تقوم فلسفتنا على الإيمان بأنْ عمل المفكر عملٌ بنائيّ بالأساس، يسدد في اتجاه الإصلاح والتجديد، الأمر الذي يقتضي ـ من المُفكرـ حظوظا من الكفاءة والاقتدار معززة بمدود من توفيقات الله. والمفكر في تجربة الخدمة والتغيير، يجد نفسه أشبه بمن يعالج بالكيّ، فهو يُشخص – في حسم وأناة- مواطنَ الداء، لأجل استئصال العلة، وضمان البرء، واسترداد العافية.

 “الغاية الكبرى للمصلح المسلم في العصر الراهن هي استزراع الحياة بفكر إنشاء المُقََوِّمَ المرفقي الحضاري المؤصل”.

 العدة الثقافية الأصيلة:

من خلال إيجاد العدة الثقافية الأصيلة، نتمكن من إزاحة ما يعمّ حياتنا من مظاهر السلب والتغريب، والتي تأخذ صورة فواعل تجهيزية وتثقيفية أجنبية تحتل الساحة القومية، بلا منافس، وبتقبل أعمى فادح. إن جهود المفكر المصلح تنهض في الآن ذاته بمهمّة دفع الغزو من جهة، وإحلال مولدات الأصالة محله من جهة ثانية. وحتى يستكمل المفكر أركان الإمامة والتأهّل في شخصه، لا بدّ أن تستغرقه مراحل الانصهار واكتساب القابليات التي تجعل منه إنسانًا روحانيًّا يعي الواقع ويستشرف المستقبل ويقدِّر للترديات مقاديرها من العلاج.

 “استطاع القرآن الوقوف في وجه الأعاصير والعواصف.. فما أن يرتفع صوت القرآن حتى نشعر وكأنه نزل الآن من السماء. إنه فيض من العلم الذي يشكّل الحدود النهائية للإدراك البشَري”.

 التدثر بشعار القرآن:

القرآن الكريم.. هو الأساس الارتقائيّ للمفكّر المصلح لتترشّد على يديه المشاريع، وتزدهر تحت رايته المنجزات. وهو القاعدة التي ينبغي أن يتّخذها كل عامل -يحلم بأن يكون من خدّام الأمّة- منهجًا ومرجعاً ومرشداً وملهماً له في مشاريعه. فعلى كل صاحب فكر سليم أن يتمرّس بتوجيهات القرآن، ليتطبّع على روحه، ولتتشرّب مواجده رحيقه؛ فالقرآن “صوت الملكوت الذي يخاطب فكر الإنس والجنّ ومشاعرهما”، وإن طلاقة تعاليمه جعلت حكمته نضرة على الدوام،

وإن التدثر بشعار القرآن يفسح أمام العقل والفطرة والملكات مَدًى لا يُحَدُّ من الرحابة الفكرية والانفتاح الذهني والشعوري، إذ أنه لا يعزلك في أيديولوجية ضيّقة أو “دوغْم” يجافي القيم الإنسانية، ويتنكر لمثل الخير والمحبّة والسلام. إن المدد التنويري الذي يفيده أولو الألباب جراء تفاعلهم مع القرآن، ينعكس على المواجدِ صفاءَ روحٍ، وعلى القلب جلاءَ بصيرةٍ، وعلى العقل رهافةَ مدارك.

   “مَنْ فهِمَ القرآنَ حقّ الفهم، تصبح البحار الواسعة كقطرةِ ماءٍ أمام ما يرد إلى صدره من إلهام، والعقل الذي تنَوَّرَ بنوره تتحول الشمس تجاهه إلى مجرّد شمعة”.

 القرآن أعظم فضاء عروجي:

تتهيّأ الروح في هذا الفضاء لإمكانات لا مُتناهية من المغانم الفكرية والشعورية، بحيث يسوح سالكُه في أقاليم عجيبة من الآيات المبهرات، إذ “ينتقل من الدهشة إلى الذهول، ومن الذهول إلى برّ من العواطف الجياشة”، وبتلك المستويات من التلقين والتعبئة يتحقّق التشكل الروحي والقلبي للفرد الداعية. فالقرآن يعيد عجن النفوس النجيبة ذات القابلية للإثمار؛ فهو “يتناول الطالب الذي جذبه نحوه، فيعجنه ويجدّد شحنه بالأنوار”؛ والمقبلون على القرآن “الذين يَدَعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية إدراكهم تَسْبَح في جَوِّه الذي لا مثيل له، سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد منهم بأنه قد تغيّر بمقياس معين، وأنه أصبح يعيش في عالم آخر”.

لقد أوجد القرآن فيالق من الصحابة صهر أرواحهم ونفوسَهم وفق معاييره السماوية، فأضحوا هوية قرآنية، يجسّدون بسلوكهم روحه، ويترجمون مثله ومعانيه، فشقّوا بالإنسانية طريقًا مشْرقا سطعت فيه على الأصقاع أنوار الحكمة والعقل. ولقد تخطت الإنسانية بفضل تعاليم القرآن مهاوي السفه العقلي والشرك الروحي. ولقد بعث الله تعالي رسوله، صلي الله عليه وسلم إلى العالمين برسالة تشيع الاستفاقة والنور، فما لبث الفكر الإنساني أن تحرّر من الميثولوجيا، إذ أبان أن ما ظل يُعْبَدُ من عناصر الطبيعة، إن هي إلا أشياء مسخّرات.

————————-

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:49-53.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts