إن الكتابة عن الشخصيات والإقدامَ على سبرِ أغوارها ومحاولة التعريف بها محاولةٌ صعبةٌ وجهدٌ مضنٍ إلى حدٍّ كبيرٍ، لا سيّما إن كانت الشخصيّة التي نتناولها متعدّدة الشمائلِ والخصائصِ والخِصالِ، ومعروفةً ومحبوبةً لدى الرأي العام تحظى بتقديره وإجلاله؛ فإن الأمر يزداد صعوبةً، ويُصبحُ أكثرَ حساسيَّةً.
لقد حاولنا في الفصول الأربعة السابقة أن نعرّف فتح الله كُولَنْ بجوانبه الخارجيَّةِ، ولا سيما بأفكارِه وحركتِهِ وعملِهِ ومفهومِ الإسلام لديه معتمدين في ذلك على ما كتبه هو نفسه وعلى تقييمات الآخرين له ولأعماله أيضًا، أما في هذا الفصل فإننا سنظلُّ مراقبين -على عهدنا وكما كُنّا- نرصدُ ونحاولُ التعرُّفَ عليه بشخصيَّتِهِ وسِماتِهِ وكونِهِ فردًا من الناس.
أبرزثلاث سمات في شخصية كُولَنْ
نشأَ فتحُ الله كُولَنْ في بيتٍ رفيعٍ وسامقٍ وأسرةٍ راقيةٍ ذكيّةٍ مرهفةِ الحسِّ متديّنةٍ، وقد تأثر في إطارِ هذه العائلة تأثُّرًا أيَّما تأثُّرٍ، ولا سيما فيما “دون الوعي” بجدَّتِهِ لأبيه السيدة “مؤنسة”، ثم بوالدِهِ فوالدَتِهِ وجدِّهِ لأبيه، بينما تأثر خارج إطار العائلة بالشيخ “ألوارلي محمد لطفي أفندي”، وثمة ثلاثة عناصر ترفد مرحلةَ “اللاوعي” عنده أو ما يُسمّى بـ”اللاشعور” و”العقل الباطن” لتتطوَّرَ لاحقًا فتبرزَ على أنها أهمُّ سماتِ وأوصافِ شخصيَّتِهِ؛ أولها: الالتزام والحياة الدينية القلبية الضاربةُ جذورها في الأعماقِ والمتوفِّرةُ لدى العائلة كلِّها، وثانيها: ما تُكِنّه العائلة من مـحـبَّـةٍ ومودَّةٍ عميقةٍ تجاهَ الوجودِ بأسرِهِ وخصوصًا محبَّتها للنبيّ والصحابة رضوان الله عليهم، أما الثالثُ فهو: معاناةُ العائلةِ الفقرَ والمظالمَ التي وقعت لا سيَّما في أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى وما عانَتْهُ من مآسٍ وآلامٍ لاحقًا، كذلك وفاة الجدَّةِ والجدِّ لأب دون أن تمرّ بين وفاةِ كلٍّ منهما ساعة وما خلَّفَته هذه الحادثة من تفاعلات في طفولة كُولَنْ، أَضِفْ إلى ذلك وفاة بضعة إخوة ووفاة الشيخ محمد لطفي أفندي، ثم غربة الإسلام، والمصائب التي توالت على المسلمين والإنسان التركي في القرون الأخيرة، وغير ذلك من المعاناة والهموم والدموع.
1- المقياسفيعبوديةالله: اعتبارالإنساننفسهالأحقربينالموجودات
العبودية لله تعالى تتقدَّمُ كلَّ شيءٍ بالنسبة لــفتح الله كُولَنْ وتأتي على رأس أولويَّاته؛ ولأن هذه العبودية هي الأسمى والغاية المنشودة فالإسلامُ هو النظام الأكثرُ كمالًا ومثاليَّةً وملاءمَةً بالنسبة لها؛ وبالتالي فإن قلبَهُ -أي فتح الله كُولَنْ- مُعلَّقٌ بالإسلام بلا شك؛ فلقد تعلَّمَ قراءةَ القرآن الكريم في سنٍّ صغيرةٍ جدًّا بالنسبة لأوضاع بلاده آنذاك، وبالرغم من أنه ربما لم يفوّت -منذ خَتْمِهِ القرآن الكريم وحتى اليوم- ولو صلاةً واحدةً من صلواته، ولم تُحـرَمْ لياليه في أيِّ وقتٍ قطُّ من صلاة التهجُّد إلا أنه -حسب رأيه- لم يُوَفّ حقَّ وظيفةِ العبودية لله تعالى كما يجب؛ فالإنسان يزداد فيه الشعور باعتباره نفسَه أحقر الموجودات وأكثرها ارتكابًا للذنوب كلَّما زادت لديه معرفة الله، والواقع أن فتح الله كُولَنْ يرى نفسَهُ أحقرَ الناس، وأكثرَ من في الوجود ذنبًا وإثمًا.
2- حِبُّالنبيوالصحابة
إلى جانب اعتبار كُولَنْ نفسَه أكثر ما في الكون ذنبًا أمام الله تعالى؛ فإنَّ معرفته لله وعشقه له تعالى وكذلك حبه للنبيّ والصحابة الكرام تبرز كأهم سمة بين سمات شخصيته وصفاته؛ فهو عاشقٌ للنبي ولِصحابته مُتيَّمٌ بهم بكل ما تحمِلُه الكلمة من معنى، وقد عبر شعرًا عن عِشْقِهِ الرسولَ وشوقِه إليه واسترحامِه إياه قائلًا:
كـــــــلُّ روح تحبـــــــك عظيــــــمةٌ يا رســــــول الله!
عينــها وفؤادهـــا بحبـــك عامـــرٌ يـــا رســـول الله!
بالله إنّ الراغب شوقًا في ذرة من نور جمالك
يـــــلازم بابــــــك لا يبــــــرحه أبــــدًا يا رسول الله!
والواصلون إليك لا ينتظرون شيئًا سوى ذلك
فمجلسُـــــــك نَـــــــدِيٌّ بالثـــــــناء يـــــا رســــول الله!
راؤوك بعيــــــــونِ القلــــــــب ولـــو مـــــرة واحــــدة
هـــــــــم نخبــــــــــــة الأرواح يــــــــــــا رســـــــــــول الله!
تحلـــــــق الطيـــور الذهبية الأجنحة في فضائك،
ففضــــاؤك هــــــو سبيـــــل الطيــــور يــا رســول الله!
الآفــــــــــــاق هنـــــــــاك تشــــــــبه ريــــــــاض الجنـــــــان
وجمـــــالك حــرير شفــاف كـالأفق يا رسول الله!
الوصـــــول إليــــــك غــــــــايةُ القلــــــــوب المؤمنــــــة
وجاهلــــوك أمـــــوات غيـــــر أحيــاء يـا رسول الله!
وَصْلُكَ خيالٌ يلوحُ دومًا لهذا القطمير الغريب
فهذا وردة فؤادي يا رسول الله! .
3- أسىالماضيومحنةُالحاضروآمالُالمستقبل
من ينظر ويطالع كتابات فتح الله كُولَن -وإن لم يحضرْ دروسَهُ، ويلازمه ولو لفترةٍ قصيرةٍ- بل وحتى من استمعَ ولو لدرسٍ أو درسين من دروس وعظِهِ -التي يُلقيها منذ الخامسة عشرة من عمره وحتى الخمسين مع تخلُّلِها بعض الانقطاعات الطفيفة- سيُقَدِّرُ من فَورِهِ الحساسيَّةَ الدينيَّةَ الكامنةَ فيها؛ فكُولَنْ إنسانٌ نَذَرَ حياتَهُ لإعلاء كلمة الله تعالى في إطارِ العبوديَّةِ له سبحانه، ولِكَي يَشرُفَ الجميعُ بالهداية إنْ أمكن ذلك وأَذِنَ به الله تعالى، يعني نَذَرَ نفسَهُ لخِدْمَةِ الناس.
وهذا ديدنُ النبيِّ ، إذ يحذره الله سبحانَه في عدَّةِ مواضِعَ من القرآن الكريمِ مشفقًا عليه، من بينها قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6)، وهكذا فإنه ينبغي السعي إلى التعرُّفِ على فتح الله كولن باعتباره إنسانًا يشعر في حدِّ ذاتِهِ ووجدانه بالقلق والألم والمعاناة والوجع نفسه؛ وإن لم يكن بالمستوى الذي يشعر به النبي بالتأكيد، إنه إنسانٌ نذرَ نفسَهُ لخدمة الإنسانية وهو راضٍ بأن يموتَ ويحيا في اليوم مرارًا في سبيل ثباتِ البشرية على الهدى والإيمان، واهتدائِهم إلى الطريق المؤدية إلى الله تعالى، وانتقالِهم إلى الدار الآخرة ثَابِتِينَ على هذا الطريق وإنقاذِ حياتهم الأبديَّة، والسبب في هذا إما السعادة الأبديَّة أو أهمّــيّـــة الحياة الأبديَّةِ التي قد تنقضي في وهدات عذابٍ لا يُطاق، وإنّ ما يشعر به من حُبٍّ تجاه مخلوقات الله حُبًّا في الله إنّما هو بِقَدْرِ ما جيَّشَتْهُ معرفةُ الله وعشقُهُ في قلبِهِ من مشاعرَ وأحاسيس.
فكلُّ إنسانٍ بحسب طبيعة خلقته يشعر بالعلاقة تجاه محيطه بالدرجة الأولى ثم إلى المحيطِ الأكبر تدريجيًّا فبَلَدِه ثم أمَّتِهِ، وهنا يمكن القول إنَّ أقربَ محيطٍ بالنسبة لكولن هو تركيا والإنسان التركي، ويليه العالَم التركي فالإسلامي ثم الإنسانية جمعاء.
وكما يقول كُولَنْ فإنَّ الذوات الذين فازوا بمعرفة الله تعالى وعَشِقوا الإسلام حقًّا يُفَكِّرون في مخلوقات الله من أجل الله، لا في أنفسهم، وكما ورد في القرآن الكريم بحق سيدنا رسول الله من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/107) فإنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء الأشخاص الذين نذروا أَنْفُسَهم لمخلوقات الله رحمةً وعرفانًا وإيمانًا وعشقًا له؛ يُشبه مركزًا تتجلَّى فيه رحمته تعالى ومرآةً تعكسها على المخلوقات، إنهم لا يعيشون لشيء آخر سوى ذلك؛ فقلوبُهم لا تخفق إلا بالله، ولا غايةَ لهم سوى وصل المخلوقات بالخالق، كما يهدفون إلى إنقاذ الحياة الأبديّة لهؤلاء وذلك بإدخالهم في حظيرة الإيمان به تعالى، وتتركَّزُ أفكارُهم حول هذا الهدف… وكما يقول إبراهيم حقّي الأرضرومي:
“لا تُوكَلُ مهمة الإرشاد إلى من لا يرى نفسه دون الموجودات جميعًا”.
لأن هؤلاء سيخدمون الموجودات الأخرى؛ فإنَّ فتحَ الله كُولَنْ إذ لم يرسمْ ويحدِّدْ لنفسِهِ أيَّ منصبٍ أو مهمَّةٍ، بل ورأى نفسَهُ أحقرَ المخلوقات جميعًا، ونَذَرَ حياته كلَّها وكلَّ ما لديه لهذا الهدف؛ يرغبُ بطبيعته في أن يتَّجِهَ الإنسانُ التركيّ أوَّلًا ثمَّ الإنسانيةُ جمعاء إلى الهدف عينه، وإنه باعتباره مُسلمًا أسلَمَ أمره ووجَّه وجهَه لله تعالى يرى الإيمان بالله ومعرفَتَه والفوز بِعِشْقِهِ وتمحوُرَ الحياةِ وتضافُرَهَا حول هذا الأساس أهمَّ عنصرٍ في نجاة الأمة التركية والعالم الإسلامي فالإنسانية جمعاء .
ويمكن بوضوح تام رؤيةُ مدى معاناة فتح الله كُولَنْ وتألُّـمِه في كلِّ كيانه المادِّيِّ والمعنوي من أجل الوصول إلى هذه الغاية؛ فهذا أوَّل ما يلفت النظر في كتاباته وأحاديثه، لأنَّ الآمال المرجوَّةَ مستقبلًا برغم كلِّ شيءٍ هي أبعادٌ لصيقةٌ بهذه المعاناة والألم لا تنفكُّ عنها، ويمكن القول إنَّ الأسى على الماضي في ساحة الإيمان بالله ومعرفته وعشقِهِ، وهمومَ الحاضرِ وآمالَ المستقبل تَنْسُجُ كلَّ مشهدٍ في حياة كُولَنْ، ومن الممكنِ رؤية هذا في معظم أشعارِهِ، مثلها في ذلك مثل كتاباته النثريّة.
ومع أن كُولَنْ رقيق القلب لأقصى درجة باعتباره إنسان الشجنِ والشوقِ والهمِّ والأملِ فإنَّ الدموع لديه هي عملية تفريغٍ للنفس من همومها في كثيرٍ من الأحيان، ولأنه هو مَنْ شبَّه الدموع بالشِّعْرِ الرائقِ الخالصِ فإنَّ شِعْرَهُ دموعٌ يكوِّنُها الشجنُ والشوقُ والهمُّ والأملُ والرجاءُ.
ويرى فتح الله كُولَنْ الهمَّ والقلقَ والدموعَ أكبر مفتاح استخدمه جميع الرسل منذ الإنسان الأول في حلِّ جميع المشكلات، فيقول:
“ألم يُغرق النبي المهموم رسول الطوفان [يقصد نوحًا ] العالمَ بالدموع؟
وخليلُ الله أولُ من دنا من أسرار الخلق، ألم يجعل النارَ بردًا وسلامًا بالدموع لائذًا بالله: “حسبي الله حسبي الله”؟
ألم يكن البكاء دائمًا والتضرُّعُ هو حال سيدنا عيسى روح الله الذي بشر بـــ “الفارقليط” [يقصد سيدنا محمدًا ] ذلك النبي رقيق القلب، والذي تمركزت فيه أسرار الحقّ ؟
وفي المحطة الأخيرة وعلى الطريق الأقوم ألم يكشف هذه الأسرارَ كَشَّافُ اللغزِ الأعظم الروحُ العزيز جوهرُ الخِلقة؛ بدموعه السيَّالةِ وكأنه يحلُّ العُقد؟ ألم يتألَّـمْ ويتأوَّهْ دائمًا منذ كان في حضن أمِّه حتى رحيله إلى الرفيق الأعلى قائلًا: “أمّتي أمتي…” .
إنَّ من يعرف فتح الله كُولَنْ -ولو حتى من كتاباته فحسب- سيحكمُ على الفور أنه منذ نعومة أظفاره وهو يعيشُ دائمًا ليلةً شتويَّةً طويلةً جِدًّا ومليئةً بالكوابيس أحيانًا، و”بالرُّؤى الجميلة” أحيانًا أخرى، وكما أنه صَوّرَ لياليَ الشتاء الطويلة في أشعاره؛ فإنَّ حياته ومعاناتِهِ أيضًا تمثل “ليلةً شتويَّةً” .
فتح الله كُولَنْ: سِماتُهُ الأخرى وحياتُه اليوميَّة
شخصيّة متوازِنَة منسوجةٌ من سِماتٍ متناقِضَةٍ
الإنسانُ له مكانةٌ متميِّزةٌ خاصَّةٌ بين المخلوقات، وأسماء الله التي تُكْسِبُ الكونَ الوجودَ تتجلَّى على نحوٍ متباينٍ في كلِّ عالَم من العوالم المختلِفة المتداخِلة التي تُشكِّلُ الكونَ، بل وفي هذا العالم أيضًا تتجلَّى الأسماء نفسُها في صورٍ شتّى في كلٍّ من المجالات الاجتماعيّة والعِلمية والدينية، ويمكن النظر إلى هذا باعتباره ملمحًا من ملامح تجلِّي الحقيقة في أشكال وألوان ودرجات متباينة تختلف بحسب مستقبلها، وباختصارٍ فإنَّ كلَّ ما في الكون من جواهرَ وأعراضٍ وغيرها دون استثناء؛ إنّما هو آثار تجليات أسماء الله تعالى؛ فمثلًا تتجلى أسماؤه مثل:”المصوِّر والجميل وأحسن الخالقين” في كلِّ زهرةٍ وفقًا لِقُدْرَةِ تلك الزهرة وخصائصها، أما في الإنسان فيمكن القول إنَّ أسماءَ الله تعالى جميعَها تتجلَّى فيه، فَتُشَكِّلُ هذه الأسماءُ المتكاملة في تناغمٍ وتَجانُسٍ مع آثارها المتناقضة مصدرَ ما لدى الإنسان من صِفاتٍ وقابليَّاتٍ وتجلِّياتٍ مختلِفة ومتناقِضة مع بعضِها، إلا أنها يُكمّل بعضُها بعضًا، وربما لا يمكن من الوهلة الأولى التوفيقُ بين رحمة الله تعالى وشَفَقَتِهِ وبين غضبه وعِقابِهِ، بين اسميه “الرحمن الرحيم” وبين اسمه “شديد العقاب”، إلا أن لِكُلِّ اسمٍ من أسمائِهِ مكانًا وساحةً خاصَّةً به؛ أي إنَّ للعقاب أيضًا ساحتَهُ التي يتجلَّى فيها كما أن لكلٍّ من الرحمة والشفقة ساحةً خاصّةً به، وإنَّ هذه الأسماءَ تنعكس على الإنسان أيضًا بالشكل نفسِهِ؛ ولذلك فإنها تتسبَّبُ في تكوُّنِ مشاعر مناقضة لبعضها لدى الإنسان، ومن ثم فإن الواجب عليه أن يستخدم هذه المشاعر المتناقضة كلًّا في مكانِهِ وبالقَدْرِ اللازِمِ، فينسج شريطةَ تناغمٍ وانسجامٍ من هذه المتناقضات.
