فتح الله كُولَنْ في الأسرة وهالة التحصيل الأولى
وُلِدَ فتحُ الله كُولَنْ في (1938م) في عالَم أُقِيمَ على ركامٍ خلّفته الحداثة العثمانية، إلا أن إزالة تلك الآثار تمامًا لم تكن قد أمكنت بعدُ، وهو إلى جانب هذا عَالَمٌ رُفضت فيه بشكل كبير آليّاتُ وأفكار “المجتمع العثمانيّ التقدّميّ” الرئيسة على حد تعبير “إسماعيل جَمْ (İsmailCem)” ، ويمكن القول إن بيت الوالد هو الذي أحدث واحدًا من أهمّ التأثيرات في نشأته كــ”مستقبلٍ ضاربٍ جذرَه في الماضي” ، فلقد كان يقع منزل والده في المركز من ذلك المشهد في حياته الممتدّ من قرية “قُورُوجُوقْ (Korucuk)” -المكوّنة من خمسين إلى ستّين منزلًا بقضاء “حسن قلعة (Hasankale)” أو باسمه الآخر “بَسِينْلَرْ (Pasinler)” التابع لمحافظة “أَرْضُرُومْ”- إلى قلب “أَرْضُرُومْ” نفسها؛ التي كانت مفعمةً بالنشاط والروح الإسلاميّة، ففي هذا البيت -وعلى حدّ تعبيراته وتقييماته هو- كان الجدُّ “إسماعيلُ آغا” -رمزُ الجِدِّ والوقار ورباطة الجأش والالتزام الدينيّ-؛ على علاقةٍ قلبيّةٍ مع حفيده لم يفطن إليها أحدٌ، وبالرغم من أن الأب “رامز أفندي” نشأ في قريةٍ صغيرةٍ، وفي فترات الجدب والقحط والجفاف المادّيّ والمعنويّ في تركيا؛ إلا أنه كان شخصًا نبيلًا عاشقًا للعلم، لا يُضيّعُ وقته هباءً أبدًا، فطِنًا كريمًا متمسّكًا بدِينِه من شغاف قلبه، أما السيدة “مؤنسة” جدّته لأبيه فكانت سيدةً عميقةً وغامضةً كالبحار الهادئة المستقرّة، مثاليّةً تبيّن بكلِّ أحوالِها وأطوارِها إيمانَها وصِلَتَها بربّها؛ أما السيدة “خديجة” -جدّته لأمّه سليلة أحد الباشاوات- فقد كانت بكلّ أوصافها مثالًا للنزاهة، أما ابنتها السيدة “رفيعة” والدة فتح الله كُولَنْ فقد كانت هي كذلك تمثالًا للشفقة ونقاء النفس علّمت نساء القرية كلّهن القرآن الكريم، فنشأ فتح الله كُولَنْ في بيتٍ على ذاك النحو؛ فتعلم وهو لا يزال في الرابعة من عمره قراءة القرآن الكريم، وفي تلك السنوات كان تدريس القرآن الكريم علانيةً في تركيا ممنوعًا وأمرًا في غاية الصعوبة، ولهذا السبب كانت السيدة “رفيعة” توقظ ابنها ليلًا؛ فتعلّمه القرآن الكريم.
كان هذا البيت وكأنه دار ضيافةٍ يحطُّ فيها مشاهير أهل العلم والمعنى وتستقطبهم مما حولها، فكانت بالنسبة لهم دار الحلّ والترحال، فكان الأب “رامز أفندي” محبًّا للعلم والعلماء كثيرًا، محاولًا اصطحابهم ومرافقتهم، يسعى يوميًّا لاستضافةِ أحدهم -على الأقلّ- في بيته، ولذا وجد الطفل فتح الله أفندي -الذي يحبّ مجالسة الكبار أكثر من مجالسة أقرانه- نفسَه في حلقةٍ من العلم والروحانيّات منذ مولده، فهذه هي الحلقة التي تعرّض فيها للتأثيرات الأوّليّة التي ستبني في كيانه المشاعر الجذريّة (ما دون الوعي) وبالتالي كانت تلك الحلقةُ المكانَ الذي عاش فيه الاختمار الأوَّلَ في تكوّن روحه، لقد كانت تلك الحلقةُ تُكسِبُه تداخلَ الدنيا والآخرةِ.
