إننا نحسب أن النـظرة النورية إلى المسألة الغربية إذا نالت حظها من التحليل العلمي الرصين والتحقيق الفكري الشامل، فإنها ستسهم -إلى حد كبير- في إنقاذ العالم الإسلامي مما يجتاحه من محن وقلاقل وامتهانات لكرامته نتيجة انخداع وانبهار شطر كبير من مفكريه بالنظرات غير الدقيقة إلى المسألة الغربية. كما أننا نحسب أن انطلاق مهندسي سياسات العالم الإسلامي من النظرة النورية في رسم علاقة الأمة بالغرب بعجَره وبجَره من شأنها إنقاذ الجيل الصاعد من الناشئة مما هم واقعون فيه من انخداع وانهزام وتطرف في الرؤية والنظرة إلى المسألة الغربية، فضلا عن أنه من شأن الأخذ بتلك النظرة القيّمة فتحَ بابٍ واسع ومتين من الحوار والتواصل بين العالم الإسلامي والغرب، وذلك على أساس متين من القيم المشتركة المتمثلة في المبادئ السامية التي تقوم عليها الشرائع السماوية كلها.

أوروبا بين النفع والضرر

في خضم تراكم الأحداث المفجعة، وتكاثر الابتلاءات الإلهية، يصعب للمرء أن يتكهن التزام المبتلـيْنَ الموضوعية والعلمية في النظرة إلى الغالبين، بل لا غرو أن يعلو التشاؤم والتبرم شفاه المغلوبين المهزومين، ولا عجب أن يغدو الانبهار والانخداع والولع بطريقة الغالبين مَنهلا ينهل منه المنهزمون، مصداقًا لما قرره عالِم العمران الإسلامي المؤرخ ابن خلدون.(1)
والإمام بديع الزمان النورسي رحمه الله دفع بثقله الفكري والعلمي والمنهجي صوب كلتا النظرتين الانهزامية والانخداعية، فأوسعهما مراجعة وتقويمًا وتصحيحًا، ودعا إلى التخلّي عن كلتيهما، كما أنه عنى -بطريقته الخاصة- اعتماد منهجية بديلة تنطلق من المنهجية والموضوعية وترتكز على الواقعية في النظرة إلى الأشياء، وتتبرأ من الانهزامية والانخداعية.
وسعيًا إلى مزيد من التحليل والتحقيق للنظرة النورية المحكمة إلى المسألة الغربية في ضوء ما عني به العالم الإسلامي من هزيمة وانسحاب إبان الحربين العالميتين، نرى أن نصغي إلى ما أدلى به الإمام البديع محددًا الموقف الأحكم من المسألة الغـربية في كتابه “اللمعات”، حيث قال ما نصّه: “.. حينما سار “سعيد الجديد”(2) في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الأوربية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة إلى حد ما في أفكار “سعيد القديم” إلى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلات كثيرة في تلك السياحة القلبية، فما كان من “سعيد الجديد” إلا القيام بتمخيض فكره، والعمل على نفضه من أدران الفلسفة المزخرفة، ولوثات الحضارة السفيهة؛ فرأى نفسه مضطرا إلى إجراء المحاورة الآتية مع الشخصية المعنوية لأوربا لكبح جماح ما في روحه من أحاسيس نفسانية منحازة لصالح أوربا، فهي محاورة مقتضبة من ناحية، ومسهبة من ناحية أخرى. ولئلا يساء الفهم، لا بد أن ننبّه: أن أوربا اثنتان: إحداهما: هي أوربا النافعة للبشرية بما استفاضت من النصرانية الحقة، وأدت خدمات لحياة الإنسان الاجتماعية بما توصلت إليه من صناعات وعلوم تخدم العدل والإنصاف، فلا أخاطب -في هذه المحاورة- هذا القسم من أوربا؛ وإنما أخاطب أوربا الثانية، تلك التي تعفّـنت بظلمات الفلسفة الطبيعية، وفسدت بالمادية الجاسية، وحسبت سيئات الحضارة حسنات لها، وتوهمت مساوئها فضائل، فساقت البشرية إلى السفاهة، وأردتها الضلالة والتعاسة. ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية المعنوية الأوربية بعد أن استثنيتُ محاسن الحضارة.” (3)
وأما تاريخ هذه السياحة الروحية المعنوية، فإنه يعود إلى أيلول عام 1919م عندما دهى العالمَ الإسلامي أمرٌ لا عزاء له، مهّدت لسقوط البقية الباقية من الخلافة الإسلامية في أقل من خمس سنوات، وقد ولّدت تلك الهزيمة النكراء شعورين متناقضين ومتضادين، أحدهما: الشعور باليأس والقنوط الذي دفع بالسواد الأعظم من الناس إلى التبرؤ من الغرب واستمراء العيش في كنف الماضي السليب، والتلذذ بترديد أمجاد ذلك الماضي، مع رفض الأخذ بسائر وسائل وأسباب الترقي والتقدم. وأما الشعور الثاني، فقد تمثل في الرضى والقناعة بالدونية، والانبهار والانهزام والتبرؤ من الماضي التليد، مع الاعتقاد الجازم بأن السعادة والرخاء والاستقرار والأمان مرهون كل أولئك بالتبعية الخالصة للغرب الغالب.