وبالشكل نفسه أيضًا فكما أن لكلِّ واحدةٍ من حواسّ الإنسان الظاهرة كالرؤية والسمع والذوق والحسّ والشمِّ وظيفتَها الخاصّة بها، وبالتالي فهي تحتاج الغذاء الخاصّ بها؛ كذلك الأمر بالنسبة لحواسِّهِ الداخليَّةِ وكلِّياته فإن لكلِّ واحدةٍ منها وظيفتَها الخاصة بها، ومن ثم فإنها تحتاج إلى إشباعٍ خاصٍ بها، كما أن لمفاهيم العقل والفكر والذاكرة والمحاكمة العقلية والتعلّم -التي يمكننا جمعها كلها تحت مفهوم “الذهن”- وظائفَ ومعانيَ خاصةً بها بالنسبة للإنسان، وبالتالي فإن لها فلكًا خاصًّا بها ومناخًا تتغذَّى منه؛ فالأمر هكذا أيضًا بالنسبة لكليات الإنسان الداخلية والدقيقةِ كمشاعرهِ وقلبِهِ وروحِهِ؛ فلكلٍّ منها وظيفة خاصة، وبناءً على هذا فإنها بقدر ما تتغذى وتُمَدُّ بالقوت اللازم لها بقدرِ ما تستطيع الحفاظ على تناغمها الداخلي، وتستطيع بهذا تحقيق الطمأنينة الداخلية. أجل، حين تنشأُ الصلة اللازمة بين العقل والقلب، أو بين الذهن والروح، ويتحقَّقُ التناغم الداخلي، وتستخدمُ في الاتجاه الصحيح الجوانبُ المنعكسة على الخارج كالقوة والغضب والشهوة يُوَجِّهُ الإنسان حركاته في إطار “الحكمة”، ويعيش حياةً متوازنةً، وباختصار فإنَّ الإنسان حين يجد العدالة والتوازن والمنهج الوسط في داخله يكون عادلًا ومتوازنًا في علاقاته بالآخرين، وإن حدث العكس؛ أي إن خرجَ العقلُ عن الإطار الصحيح لِصالح الروح، أو الروح لصالح العقل، أو الروح والعقل لصالح القوة أو لصالح الشهوة أو البدن نشأ أناسٌ وأشخاصٌ غير أسوياء، وانعكس هذا الوضع نفسه بطبيعته على المجتمع، ومن هذه الناحية فإنَّ تَنْشِئَةَ إنسانٍ كاملٍ متكاملٍ، وبعبارة أخرى تلقِّي الإنسان تعليمًا كاملًا يكمُنُ في الأساس في تحقيقِ التوازن والعدالة والطمأنينة لديه ولدى المجتمع، وتناولِ كلِّيات الإنسان وحواسّه ومشاعره كلِّها ودراستِها.
واستعدادُ فتح الله كُولَنْ وأمثاله من الأشخاص القادرين على التأثير في الآخرين لتلقِّي تجلِّيات الأسماء الإلهية وفهمِها وإبرازها يفوقُ استعداد الأشخاص العاديّين بكثير، وكما أن الأمر على هذا النحو في الملكات والكلِّيَّات العقليَّة والروحيَّة فإنه كذلك في المشاعر كالغضب والرحمة والرغبة؛ ففتح الله كُولَنْ مثلًا إنسان نشيطٌ فعَّال بالفِطرة، من أنصارِ النظامِ والانتظامِ، حسَّاس فوقَ مقياس العادة، بالإضافة إلى أنه على وعيٍ بالتاريخ، مفعمٌ بالأحاسيس الحماسية، وهو إلى جانب ذلك مرتبطٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بأقربائِهِ في إطارِ شخصيَّتِهِ الأسريَّة، حسّاسٌ لأقصى درجة، يشعر بالحبِّ لكلِّ الموجودات، ورحيمٌ ومشفِقٌ لدرجة أنه قد يقول:
“إن رأيتُ ورقةً وقعت من غُصنها في الخريف فَسَقَطَتْ على الأرضِ، أُحِسُّ بألمٍ وكأنَّ ذراعي قد انقطعت”.
وقد يجتهد لمدة نصف ساعة كي يُنقِذَ نملةً سقطت في حفرة، بل إنه ربما يُغمى عليه إنْ سَمِعَ بكاءَ طِفْلٍ وهو في كاملِ تركيزِهِ وخشوعِهِ وما فيه من طمأنينةٍ إلهيَّةٍ أثناء الصلاة، ومع كونه رحيمًا مشفِقًا بارًّا بأقاربه، ومفعمًا بالحبِّ؛ فإن ما ذاقَهُ من أنواع الحرمان منذ مولِدِهِ، وما تعرَّضَ له والدُه المرهفُ الحِسِّ اللطيفُ المشاعر من جفاءِ الأصدقاء وأنواع الهجر حين تلاحمت واتَّحَدَتْ مع وفاة الأَحِبَّةِ التي جَرحتْ روحه جرحًا غائرًا، ثم الجروح التي أصابت جسدَ الإسلام لاحقًا، كلُّ هذه الأمور خَـــمَّــرَتْ في داخله همومًا عميقةً جدًّا كانت تنمو وتتضاخم مع آلام الإنسانية وهمومِها، ومثل هذه النوعية من التأثيرات المختلفة تُـمَهِّدُ -إنْ لم تتوازن- الطريقَ لحدوثِ انكسارات متكرِّرَة في شخصية الإنسان، ولقد وفق الله تعالى فتح الله كُولَنْ إلى توحيد ودمج كلِّ هذه الجوانب الكامنة في شخصيته والتأثيرات التي وقعت في نشأته على نحوٍ متوازن.