درس فتح الله كُولَنْ الابتدائيّة في قريته، وعلى حين كان يدرُس من جانبٍ، كان يساعد والدته في شؤون البيت من جانبٍ آخر؛ لكونه الابن الأوّل فيه، وقد درس اللغة العربية على يد والده أولًا، ثم على يد “سعدي أفندي”، وتعلّم التجويد على يد “الحاج صدقي أفندي” في “حَسَن قلعة” وقد أثَّر فيه “أَلْوَارْلِي محمد لطفي أفندي” في أولى سنوات طفولته وشبابه أعظمَ التأثير.
جاء فتح الله كُولَنْ “أَرْضُرُومْ” لمواصلة تعليمه، وكانت أشياؤه تملأُ صندوقًا صغيرًا جدًّا يحمله في يده، فواصل تعليمه تحت وطأة ظروفٍ عسيرةٍ جدًّا.
أفراد العائلة مرتبطون ببعضهم لأقصى درجة، ومن ثمّ فإن فتحَ الله كُولَنْ الطفلَ والشابَّ قد هزّه من أعماقه موتُ أختٍ له في صغرها، وموت كلٍّ من جدّه وجدّته وهو لا يزال يدرس في “أَرْضُرُومْ”، ثم موتُ محمد لطفي أفندي لاحقًا.
نشأ فتح الله كُولَنْ في بيئةٍ سادتها التربيةُ الإسلامية ورُوعيت فيها مراعاةً جيّدةً، فكان من احترامه وتوقيره لا يَمُدُّ -حين يريدُ النوم- قدميه صوب رفاقه في الغرفة الضيّقة التي يقيم فيها معهم، وذلك حينما كان يواصل تعليمه في “أَرْضُرُومْ”، فكانت تلك هي إحدى الجهات الأربعة المعروفة، وأما الجهة الثانية فكانت القبلة، والجهة الثالثة تصطفُّ فيها كُتُبُهُ؛ فكان يمتنع أيضًا عن مدّ قدميه نحو تلك الجهتين احترامًا للكتب والقبلة، أما الجهة الأخيرة من الغرفة فكانت صوب قريته “قُورُوجُوقْ”؛ حيث والده؛ ولاحترامه إيّاه لم يكن يمدّهما إليها كذلك، بل إنه كان يُمضي بضع ليالٍ جالسًا بهذا الشكل.
كان فتح الله كُولَنْ في شبابه مفعمًا بالحيويّةِ إلى حدٍّ بعيدٍ، لا يُهمل ممارسة الرياضة، ويرتدي بنظيف الثياب، بل بشكل يمكن القول إنه فاخر بالنسبة لظروف ذلك العصر، لا يرتدي بنطالًا دون كيٍّ، ولا حذاءً دون تلميعٍ.
وكما أن البيئة التي ينشأ فيها الأشخاصُ تكون مهمّةً في تربيتهم؛ فإنَّها تكتسب أهمّيةً أخرى بسبب أُسُسها التاريخيّة والوضع القائم آنذاك؛ لا سيّما في التعرّف على الأشخاص الذين جاؤوا وأثّروا في المراحل الانتقاليّة من التاريخ، ويمكن القول إن هذه الخلفية التاريخيّة مهمّةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ في التعرّف على شخصيّة فتح الله كُولَنْ التي يشكّل الماضي ثلثها، والحاضرُ ثلثها الثاني، بينما المستقبلُ يُشكّلُ ثلثها الأخير.
وهكذا فإننا حين ننظر إلى مقالات فتح الله كُولَنْ الناشئ في بيئة اُستُشعِرتْ فيها بشكل حقيقي نسائمُ “المجتمع العثمانيّ التقدّميّ” في مجالات الأخلاق والروحانيّات والنظام العائليّ وآداب المعاملة من جانبٍ، وانهيارُ دولةٍ حكمت القارّات الثلاث زمانًا؛ فأصبحت أنقاضًا بفعل مسيرة الحداثة من جانبٍ آخر، وعمّت فيه آلام هذه الأنقاض التي عجزت أن تنظفها تمامًا حداثة الجمهورية السائرة بالتوازي مع الحداثة العثمانية بحيث أصبحت -تلك البيئة- مصدرًا للأفكار والأحاسيس المتناقضة، فعند النظر إلى ذلك كلّه يلفت انتباهنا أنه يكمن في أغلبها -أي المقالات- ألمٌ مصدره التاريخ، ونشاطٌ وعشقٌ وقلقٌ وحماسةٌ مصدره الحاضر، وأملٌ وشوقٌ مصدره المستقبل وهذا ما يُشكّل أهمّ العناصر فيها، وهو ينظر إلى الماضي والحاضر من نافذة تلك اللوحة التي حاولنا آنفًا تصوير قسمٍ منها بكلماته وعباراته هو؛ فيقول ما يلي:
“كان عالَمُنا في زمنٍ ما بَلَدَ ثقافةٍ وحضارةٍ مُتميّزًا في كلّ شيءٍ… المدن والقرى في هذا العالم وثيقة الترابط فيما بينها بفضل راوبط مادّيّة ومعنويّةٍ، وكان البلد كله بقصباته وقراه ومُدُنِه يشبه مدينةً عظيمةً، وجميع الناس في هذه المدينة المثالية يتّصفون بصفاءٍ أخلاقيٍّ عميقٍ ووعيٍ دينيٍّ سليمٍ ووحدةٍ ملّيّةٍ لا تتزعزع… وفي ظلّ هذا كانوا يحظون بسعادةٍ وطمأنينةٍ عظيمةٍ، وكانت الحياة في أغلب الأماكن تجري دون وقوع حوادث أو نزاعاتٍ أو جرائم أو افتئاتٍ على حقوق الآخرين؛ حتى إن الرّحالة المنصفين ذهبوا إلى أن كلّ شيءٍ هنا يجري على نحوٍ خارقٍ للعادة”.
“الجميع هنا يمتلئون ويفيضون خيرًا وجمالًا؛ وكلّ واحدٍ منهم يتحرّك وهو على وعيٍ بأن بعضهم لبعضٍ ناصحٌ أمينٌ، ويتصرّف كلّ فردٍ وكأنه حامي شرف وكيان وعِرض المجتمع، ويبذل الجميع جهده ليكون كل واحدٍ منهم فائق ورفيع الحسّ وذا مروءة خارقةٍ وصدقٍ خالصٍ ينبع من القلب في سبيل سعادة المجتمع… ويعيش ذوو المقدرة تحت أمر الدولة والأمة بما يملكونه من إمكاناتٍ، أما المحتاجون فما كانوا يُضطرُّون إلى التذلُّل والتسوّل”.
“نحن أدركنا قيمة حضارتنا الرائعة تلك التي تحوّلت إلى كومةٍ من الأنقاض بفعل هزّات متتابعةٍ، وعجزنا أن نشاهد ونبصر هذا العالم الرائع، ونظُمَهُ الساحرةَ وانتظاماتِه المُحيِّرةَ، عجزنا أن نرى ونبصرَ كلّ شيءٍ وهو في مجده وقوامه أي قبل أن تفسد بساتينه، وتَذبل أزاهيره، وتحترقَ غاباته لتصبح رمادًا، وتنهارَ أراضيه وتنجرف بفعل عوامل التعرية، وتنفُقَ جياده الأصيلة، ويعشقَ خيالتُه “مَهْلِقَا سلطان” ، وتنغلقَ العيونُ دون الحقيقة، وتغربَ الشموسُ ويخيم الظلامُ على كلّ مكانٍ، وتجفَّ الجداولُ الجارية، وتنقطعَ مياه الصنابير، وتتوقّفَ الترانيمُ الدينية، وتُطفأَ القُدسيّة، وتُحوّلَ المقابر إلى مزابل…” ، .
العودةإلىالذاتوالنظرةإلىالغربوالتجدّدالدائم
إن فتح الله كُولَنْ الذي يرتبط بمظاهر الماضي عبر الروحيّة والمعنويّة والأخلاقيّة ونسيجه الإنسانيّ والحضاريّ والثقافيّ، يتحدّث في مقالاته -مثل مقالتيه: “الغد السعيد (MutluYarınlar)” ، و”الأجيال السعيدة (MutluNesiller)” – عن طبيعة المستقبل الذي يحلُم به، ويستخدم تعبير “العودة إلى الذات” مثل أغلب المفكّرين المسلمين في سبيل إنشاء هذا المستقبل.