أمام هذين الشعورين، حاول الإمام -كعادته- أن يحيي شعورًا ثالثا لا ينتمي إلى أي من هذين الشعورين، وينبثق من إيمانه الخالص بأن الابتلاء لا يعني نهاية المطاف، بل يجب أن يعقبه صبر واصطبار وتعلم من الماضي، وإدراك الحاضر، والتخطيط للمستقبل، يقول: “.. إن المصيبة ليست شرا محضا، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء مثلما قد تفضي السعادة إلى بلاء.. لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائفة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلا زاهرًا فسيحًا بحال حاضر جزئي متغير محدود، لا شك أنه رابح.. فلو كنا منتصرين غالبين لكُنّا ننجذب إلى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك.. فهذه المدنية.. التي لم نر منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيّئاتها على حسناتها، تحكم عليها مصلحة الإنسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظة الإنسان، وصحوته بالانقراض؛ فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدّارة المتوحشة معنى في أرجاء آسيا..”(4)
إن نظرة متفحصة في نظريته في المسألة الغربية، تهدينا إلى تقرير القول بأن الوسطية والاعتدال عند النظر إلى الأشياء كان الدافع والأساس الذي تقوم عليه نظرة الإمام.
وقد عني رحمه الله بتحقيق القول في الأسباب التي جعلت أوروبا الأولى نافعة للبشرية، وحَصَر تلك الأسباب في سببين أساسيين، أوّلهما: سبب عقَدي لا دخل للبشر في إيجاده، وثانيهما: سبب مادي، للبشر دخل في إيجاده. أما السبب العقدي، فإنه يتمثل في التزام أوربا الأولى بالبقية الباقية من النصرانية الحقة التي لم تطلها يد التحريف والتغيير والتضليل والتبديل، ذلك لأن النصرانية الحقة التي أتى بها المسيح عليه السلام، تدعو إلى الرحمة والسماحة والتواضع وصلة الرحم، وهذه النصرانية الحقة تقوم في جذورها على الحنيفية السمحاء، وقد بعث بها أيضا نبينا عليه صلوات ربي وسلامه، ووصفها ذات يوم بأنها اللبنة التي تكمّل بقية البناء. وأما السبب المادي الآخر، فإنه يعود -في نظر الإمام- إلى الخدمات الجليلة التي قدمتها للبشرية من خلال ما توصّلت إليه من صناعات وعلوم وإنجازات، وترفع عن العالمين المشاق والصعاب، وتوفر لهم وسائل الراحة والرفاهية.
على أنه من الحري بالتقرير أن أوروبا -الأولى أو الثانية- لم تصل إلى هذا المستوى من الترقي والتقدم والتطور إلا من خلال ما تميزت به من إبداعية وعمق في التفكير والتخطيط والنظام، والتزامها الحزم والانضباط والرويَّة والأناة فيما تقدم عليه من عمل أو صناعة.