ساقَ القَدَرُ فتح الله كُولَنْ إلى الأدب والتاريخ والفلسفة أيضًا إلى جانب العلوم الدينية والتربية الروحية والعلوم المسمَّاةِ بالعلوم الطبيعيَّةِ، وقد بدأ تحصيله ودراسته في بيت الوالد، واستمرَّ في “أرضروم”، كما أن تحصيله المعنويّ -الذي بدأ في بيت الوالد أيضًا- استمرّ بمجالسته “محمد لطفي أفندي”، ولم ينقطعْ قطُّ طيلة حياته، مثله في ذلك مثل تحصيله الديني، و”رسائل النور” للأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي التي تعرّف عليها في سنوات تعليمه أسهَمَتْ بِدَورِها وبقدرٍ واضحٍ في تربيتِهِ المعنويّة تلك، ونتيجة لذلك فقد ظلَّ يُطَوِّرُ الملكات والاستعدادات التي فَطَرَهَا الخالقُ فيه على نحوٍ متوزانٍ مع العصر، وواصلَ بنفسِهِ تعليمَه الحديث الذي كان بدأ في المدرسة الابتدائية في مجالات العلوم والفلسفة والأدب والتاريخ، وإلى جانبِ ضلاعَتِه في المبادئِ الأساسيَّةِ للعلومِ الحديثة بدءًا من الفيزياء إلى الكيمياء، ومرورًا بالأحياء إلى الفَلَك من جانبٍ؛ تَعَرَّفَ من جانب آخر على الفلاسفة الوجوديين وفلسفةِ الشَّرْقِ والغَرْبِ بمصادِرِهِما الأمِّ المختَلِفَةِ؛ فأَفْرَزَتْ كلُّ هذه الأمور إلى جانب المعرفة العميقة والعشقِ الفيَّاضِ، والعِلم الواسعِ والمنْطِقِ المحيطِ والمحاكَمَةِ العقلية، والحِكمةِ والحماسِ في الوقت ذاته، بل والبصيرةِ والفراسةِ القادِرَةِ على تحقيق التوازُنِ في كلِّ شيءٍ، ثم الصفاء والرِّقَّةِ والكَرَمِ والتسليمِ والمعاناةِ والأنينِ والعِفَّةِ والتقوى والشفقة والرحمة والتسامح، وفي المقابل الحماسة المطلقة والأمل والمثالية والنظام المنضبط… أفرزت نموذجَ صبرٍ عميقٍ، وإنسانَ تربيةٍ وحركةٍ عَرَفَهُ الرأيُ العام بالأستاذ فتح الله ولَقَّبَهُ من يعرفونه عن قُرْبٍ بِلَقَبِ “خواجه أفندي” أي: السيّد الأستاذ.
تواضعه
وثَـمَّةَ خاصّيّةٌ أخرى هي الأهمّ في شخصيَّةِ فتح الله كُولَنْ ألا وهي التواضع الذي يمكِنُنا أن نراه نتيجةً لطبيعَتِهِ والتربية التي حصلَ عليها؛ فالتواضع من أبرز صفاتِ شخصيَّتِهِ؛ فهذه “الشخصيَّة الصوفية” البعيدةُ كلَّ البُعْدِ عن حبِّ الدنيا ومظاهِرِهِ كالقِيَادَةِ والرِّيادة تَظْهَرُ لدى فتح الله كُولَنْ في نسيانِ الذات أو “التصفير (أي أن يعدّ الإنسان نفسه صِفرًا، أي شيئًا لا قيمة له ولا يؤبه له)” على حدِّ تعبيرِهِ هو.
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“إنكم حتى وإن هَدَمْتُم هذه الدنيا وأَقَمتم جنَّةً بدلًا منها؛ فعليكم الانزواء إلى جذع شجرة، والإيمان بأنكم لستم منْ قام بهذا…
وأن تُنحُّوا ما فعلتموه من أجل الإنسانية وتعتقدوا: “أننا لم نفعل نحنُ كلَّ هذا؛ بل إنها أشياء تمّ إنجازُها بعون الله، ثم بِهِمَّةِ أناسٍ طيِّبين”.
ويقول مؤيِّدًا هذه الفِكْرَةَ:
“لم أرَ نفسِي قطُّ جديرًا بأيِّ شكلٍ من أشكالِ التقدير في أيِّ وقتٍ”.
ومن آثار تواضع فتح الله كولن تسميتُه نفسَه “قِطْمِيرًا”، وهذا له مغزًى، إذ القطمير في اللغة هو القشرة الرقيقة التي على نوى التمر، وهو يُضرب مَثلًا للشيء الطّفيف التافه الحقير، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ (سُورَةُ فَاطِرٍ: 35/13) أي لا يملكون شيئًا يُذكر، ويُروى أن اسم كلب أصحاب الكهف “قطمير”، ويُروى أيضًا -ولو كانت الرواية ضعيفة- أنه يدخل معهم الجنة، وللشاعر الصوفي عبد الرحمن الجاميّ شعر فارسي ما ترجمته:
يا رسول الله! ما ضرّ لو دخلتُ الجنةَ مع الداخلين
ككلب أصحاب الكهف في زمرة أصحابك الأولين
أيـُّنـا أليَــق بالجنــة أنــا أم مَــن حــرس الكهــف سنيــن؟
إن كــــــــــان هــــــــو كلــــــــــــب أصحـــــــــــــــاب الكهـــــــــف
فأنـــــا كلــــب أصحابــــك يا سيــد الأوليـــن والآخريـــن
وفتح الله كولن يأتسي بالجاميّ في هذا المعنى ويَستخدم هذا التعبير (أي قطمير) لنفسه دائمًا بكلا معنييه قائلًا: “هذا القطمير فعل كذا.. يقول القطمير…” عادًّا نفسه شيئًا حقيرًا أو “لا شيء” أو “صِفْرًا” على حد تعبيره هو، ويقول: “حتى للقطمير (سواء كان بمعنى الكلب أو بمعنى الشيء التافه) قيمة ما، فإني أرى حتى هذا منصبًا أو مستوًى يُذكر، فلا أرى أهلية لي في استخدام هذا، لأن للكلب خصائص لا توجد عند غيره من الحيوانات وله قيمته، والقشرة الرقيقة التي تلف نواة التمرة أيضًا شيء نافع يحفظ النواة من الفساد داخليًّا، لذا أحيانًا لا أرى لنفسي استحقاقًا لاستخدام هذه الكلمة أيضًا” .
ولا يأذن لمن يرغب في تقبيل يده بفعل ذلك، وتنزعج نفسه لأقصى درجة من الاحترام والتبجيل الذي يلقاه، ويرغبُ في أن يتصرف الناس تجاهه على نحوٍ طبيعيٍّ؛ فهو ينفرُ من تصرُّفات التصنُّع وإظهار خلاف الحقيقة، وقولِ ما ليس في القلب حقًّا، وإنَّه وإنْ سرّتْهُ التصرُّفات والسلوكيَّات الظريفةُ والرفيعة والمتوازِنَةُ، إلا أنه يكون بها أسعد إن صارت طبيعة في الإنسان، ويشعرُ بتأذٍّ وانزعاجٍ كبيرَين من إسنادِ نجاحٍ أو خدمةٍ ما إلى نفسِهِ وتقديمه أمام أيَّةِ جموعٍ وجماهير، ويُفَضِّلُ دائمًا أن يظلَّ تابعًا وفيًّا للأشخاص العِظام الذين سبقوه، وأكثر الأمور التي تُسْعِدُهُ وتَسُرُّه أن يكون “فردًا من الناس”، ولهذا فإنه يقول أحيانًا:
“إن دينَنا لو أَذِنَ بتغييرِ الوَجْهِ والشَّكْلِ بواسطة عمليَّات جراحيَّةٍ؛ وإنني لو كنت فاعلها لفعلتُها حتى لا أُعرف”.
