كل المهتمين بالبحث في المشاريع الإصلاحية الحديثة والمعاصرة، يعلمون جيدًا التحديات والعوائق المتداخلة التي تحول دون ظهور ثمار مقنعة ومنسجمة مع الأهداف السامية والنبيلة التي رسمتها كوكبة رجال وجماعات الإصلاح. ومن خلال سبر دروب تلك العوائق يمكن إجمالها في قضايا جوهرية في نسبة نجاح تلكم المشاريع.

ومن أهم المعيقات التي تؤثر تأثيرًا فارقًا في مسيرة هذه الحركات الإصلاحية يمكن تسجيل:

  1. عائق المكان.
  2. عائق الزمان.
  3. عائق المشروع.
  4. عائق المجال.
  5. عائق النموذج.
  6. عائق اللغة.
  • أولا: الحركات الإصلاحية وعائق المكان:

       حين التأمل في نشأة الحركات الإصلاحية من حيث مكان النشأة، سنجد أن الموقع الجغرافي كان له حضور بارز لدى جل الحركات الإصلاحية. ولو حاولنا البحث في عملها ودعواتها الإصلاحية لوجدنا أن بعضها حاول التوسع ونسج علاقات التعاون والتنسيق، إما وعيًا منهجيًّا أو تسليمًا بعالمية المشروع. وبِغضّ النّظر عن التوجّهات والتسميات التي تدور حول السلفية أو التقدمية أو الليبرالية أو الاجتماعية أو السياسية… فإن هذة المسميات لا تغير من واقع الحال شيئًا.

حين التأمل في نشأة الحركات الإصلاحية من حيث مكان النشأة، سنجد أن الموقع الجغرافي كان له حضور بارز لدى جل الحركات الإصلاحية.

        ولعل أبرز صورة يمكن التمثيل بها في هذا المقام، المشاريع الإصلاحية لروّاد الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. حيث رسم الشيخ رشيد رضا رحمه الله (1935م) صورة مشرقة لرواد هذه الحركة الإصلاحية. والذي شكّل انتقاله من بيروت إلى القاهرة انبعاثًا مهما من حيث جغرافية مشروعه الإصلاحي، وذلك عبر العمل على تأسيس مدرسة لتخريج رجال الدعوة “دار الدعوة والإرشاد”. والتي كان طلابها من مختلف الدول الإسلامية وخاصة الآسيويون. وتعد هذه الالتفاتة من الشيخ رضا غاية في الأهمية، حيث سيتمكن من إيجاد حاملين لفكره الإصلاحي هناك، وبذلك يعمل على توسيع مكان وجغرافية المشروع وعبره حظوظ نجاحه. لكن عائق ارتفاع تكاليف المدرسة التي تجازوت قدرات وإمكانيات أهلها من جهة، ثم ظروف الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى، عجّلت بتوقيف هذا المشروع الطموح وأفول نجمه.

         وإذا استثنينا جماعة محمد إلياس الكاندهلوي (1944م) التبليغية والتي نشأت بالهند، فقد يعز علينا العثور على حركة إصلاحية تجاوزت التحديات الجغرافية واشتغلت خارج وطنها الأم، فضلا عن تسخير طاقاتها للدعوة والخدمة خارجه.

        في ظل هذه المشاهد المتعددة تزاحمنا في الواقع تجربة محمد فتح الله كولن التركية. حيث يعلم كل مطلع على سيرة الرجل أنه كان مسكونًا بما يقع في كل شبر من جغرافية العالم؛ فيفرح لأفراح الأمة ويحزن لأحزانها. بل إن خُطَب الرجل التي لا يمكن تعدادها، غطّت كل مساجد جغرافية وطنه أو تكاد، ولاتخل من الذكر الدائم لما يعيشه الإنسان من تحديات وما ينتظر المسلم في هذا العالم الفسيح من رسالة التبليغ والخدمات.

نعم سمعت قصصًا لجيل من خريجي هذه المدارس يتسابقون للوصول إلى تخوم آسيا وأدغال أفريقيا، وأراضي القطب المتجمد، لا يحملون معهم من الأدوات إلا إيمانهم بمشروعهم الرامي إلى خدمة الناس كل الناس.