إن هذه الخصال التي لخّصها الإمام النورسي في بيان رفيع تعد في حقيقتها أسباب تقدم الشعوب ونهضة الأمم. وتلك سنة الله الماضية في الأمم قاطبة، ولم ولن تتخلف في أمة قط مهما سمت أو دنت عقيدتها.

أسباب كون أوروبا الثانية ضارة للبشرية

ولئن كان هذا تحليلا لأسباب كون أوروبا الأولى نافعة للبشرية، فإن ثمة أسبابا لكون أوروبا الثانية ضارة ومضرة للبشرية، وقد عني الإمام رحمه الله بتحرير القول في هذه الأسباب في جملة من كتبه. فتجردُ أوروبا الثانية عن مبادئ هذه النصرانية يعد السبب الأساس في كونها ضارة ومضرة بالبشرية؛ وأما السبب الثاني الذي جعل أوربا الثانية غير نافعة، فإن ذلك يعود إلى لجوئها إلى استخدام نتائج الصناعات والإنجازات التي توصلت إليها فيما لا يعود على البشرية بنفع ولا فائدة، بل إنها تقود البشرية إلى مهاوي الدمار والضلال والضياع والتيه، مما جعل هذه الأوروبا أكثر إضرارًا وإساءة إلى البشر.
وانطلاقا إلى أنه ليس من الوارد عيش الإنسان على هذه الأرض دون أن يستند إلى معتقد ولو كان فاسدا ودنيئا، فإنه كان لا بد لأوروبا الثانية من أن تتبنّى بعد تمردها على الديانة النصرانية ومبادئها، ديانة أخرى محرفة من الديانة الصحيحة الحقة تتخذ من الفلسفة المادية أساسا لها، وتقوم على التنكر الصارخ للخالق المدبر العزيز الحكيم، وتنأى بنفسها عن مبادئ النصرانية الصحيحة رغم ادعائها إيّاها، كما أنها تلفظ في كثير من سلوكياتها القيم والأخلاق الحميدة التي أتى بها الدين العيسوي، ولا تعترف بثبات تلك القيم أو الأخلاق في المجتمعات، بل إنها ترى قيما وأخلاقا خاضعة للظروف والأزمنة والأمكنة انطلاقا من مبدإ التفسير المادي للتاريخ، والمعتقد والأخلاق، فكل شيء يحدث في المجتمع وفق هذا المبدإ إنما يحدث للظروف المادية، فالمادة هي المسؤولة عن تشكيل المعتقد والأخلاق، وتتأثر سلوكيات الأفراد والجماعات بالمادة.
بناء على هذا التفسير الجائر للتاريخ والمعتقد والقيم، لم يكن من عجب أن تتحول الحياة في كثير من الأقطار التي تخيم عليها هذه الفلسفة إلى حياة ملؤها الاضطراب والإباحية والسفسفة والقلق. وقد صوّر الإمام النورسي حالة الحياة التي تسيطر عليها هذه الفلسفة وصفا دقيقا، فقال ما نصُّه: “..فيا أوروبا التي نأت عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة، لقد أهديت بدهائك الأعور كالدجال لروح البشر حالة جهنّمية، ثم أدركتِ أن هذه الحالة داء عضال لا دواء له؛ إذ يهوي بالإنسان من ذروة أعلى علّيين إلى درَك أسفل سافلين، وإلى أدنى درجات الحيوان وحضيضها، ولا علاج لكِ أمام هذا الداء الوبيل إلا ملاهيك الجذابة التي تدفع إلى إبطال الحس، وتخدير الشعور مؤقَّتا، وكمالياتك المزخْرفة وأهواؤك المنومة.. فتعْسًا لك ولدوائك الذي يكون هو القاضي عليك..”.(5).

تقويم منهجي للنظرة النورية إلى المسألة الغربية

وبالرجوع إلى أهل العلم بمناهج البحث والتحقيق، نجد ثمة اتفاقا بينهم على أن التحليل العلمي الدقيق للأفكار ينبغي أن تتوافر فيها جملة من الأسس الضرورية الهامة، ومن أهمّها: الموضوعية، والعلمية، والشمولية. فهلمّ بنا لنقف هُنَيهة نتبين خلالها من مدى توافر هذه الأسس في النظرة النورية إلى المسألة الغربية.