حديثُهوأسلوبُهوعلاقتُهبمخاطبيهِ
إن فتح الله كُولَنْ ذو طبيعةٍ حسَّاسةٍ تنفر من الأخطاء وترفضُها رفضًا قاطعًا، بينما تقدِّرُ الصواب حقَّه ولو كان مثقالَ ذرَّة، ويحبُّ أن يتبادل المودَّةَ والفِكْرَ مع الناس، وهو إلى جانب طبيعتِهِ المتواضِعة الخَجولةِ لا يتكلَّم عادة ما لم يوُجّه إليه سؤال؛ لأنّه قد يتعذَّرُ تحديث منْ لا يستقبل ولا يتطلَّعُ للمعرفة وليس هناك ما يشغل فِكْرَهُ ولا عقله، أو أنه لا داعي لذلك أصلًا، وكما أنه يَنفُرُ من مظاهر التباهي بالمعرفة وإظهار النفس سواءً في أثناءِ إجابَتِهِ عن الأسئلة، أو حديثه في موضوعٍ ما أو تذكيرِهِ بشيءٍ ما؛ فإنه يعتمد الإرشادَ أساسًا، وكثيرًا ما يردف حديثه بقوله: “صدّعتُ رؤوسكم!” يقولها صادقًا مخلصًا.
وبقدرِ ما يهتمُّ بإزالةِ غموض السؤال وإبهامِهِ يضع المخاطَبَ موضِعَ اهتمامه ويتوجَّه إليه؛ فيجبُ على الناس -السائل أو المستمع على حد سواء- أن يستفيدوا من الإجابة ويَحُلُّوا بها مشاكلهم بقدر إدراكهم لها وفهمهم إياها، علاوة على أنه يجب أن تؤثِّرَ هذه الإجابةُ في حياتهم القلبيَّة؛ ومن ثم فإن الإجابةَ عن السؤال المطروح قد لا تكون -في بعض الأحيان- على قَدْرِهِ تمامًا، بل على نحوٍ يستفيدُ منه المخاطَبون الآخَرون أعظمَ استفادةٍ، وإلى جانب هذا فكثيرًا ما يقول فتح الله كُولَنْ لمخاطَبيه بعض ما يرغبُ في قولِهِ من أشياء انطلاقًا من السؤال المطروح عليه، وقد لا تكون هذه الأشياء مرتبطةً بالسؤال على نحوٍ مباشِرٍ، إلا أن ثَـمَّةَ رسالةً تُقدَّمُ مع تلك الإجابة، وشيءٌ يُذَكَّرُ به، أو أنَّ مسألة أخرى تُحَلُّ بذلك.
وعندما يُذكّرُ فتح الله كُولَنْ ويقوِّمُ الأخطاءَ ويصحّحها فهو غالبًا ما يتحدَّثُ بعباراتٍ عامّةٍ غير موجّهةٍ إلى شخصٍ بعينه، ويرغب في أن ينالَ كلُّ إنسان نصيبه من ذلك؛ فهو لا يُواجه الأشخاصَ بأخطائهم، بل يُعَبِّرُ عنها بأسلوبٍ مناسِبٍ ملائِمٍ، وبالنسبةِ لمن يُسَرُّونَ بمصارَحَتِهم بعيوبهم ولا ينزعجون من ذلك فيستخدم هذه النوعيَّةَ من الناس كـ”سبّورة” على حدِّ تعبيره؛ أي إنه ينبههم وكأنهم هم من أخطأ رغمَ أنهم ليسوا كذلك، بينما مخاطبُه شخصٌ آخر، ويتوقَّعُ أن يأخذَ مخاطَبُهُ أيضًا الدرسَ بهذا الشكل، وكما سبقَ عرضُه فإن كُولَنْ يُكثر في أحاديثه بصفةٍ خاصَّةٍ من استخدام فنون بلاغية كالتلميح والاستعارة والكناية والتورية، فيُحمّلُ بهذا الشكلِ الكلمةَ معانيَ أوفرَ وأكثرَ تنوُّعًا إلى جانب مُهِمّتِها الأصيلة في الوقت نفسه؛ ولذلك فإنه قد يُــنَــبِّــهُ ويُحذِّرُ باستخدامِ كلمة قد يظنها من لا يفهمون أسلوبه أو من يستمعون إليه للمرة الأولى نوعًا من الثناء واللطف، وقد يُلاطِفُ بكلمةٍ يحسبونها تنبيهًا وتحذيرًا؛ فإن لم تُعلم هذه الأمورُ وتُخبَرْ فسَّرَها سامعُوها تفسيرات مختلفة، ولِتَجَنُّبِ الخطإ في هذا الموضوع لا بدَّ من فهم بِنْيَتِه الفكرية ووجهة نظره وأسلوبه ولُغَتِهِ واستيعابِ ذلك كلِّه، وأخذِه بعينِ الاعتبار.
وحين يتحدَّثُ فتحُ الله كُولَنْ يحكي نِكاتًا وطُرَفًا تُناسِبُ الموضوعَ أحيانًا، ويمزحُ أحيانًا أخرى، إلا أنه لا يُهمِل أحدًا ولا يبتذلُ في المزاح.
ويستمع إلى كلِّ كلمةٍ تُقالُ بنيَّةٍ طيّبة وإخلاصٍ، فيرتَسِمُ على شفتيه أو على محيَّاه تبسُّمٌ ظريفٌ إذا ما سُرّ من قولٍ أو فعلٍ، وأحيانًا ما يُقابِلُ ذلك بنوعٍ من التقدير واللطف، أما في مقابل ما لا يسُرّه من الكلام الذي فيه تصنُّعٌ ورياءٌ ورغبةٌ في التباهي وإظهار الذات، أو غرض في الفكرة أو الاقتراح المطروح؛ فإن ثمة عُبوسًا يجثمُ على وجهِهِ وكأنَّ سُحُبًا قد خيَّمَتْ عليه.