العودة إلى الذات تعني: عودة الشخص إلى جذور شخصيّته وثقافته وروحه الخاصّة به، ولا يمكن أن يتحقّق هذا إلا بحياة الفرد والمجتمع بفكره وإرادته الخاصّة، ووقوفه على قدميه، وعمله بيديه، وتغذّيه بعناصر ثقافته الأساسيّة ونموّه بها، وتجنّبه مظاهر التقليد التي من شأنها أن تخدش شخصيّته الملّيّة، وحماية الأمور التي انصهرت في أعماق ذاته منذ عصورٍ مديدةٍ مثل: الأعراف والعادات والسمات الملّيّة ورعايتها بحساسيّةٍ فائقة.
ويقف فتح الله كُولَنْ على ما لا يُعتبر”عودةً إلى الذات”؛ فيرى أنه لا ينبغي أن تُفهم “العودة إلى الذات” على أنها تصرُّفٌ عرقيٌّ، وتحرُّكٌ وفقًا لرابطة الدم، أو انغلاقٌ تامٌّ دون العالَم الخارجيّ وتقوقعٌ في النموذج الشخصي، بل إن العودة إلى الذات تعني الجمع بين الماضي والحاضر، وبين الحاضر والمستقبل أيضًا، وإخراج ما يجب إخراجه من ذلك باستخدام موشور الثقافة المتوارثة عبر العصور وطرحه جانبًا، ومن ثمّ التخلص منه، والتمسك التامّ بالنافع المتبقّي.
ولا يعارض فتح الله كُولَنْ في موضوع “العودة إلى الذات” الاتّصالَ بالغرب والاستفادةَ منه، ولكنَّ ما يعارضه هو الأخطاء الثاوية في النظرة إلى الغرب وفي تقييمه والاتصال به، إنه يرى أن من أهمّ أسبابِ المصائب التي يتعرّض لها العالَمُ الإسلامي الآن: هو عدمُ فهم الغرب وتقييمه كما يجب، والعجزُ عن الاستفادة من العناصر التي ترفعه وتفيده، ويدافعُ كُولَنْ عن فهم الحقائق، وإخضاع كلّ شيءٍ لمصفاة العقل والمنطق والمقايسة الذهنيّة، والتحرّك بقدر ما يسمح به نسيج المجتمع.
كما يرى كُولَنْ أن التاريخ شهد على امتداده حضارات كانت لها نشاطاتها وعناصرها الرئيسة الخاصّة بها فحسب، وكانت الحضارة الغربيّة الحديثة أيضًا واحدةً من بينها؛ لها عناصرها الأصليّة التي صاغتها بنفسها، وليس من الممكن أن تأتي حضارةٌ أو عائلةٌ ثقافيّةٌ أخرى فتأخذ تلك العناصر بعينها وتطبّقها؛ إذ يستحيل أن تتحوّل الحضارات إلى بعضها، إلا أن في كلّ حضارةٍ عناصر يمكنها أن تحقق “التوافق النسيجيّ” مع الحضارات الأخرى، المهمّ هو القدرة على تحديد تلك العناصر وتطعيم البنية بها وغرسها في الجسد، من هذه الزاوية ينظر كُولَنْ إلى الغرب وإلى علاقاتنا التي يجب أن تقام معه، ويؤكّد على أن الانغلاق تمامًا دون الغرب بأسلوبٍ عدائيٍّ تصرّفٌ سلبيٌّ جدًّا؛ مثلُهُ في ذلك مثلُ تقليد الغرب دون وعيٍ ولا معرفة.
ويركز فتح الله كُولَنْ -فيما يتعلّق بحياة المجتمع ونهضة أيّة أمّةٍ- على العلم والدِّين والفكر والثقافة والعلاقة فيما بينهم جميعًا، كما أنه يتطرّق إلى قضيّة اللغة حتى تتمكن البلادُ من حلِّ مشكلاتها وتنهض بذاتها، فيقول:
“لا بد من دراسة اللغة بثقلها الكامن في تكاملها وتطوّرها التاريخيّ، وأن تُعزّز وتُجعل لغةً تُقرأُ وتُكتب بشوقٍ ولهفةٍ بين لغات العالم”.