أولا: الموضوعية في الطرح
ليس من مرية في أنه من طبيعة الأفكار والآراء التأثر المباشر وغير المباشر بالقناعات القبلية والتقلبات الزمانية والمكانية والعادية، ولا يَسلَم من هذه الظاهرة من المفكرين والعلماء إلا فئة قليلة يتميزون بالصمود أمام العواصف الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولكن نظرة متمعّنة في جل الأعمال التي تركها الإمام النورسي، تدلّك على محاولته الدائمة عدمَ إخضاع أفكاره وآرائه الإصلاحية لظروف الزمان والمكان؛ فعلى الرغم من الظروف النفسية العويصة الصعبة التي كانت الأمة الإسلامية تمر بها إبان الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من سيطرة الشعور بالهزيمة واليأس لدى البعض، واستعلاء الشعور بالانبهار والانخداع لدى البعض الآخر، فإن الإمام النورسي أبى أن تكون نظرته أسيرة لأي من هذين الشعورين.
ولكأني بالإمام وهو يقدم نظرته القائمة على الموضوعية العلمية، يريد أن يقرر بجلاء ضرورة العودة إلى المنهج القرآني عند التعامل مع الأفكار والأشخاص، وهذا المنهج يرفض تبعية تعاليم الشرع للزمان والمكان غير الطبيعيَّين، ويراهما تابعين وخاضعين لها، وفي هذا يقول المولى الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8).
الثانية: العلمية والشمولية في الطرح
من المتواتر لدى أولى العلم والنهى أن نظرة المفكر المنصف الواعي إلى الأحداث والمسائل ينبغي لها أن تختلف عن نظرة العامة، فالمفكر الحصيف يسمو بنظرته من أن تتأثر وتخضع لأهواء العامة وشهوات الحكّام، ويدفعه ضميره الحي إلى التغلب على لحظات الغضب والانفعال عند البوح برأيه أو نظرته في مسألة من المسائل.
إن غياب العلمية والشمولية في معظم الدراسات والأبحاث التي عني أربابها بتناول المسألة الغربية من زاوية ضيقة لهو المسؤول المسؤولية التامة عن المواقف غير المتوازنة من المسألة الغربية، وبالتأمل في النظرة النورية إلى هذه المسألة، يجد المرء أنها سمت بنفسها من الوقوع في هذا التغييب المتعمد للعلمية والشمولية والموضوعية، إذ إنها اتسمت -كما رأينا- بتسليط الضوء على المسألة بصورة متوازنة وصريحة، ولقد اختار الاعتدال والوسطية في النظر إلى هذه المسألة؛ فالغرب في نظرته ليس كله شرا، وليس كله خيرا، بل إن العقيدة النصرانية الحقة هي الأخرى ليست عقيدة خالية من المبادئ السامية والخصال الحميدة، وليست هي المسؤولة عن نشأة ما سمّاه بأوروبا الثانية الضارة، وبالتالي، فإن التعامل معه ينبغي أن يقوم على استحضار أمين لهذا البعد.
وخلاصة القول، لقد أوفت النظرة النورية على العلمية والشمولية التي تحتاج إليها الأمة الإسلامية في العصر الراهن في تعاملها مع المسألة الغربية، وكان مقتضى هذه العلمية والشمولية ضرورة العودة الصادقة إلى تبنّي الأسباب والخصال الحميدة التي استندت إليها أوروبا في بناء نهضتها وتقدمها وحضارتها، كما كان مقتضاها ضرورة الوعي على أهمية الأديان وخاصة الأديان السماوية في ترشيد الإنجازات والصناعات وتسخيرها لخدمة البشرية والإنسانية؛ فليس ثمة دين سماوي يدعو أتباعه إلى تدمير البنى التحتية للأمم، وسفك الأرواح، وهتك الأعراض، وإبادة الممتلكات، والاستعلاء في الأرض، والتكبر على العباد، والخضوع للشهوات والنـزوات، فكل أولئك آفات وأمراض تواترت الأديان السماوية على محاربتها والوقوف منها موقف الرفض والإنكار.