وفاؤهلأصدقائهوأشيائِهِوذكرياته
فتح الله كُولَنْ وفـيٌّ سواء لأصدقائه، أو لأشيائه التي استعملها، أو للمكان الذي أقام به ولو حتى فترة قصيرة، وباختصار إنه وفـيٌّ لكلِّ شيءٍ تربطُهُ به علاقةٌ، ويقول:
“إنْ استرحنا مع أشخاص مدَّةً من الوقت أسفلَ شجرةٍ في أثناءِ رحلةٍ، ومَضَتْ سنوات فإنَّ القلبَ يحترقُ إن لم يتذكرْ هؤلاء الأشخاصُ ذلكَ قائلين: “لقد استَرَحْنا هنا فيما مضى”.
ومثل هذا أيضًا فإنه لا يرغب حتى في تغييرِ تصميمِ مكانٍ أقام به مدَّةً ما، بل يرغبُ في الحفاظِ عليه كما هو، وإن أحسَّ أنَّه كسرَ بخاطرِ إنسانٍ أو أدركَ أنَّ أحدًا قد انكسر خاطرُه لسببٍ ما؛ حمّلَ نفسَه المسؤوليَّةَ، وسعى للإصلاح كيفما يجبُ تجاه كلِّ إنسانٍ من الناس.
كرمُهوتهاديهمعغيره
إنَّ فتحَ الله كُولَنْ الذي يتحلّى بصفات الكرم والسخاء الأصيلة يقول:
“لقد نشأتُ في مناخٍ لاحَت فيه بطولات الكرم عائلةً وبيئةً؛ حتى إنني لم أعرفْ بخيلًا في عائلتي، ولأنني لستُ ممن يُخفي ما يملِك؛ فإنني لم أستطعْ قطُّ أن أفهمَ ماذا يعنيه أولئكَ الأشخاصُ الذين يرتجفون حين يُطلب منهم العطاء والبذل، أو أفهم ما قيمةُ كنزِ المال وعدم إنفاقه، إن الكرمَ خصلةٌ ساميةٌ لدرجة أنَّ الإنسان قد يدخل الجنَّةَ بفضلِها حتى وإن كان فاسقًا، فطريقُ الجنّةِ يمرُّ بها، بل إنّ الكرمَ هو إحدى الطرق التي تؤدِّي بالإنسان إلى الجنّة” .
ليس لدى الأستاذ أكثر من طَقْمٍ أو اثنين من الملابسِ والثيابِ، ويُهدي كلَّ ثيابِهِ الزائدة عن حاجته من جوارب وأقمِصَةٍ ومعاطفَ، وخلافًا لذلك فإنه إن أُعْجِبَ بحالةٍ ما، أو صادفَ نجاحًا مبنيًّا على الإخلاصِ في الخِدمة، أو شيئًا يَسُرُّ النفس فكرًا وشعورًا كافأ صاحِبَه بهدايا متميِّزَةٍ ومختلفة، وبِقَدْرِ ما لاحظْتُه؛ فإنَّ لكلِّ هديَّةٍ يُقَدِّمُها معنى خاصًّا بها، وكما أنَّه يُهدي الآخرين فإنه يقبل الهدايا أيضًا، وكثيرًا ما يُقابلُ الهدية بهديّة، ومثل ذلك أيضًا الرسائل والخطابات المرسَلة إليه؛ فإنه لا يتركها إلا ويردُّ عليها.
المطالَعةُوالأدَب
يَعتبر الأستاذُ كُولَنْ من الشخصيَّاتِ كثيرةِ الاطّلاع والقراءَةِ؛ إذ يَقْرَأُ في اليوم الواحد ما بين مائةٍ وخمسين إلى مائتي صفحة ما لم تؤذِ روحَهُ الآلامُ والهمومُ التي تبدو وكأنها لا تُغلب، وقد بدأَ مشوارَه في القراءة والاطّلاع منذ طفولتِهِ بقراءَةِ كتبِ السِّيرِ؛ أي كتب سيرة الرسول ومناقبِ الصحابة الكرام ، أما في السنوات اللاحقة فقد تابَعَ قراءَتَهُ بالاطّلاع على الكُتُبِ والمؤلَّفات العِلمية والفكريّة والفلسفيّة، وقد قرأَ في تلك الفترة إلى جانب كلاسيكيَّات الشرقِ أهمَّ كلاسيكيات الغربِ أيضًا بناءً على توصية أحد القادة أثناء أدائِهِ الخدمة العسكرية؛ فقرأ لِـ”شكسبير” و”بالزك” و”فولتير” و”جان جاك روسو” و”إيمانويل كانت” و”إميل فرانسوا زولا” و”يوهان جوته” و”كايموس” و”جان بول سارتر”… وتعرَّف عليهم، كما قرأَ لِقدماء الشرق من أمثال “مولانا جلال الدين الرومي” و”سعدي وحافظ الشيرازيَّين” و”ملّا جامي” و”الفردوسي” و”الأنوري”… وخَبَرَهم جيّدًا، وهو يعرف إلى جانب هؤلاء أيضًا كلًّا من “برنارد روسيل” و”بوشكين” و”تولستوي” والكثيرين غيرهم؛ وإنكم لتجدون في أحاديثه وحواراتِه إشارات وإحالات إلى منطق “بيكون” ومنطق “روسيل” النظري، وجدليّة “بسكال” وصولًا إلى “بيكاسو”، وإلى العديد من المصادر والمراجع حتى إلى العلاقة بين الموضوعي والشخصي بين الحين والآخر، أما عن الأدب التركي فإنه إلى جانب قراءته لعمالقة الأدب الكلاسيكي أو الديواني من أمثال “باقي” و”نفعي” و”شيخ غالب” و”ليلى هانم”…؛ يعرف جيِّدًا الكُتَّابَ والشعراء البارزين، لا سيّما أمثال “نامق كمال” و”شِنَاسِي” و”توفيق فكرت”، وعلى رأسهم “يحيى كمال” و”نجيب فاضل” و”محمد عاكف أَرْصُويْ” و”سَزَائِي قَارَاقُوجْ”…
والساحةُ الرئيسة التي يركِّزُ فيها فتح الله كُولَنْ دراساتِهِ وبحوثه هي ساحة العلوم الإسلامية، وبالأحرى معاني القرآن الكريم وتفسيرُه وبلاغتُه ولطائفُه والأحاديثُ النبوية الشريفة وشروحُها وتحليلها والفقهُ وأصولُه، ومعرفةُ الله وأحوالُ القلب، وكم يركز على نمط وأسلوب الحياة الإسلامية، ويُفضِّلُ الحديث في هذه المواضيع والمجالات، وهو مع هذا يحبُّ الحديث في الفنون الجميلة كالموسيقى ويأتي في مقدمتها الأدبُ لأنه يُسَرُّ منه ويَرُوقه.