ويُرتّبُ فتح الله كُولَنْ أهمّ الشروط بالنسبة لأمّةٍ تبغي التقدّم وسلامة البنية والبنيان، ويتطرق إلى الوعي التاريخي أيضًا، فيقرر أنّ:
“وعيَ التاريخ بمثابة جسرٍ يربط بين الماضي والمستقبل، فالأمم العاجزة عن إقامة هذا الجسر أو الحفاظ عليه؛ يصعب التنبّؤُ بوجهتها ونتيجتها، ولا يمكن معرفة المكان الذي سترسو عليه سفينتها في الساحل الآخر”.
وكُولَنْ الذي يحمل في قناعته:
“إن هذا الحال محالٌ؛ فإمّا حالٌ جديدٌ وإمّا الاضمحلال!”
يتحدّث عن ماضٍ رغب في استخراج وإنشاءِ الهويّة المعاصرة من داخله، وهذا ليس مجرّد “ماض”، بل إنه “ماضي الحاضر”.
أما المنهج الذي اقترحه كُولَنْ من أجل تحقيق هدف “العودة إلى الذات” والقدرة على البقاء والحياة دائمًا فهو التجدّد المستمرّ أو “تجديد الذات” لكنه ليس حداثيًّا مهووسًا بالتجديد متكلّفًا فيه، ولا مؤيّدًا لارتداء كلّ “لباس” يُقدّم إلينا بدعوى أنه حديث، بل إنه مجدّد موالٍ لسبق الزمان في إطار الارتباط بالقيم الجوهريّة التي تجعل من الإنسان إنسانًا، ومن أيّة أُمّةٍ أمّةً.
إن كُولَنْ -الذي يعتبر تجديدَ الذات الشرطَ الأول للقدرة على البقاء الدائم وأهمَّ أسُسِه- يرى أن من لا يجدّدون أنفسهم، إذا ما آن أوانُ ذلك؛ محكومٌ عليهم بالفناء والزوال إن عاجلًا أو آجلًا، حتى وإن كانوا أقوياء، فكلّ شيءٍ يعيش ويواصل بقاءه حين يجدّد نفسه.
ويلفت فتح الله كُولَنْ النظر إلى أن التجدّد واقعةٌ تلاحظ وتشاهد في الطبيعة دائمًا، ويقول إن الدول تتحمّل مسؤوليّات عالميّة بقدر تجديدها ذواتها واستعادتها شبابها، ويمكنها أن تستعدّ لفتوحاتٍ جديدةٍ، ويعرّف ذلك الفتح بأنه:
“فتحٌ يمكن أن يتحقّق عن طريق إكساب العلمِ نورًا والتقنيّة إيمانًا وتقديمِ الرسائل إلى البشرية في سبيل انبعاث الإنسانيّة من جديد”.
ويحذّر قائلًا:
“يجب ألّا يُخلط بين تجديد الذات وبين الهوس بالحداثة والولع بالتقاليد الجديدة”.
إذ يرى أن التجدّد الحقيقيّ هو حماية صفاء النواة، والتوليف بين القيم الحقيقيّة جميعها الممتدّة من الماضي -عن طريق الإرث- وبين نسائم الفكر والعرفان الكائن في الوقت الحاضر، ومِنْ ثمَّ الوصول إلى مناخات تأمّلٍ وتفكّرٍ أكثر بريقًا، إن تجديد الذات انبعاثٌ في الروح، إنه تقييمُ نشوء العلوم وتطوُّرها وتجهيز التقنيّة ودعمها بإمكانيّات جديدةٍ تمامًا وطرحها لنا لنستفيد منها، إنه التدقيق دومًا في مكاننا بالنسبة للترقّي العلميّ والروحيّ، وتفحُّص قناعاتنا وأفكارنا وتصوّراتنا مرّةً أخرى من أوّلها إلى آخرها، ثم تحقيقها مرّةً أخرى، والتدقيق في الكون كلّه مرّات ومرّات في كلّ لحظةٍ، وإضفاء نكهاتٍ جديدةٍ تمامًا على قرص العرفان الدفين في قلوبنا.

مقدمة الكتاب