هكذا وكأن القدر همس في آذان جل المصلحين من أجل العناية بالمدرسة والتعليم. وههنا واحدة من فسائل المشروع الإصلاحي عند فتح الله كولن؛ وحُق له أن يسمّي مدارسه جزر السلام. وذلك لكون المشروع الإصلاحي لحركة الخدمة جعل من المدرسة بُراقا إلى كل مكان. فلم يمض حين من الدهر حتى فاضت الجغرافية التركية بطلاب مدارس الخدمة، وغصّت إداراتها وجميع مرافقها بآلاف الخريجين من رجال الإصلاح المميزين. وليس ما عرفه الوطن التركي من نهضة ملفتة إلا صورة مشرقة وثمرة يانعة من ثمرات المشروع الإصلاحي لحركة فتح الله كولن، ساهمت بحظٍّ وافر في بناء أسس متينة للصّرح التركي المثير للجدل اليوم. إلا أن عبقرية هذا الرجل المصلح لا تتجلّى في نتائج حركته الإصلاحية داخل وطنه، بل إنه وبالموازات مع تخريج أفواج من رجال الإصلاح الوطنيين، لم يفُته إعداد وتكوين بعثات خاصة من ذوي الكفاءات، إلى عدد من الأماكن خارج الوطن، إيمانًا منه وكما صرح في كثير من خطبه التاريخية “أنه يرى في كثير من الأماكن كل الرايات تخفق عالية إلا راية محمد صلى الله عليه وسلم” فكان هاجس رفع الراية المحمدية في كل مكان يقطع أنفاس الرجل وهو يدعو ويشجع من يتولى تلك المهمة من طلبته المميزين.

        لقد شدتني أشواق البحث في هذه القضية ودفعتني إلى تتبع مسار عدد من خريجي مدارس الخدمة، فلم أتمالك نفسي ومشاعر الاستغراب تهزّني وأنا أسمع قصصا ما علمتها إلا في بطون الكتب أو في سير الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

نعم سمعت قصصًا لجيل وشباب من خريجي هذه المدارس يتسابقون للوصول إلى تخوم آسيا وأدغال أفريقيا، وأراضي القطب المتجمد، لايحملون معهم من الأدوات إلا إيمانهم بمشروعهم الرامي إلى خدمة الناس كل الناس. شباب لحركة إصلاحية جعلت الخدمة منطلقا ووسيلة وهدفًا في الآن نفسه. وعبر هذا السلوك تنافس أبناء هذه الحركة ليغطوا كل بقعة من بقاع العالم أملهم الوصول إلى رفع علم محمد صلى الله عليه وسلم، خفّاقًا فوق كل الأعلام. بهذا الصنيع تخطّى هذا الجيل عائق المكان وسجّلوا بطولات عزّ نظيرها في هذا الزمان.

بالرغم من كل المضايقات والتشويه والمطاردة التي تعانيها حركة الخدمة إلا أنها لم تزدد إلا عمقًا وتوسّعًا وإبداعًا في كل مكان. 

        وهكذا وفي ظل المشروع الإصلاحي الذي غطّى أو يكاد كل جغرافية العالم، يبدو أن اللغط المثار حول ما تعيشه الدولة التركية من محنة، لا يشكل سوى واحدًا من هموم فتح الله كولن المتزاحمة، هذا الرجل المصلح أراه تجاوز زحمة المكان ولغطه، ليُعانق بمشروعه العميق كل مكان.  وبذلك تكون حركة الخدمة بالرغم من المضايقات والتشويه والمطاردة التي تعانيها من طرف الذين استوعبوا قيمتها وخطورتها على مشاريعهم السطحية ومصالحهم الضيقة، بالرغم من كل ذلك لم تزدد هذه الحركة إلا عمقًا وتوسّعًا وإبداعًا في كل مكان. بل إني أزعم أن هذه المضايقات والمحن التي عاشتها الحركة أثبتت وبكل المقاييس أنها حركة عتيدة، واختياراتها سديدة. وأن تجاوزها لعائق المكان وجغرافية الوطن أهّلها للتوسع والنجاح في مشروعها الإصلاحي الرائد، الذي تجاوز خدمة المواطن إلى خدمة الإنسان في كل مكان. فهي بدل الوطن الأم احتضنتها أوطان لمجتمعات وشعوب في كثير من الأماكن فأبدلها الله بالوطن أوطانا وببلدها بلدانا.  

                                                                                             (يتبع)