتداء فى سبتمبر 2016، وهو أحد المدافعين عن حقوق الإنسان ورئيس لجنة مراقبة السجون فى نقابة المحامين بمحافظة “أضنة”، وقد أقر رئيس نقابة المحامين فى أضنة “ولى كوجوك”، بأن “توجاى” تعرض للضرب المبرح على أيدى 40 شرطيًّا، انقضوا عليه بالقبضات والركلات وهو مقيدٌ من خلف ظهره، وانهالوا عليه بالشتم والسباب.

قلق دولى

أصدرت المنظمات الدولية المتخصصة مذكرات عبرت فيها عن قلقها تشجب ما يحدث فى تركيا، وطالبت الحكومة التركية بوقف الحملات المنظمة ضد المحامين، وطالبت أيضًا بإخلاء سبيل المسجونين منهم.

وأصدر “نيلس موزينيكس” مفوض المجلس الأوروبى لحقوق الإنسان (COECFHR) مذكرةً أدان فيها القيود المفروضة على المحامين وتواصلهم مع موكليهم، كما أدان القيود التى تعوق خصوصية العلاقة بين محامى الدفاع وموكله.

مدى تغول السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة القضائية، وسيطرة الأولى على الأخيرة تماما، لذلك على المؤسسات الدولية لا سيما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أن تقوم بدورها فى إنقاذ المواطنين الأتراك بشكل عاجل، وترشد الدولة التركية فى الوقت نفسه إلى ضرورة التراجع عن الانتهاكات التى تمارسها ضد مواطنيها.

لقد تمكن أردوغان من إزاحة السلطة القضائية فى تركيا، وإعادة تشكيلها وهيكلتها طبقا لرغباته متذرعًا بمحاولة انقلاب فاشلة أثبت كثير من الأدلة أنه مفبرك، وقد يكون من إنتاج أردوغان نفسه، بدليل أن ما ورد فى الفقرة الثالثة من مرسوم الطوارئ رقم 667 لسنة 2016 بخصوص السلطة القضائية العليا، ما يبرز ذلك فقد ورد فيها: “إن القضاة الذين يشتبه فى انتمائهم، أو لديهم علاقات مع أى منظمة إرهابية، أو أى تجمع أو هيئة يصنفها مجلس الأمن القومى على أنها تعمل ضد مصلحة الدولة، سيتم عزلهم مباشرة من مناصبهم القضائية” .

ويمكن استعراض بعض نماذج الانتهاكات التى تعرضت لها عناصر هذه الهيئة القضائية العليا فيما يلى:

المحكمة الدستورية

سعى أردوغان لتحويلها إلى محكمة لا تحكم، وذلك من خلال حملات من التهديد والتشويه المنظمة ضد قضاتها، ما أدى إلى خلل فى طريقة عملها، فدائما ما تعمد أردوغان التعقيب على أحكامها، مشيرًا إلى أنه لا يعترف بتلك الأحكام واعتبر بعضها خيانة عظمى وأنه لن يمتثل لها.

مجلس الدولة

وقد تركزت الإجراءات القانونية فى تركيا عقب الانقلاب المزعوم فى أمرين: الإجراءات الجزائية، والإجراءات الإدارية.

وقد وصل عدد المفصولين من وظائفهم الحكومية – من دون أى حكم قضائى أو تحقيق إدارى – إلى 151967 موظفًا، منهم 7317 أكاديميا و4463 قاضيا ووكيل نيابة.

ونُفذت كل قرارات الفصل التعسفى هذه فى أثناء حالة الطوارئ، وطبقا للدستور التركى، فكل الإجراءات التنفيذية يمكن مراجعتها من خلال مجلس الدولة، وهى أعلى جهة قضاء إدارى فى تركيا، ولكن مجلس الدولة أعلن أيضًا – على غرار المحكمة الدستورية – عدم اختصاصه النظر فى القرارات الإدارية التى تصدر فى أثناء حالة الطوارئ.

وقد أصدرت عدة جهات تركية خريطة رقمية بنتائج حملات التصفية التى انتهجتها الحكومة التركية وحزبها الحاكم فى سبيل قمع المؤسسات القضائية والدفاعية.

منذ 15 يوليو 2016 قامت السلطات التركية بعزل 24 و409 آلاف، إضافة إلى فصل 24463 قاضيًا ومدعيا عاما، شرطيًا، وفصل 16409 طلاب عسكريين من الأكاديميات الحربية، و7159 طبيبا وموظفا تم فصلهم من وزارة الصحة، بالإضافة إلى 5210 محافظين وإداريين تم فصلهم، و6168 موظفًا تم فصلهم من وزارة العدل، و3090 إمامًا وواعظا وموظفا فصلوا من رئاسة الشؤون الدينية.

 

المصدر: www.mobtada.com