ويتدارسُ فتح الله كُولَنْ مع الناس فروعًا من مختلف العلوم يوميًّا تقريبًا ما لم تشغله أعمال ولا شؤون أخرى، فيجتهد ويقرأُ؛ فقد أتمَّ هو وتلاميذه في أحد شهور رمضان المعظَّم قراءةَ تسع مجلدات من كتاب “كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال” المكوّن من ستّة عشر مجلّدًا لصاحِبِه “علي المتّقي الهندي” الذي يحتوي على أكثر من ستّةٍ وأربعين ألف حديث (وباقي المجلدات من هذا الكتاب أكملوا قراءتها في بضعة أشهر بعد ذلك)، وهو من أوسع وأشمل موسوعات الحديث النبويّ الشريف، كما طالع بعضَ المؤلفات المهمّة من كلّيات الفقه الإسلامي والتفسير والتصوّف والبلاغة، بل كرَّرَ قراءةَ بعضها وتدارسها أكثر من مرّة .
ملبسُهومأكلُهوحركاتهوأمراضُهوحياتُهاليوميةُ
يرتدي فتح الله كُولَنْ ملابسَهُ بشكلٍ نظيفٍ وجميلٍ ومنتظِمٍ باعتبارِه سليمَ الذوقِ والاختيار؛ ويَحكي أنَّه لم يلبسْ بنطالًا إلا مكويًّا حتى وهو في سِنِي الدراسة، وأنه كان إنْ لم يجدْ مكواةً لِكَيِّهِ فإنّه يضعه تحت فراشِهِ قبلَ أن ينامَ ليلًا.
يأكلُ فتح الله كُولَنْ قليلًا، ويتعاطى قدرًا كبيرًا من الأدوية منذ شبابه، حتى إنه يمكن القول إنَّ جميع الأمراض تقريبًا قد توطّنت في جَسَدِهِ، وزالَ كلُّ واحدٍ منها بعد أن ضُيّفَ فترةً، وحلَّ غيرُهُ محلَّهُ؛ ففي شبابِهِ ظَهَرَتْ عِلَلٌ مؤلمةٌ من الدماملِ والقروح في جَسَدِهِ كلِّهِ بما في ذلك يداه ورِجلاه ووجهه، فعانى منها وقاسى آلامها قرابةَ خمسَ عشرة سنة.
أحسَّ كُولَنْ بمرض السكري في فترة مطاردته بعد الانقلاب العسكري عام (1980م)، كما ظهرت عنده آلام القلب في الفترةِ نفسها، ونتيجة لتعقُّدِ هذه العِلَلِ والأسقامِ وتزامُنِها فقد أصبَحَتْ تُحْدِثُ آلامًا في ذِراعيه وتورُّمًا في مفاصل أصابِعِهِ بين الحين والآخر، ولهذا فإنه لا يستطيع ثَنْيَ أصابِعِهِ تمامًا، ومن ثمَّ يُعاني ألَـمًا ومشكلةً في استخدام يديه.
وكثرةُ تَعَرُّقِهِ تُمَثلُ مرضًا آخر مزمنًا ونوعيًّا يُضافُ إلى قائمةِ أمراضه البدنيّة؛ إذ إن صلاة أربعِ ركعات وترتيبَ فراشِهِ وحركةً خفيفةً كفيلٌ بِسَيلِ العَرَقِ منه تصبُّبًا، ولا سيما إذا أصابَتْهُ نزلةُ بردٍ فإنّها تزيدُ من آلامه وتصبُّبِ عرقِه، ويحدث أن يستبدلَ ملابِسَهُ الداخليَّةَ عِدَّةَ مرَّاتٍ في الليلة الواحدةِ التي لا ينام فيها ربما سوى ساعتين فحسب.
لقد ظلَّ فتح الله كُولَنْ يُجَهِّزُ بنفسه الطعام لضيوفه مدّة طويلة إلى أن تطوَّرَتْ أمراضُه السكريّ والضغط والقلب، كما كان يتولى أمر طعامِ وغسلِ ملابس نفسِه بنَفسِه.
وهو لا يستطيع النوم في أغلب الليالي، ولا سيما أنه يُؤرَّقُ وينزَعِجُ ويشعُرُ بفائضِ الألمِ في لحظات الوَحدةِ ليلًا بسبب تلك المشكلات التي تَعْتَرِضُ سبيلَ غايته المثلى التي عَشِقَها ونذرَ لها عمره، وبسببِ ما تعانيه بلدُهُ والإنسانيَّةُ جمعاء من الآلام، وما يطرحه عليه الآخرون من قضايا خاصّة، وكذلك ما يراه عند البعض من كَلِمات وتصرُّفات وسلوكيَّاتٍ لم يكن يتوقَّعُ صدورَها منهم، واستحالَ عليه أن يَجِدَها ملائمةً للإسلام والصِّلَةِ بالله تعالى، وبالرغم من هذا كلِّهِ فإنَّ صبرَهُ وتحمُّلَه محيِّرٌ وعجيبٌ.
إن فتح الله كُولَنْ هو نسيجُ وحدِه وغريبُ عصرِه، إذ إنه يعيش بمفرده قَدَرَه الخاص به في وحدةٍ وصمتٍ عميقٍ بين الناس، وسأحتفظ لنفسي بملاحظاتي الموضوعيّة في رأيي، ولكنها قد تُعتَبَرُ غير موضوعيّة بالنسبة للبعض، وربما تؤدّي إلى إساءة الفهم، وأرى أنه من الأنسب إنهاء هذا الموضوع هنا.