النظرة النورية وواقع العالم الإسلامي الراهن

لئن تأمل المرء في النظرة النورية وما حوته من إشراقات وتحليلات قيمة، ولئن تابع المرء بدقة وإمعان الظروفَ العالمية التي كانت سائدة يوم أن باح الإمام رحمه الله بهذه النظرة، فإننا سنجد أن أوروبا التي كان يعنيها في نظرته لم تكن منقسمة على نفسها إلى أوروبا النافعة وأوروبا الضارة، وإن قامت بينها الحروب والقلاقل والأزمات، بيد أنه كان يعني بنظرته ما يوجد في حضارة أوروبا ومدنيتها من محاسن ومساوئ، وعدّ محاسنها أوروبا قائمة بحد ذاتها، كما اعتبر مساوئها أوروبا الثانية المختلفة عن الأولى.
لكأني بهذه النظرة النورية الشاملة تستشرف المستقبل وتؤكد بأن أوروبا ستنقسم -إن عاجلا أو آجلا- على نفسها إلى أوروبا النافعة وأوروبا الضارة!
وبناء على هذا، فإنه حري بعموم الأمة وخاصة نخبها ومفكريها المخلصين الغيارى أن يستأنسوا وينطلقوا من النظرة النورية العلمية والموضوعية إلى المسألة الغربية مفرقين في أطروحاتهم بين أوروبا النافعة (الغرب النافع) وأوروبا الثانية (الغرب الضار)، فأوروبا النافعة ينبغي التواصل معها، وفتح حوارات واسعة معها، والبحث عن السبل الممكنة لتعميق العلاقات والاتصالات بينها وبين العالم الإسلامي على مختلف الأصعدة والمجالات سعيا إلى إسعاد الإنسانية والبشرية برمتها. و لا بد من استثمار ما في الغرب النافع من محاسن وخيرات وتوظيفها لخدمة قضايا الأمة ومساندة مواقفها.
لم يعد ينفع العالم الإسلامي اليوم -قادة وشعوبا- الإصرار كل الإصرار على تحميل الآخرين -وخاصة الغرب- مسؤولية ما يجتاح الأمة من جوائح وفجائع وفظائع واعتداءات، كما لم يعد يسعفنا التوغل في المثاليات وانتظار المدد السماوي دون الأخذ بالأسباب والعوامل، فذلك المدد حاشاه أن يدركنا إذا لم نغير من واقعنا الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وصدق الله جل في علاه ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11)، يومئذ سيتحقق لها ما وعد الله به.
وصفوة القول، إذا أراد العالم الإسلامي اليوم الإسهام في بناء عالم آمن مسالم متحاب ومتعاون ومترابط، فإنه حري بنا إعادة النظر في علاقاتنا مع الآخرين، وجعل الإيمان بالتعددية والتنوع قاعدة إيمانية لا نحيد عنها، بل نبني عليها الجسور مع أتباع الديانات الأخرى، وخاصة منها الديانات السماوية، لمصلحة الإنسانية، ومقتضى هذا ضرورة إعادة النظر الحصيف في كثير مما قررته المدونات الفقهية حول علاقة المسلمين بغير المسلمين. فليس من شك في أن هذه التقسيمات صياغات فقهية لا تسمو على المراجعة والتقويم والتعديل في ضوء ما يموج العالم اليوم من ظروف سياسية واجتماعية وفكرية واقتصادية لم يكن لها وجود يوم أن صيغت تلك الاجتهادات الفقهية حول رسم علاقات المسلمين بغيرهم.
_______________
الهوامش
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون، ص137. (بتصرف)
(2) لقب “سعيد الجديد” أطلقه الإمام النورسي على نفسه من وصوله منفيا إلى مدينة “بارلا” سنة 1927م وحتى خروجه من سجن “أفيون” سنة 1949م.
(3) انظر: اللمعات لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، ص 178-177 (بتصرف واختصار).
(4) انظر: صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ص355.
(5) انظر: اللمعات لسعيد النورْسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ص178.