سيل عرم من المقالات والأفكار والأشعار والآداب تنهمر، على العقول، كل ثانية. وكثيرة هي الموسوعات والكتب والمطبوعات والصحف والدوريات التي تتدفق في نهر الثقافة والمثاقفة والتغيير البشري والحضاري. ومع هذا وتلك يدور دولاب من الأسئلة القديمة الحديثة التي تطرح “إشكالية” ظهرت مع ظهور الإنسان على صفحة هذه الحياة: أين أثر القلم والكلمات والفكر والثقافة وتأثيرها الإصلاحي النهضوي المنشود؟، وهل فقدوا دورهم الفاعل، وهل الكلمات فاعلة ناجزة، أم مشلولة عاجزة؟، وهل هي فاعلة بذاتها في فضاءاتها، أم ينبغي لمن نهض بمسؤولياتها أن يزاوجها ويقرنها بالعمل؟ وأين ثمار الغايات الكبرى لأقلام المصلحين المسلمين المعاصرين في استزراع الحياة الحضارية؟. وهل من نماذج إيجابية دالة على ذلك؟.

  سيظل القلم وما يسطرون وسائل معينة لننفتح على ذاتيتنا، ونلتحم مع ماهيتنا، وننفض الغبار على مقوماتنا، ونستحيي مكامن الوجدان، فينبعث الوعي، وينتعش الضمير، وتتجدد المعنويات.

إنها ذات الأسئلة، مع اختلاف ملابساتها، التي طرحت على مدار عقود مضت. بيد أن ما وقف خلفها إثارتها من جديد التأمل في واقع معيش تطرق لأسباب نهضته د. “زكي نجيب محمود”، في فصل من كتابه: (مجتمع جديد أو الكارثة، دار الشروق، ط3، 1983م)  وقعت عليه عيني ويدي مع ترتيب أرفف مكتبتي ـ كلما شعُثت صفوفها، واختل هندامها، وتضخمت وتصارعت أحشاؤها، وناءت رفوفها بأحمالها. ولعل حياتنا ـ ومشكلات أكثر وأعمق ـ تحتاج، كل حين، لما تحتاج إليه هذه أرفف هذه المكتبة. لقد استعرض د. “زكي” في فصله هذا: مسيرة الإصلاح عبر الكتابة والتثقيف عبر ما يزيد قرن من الزمان (منذ الإمام الشيخ “محمد عبده” ومن تلاه)، وهل أفلحت في تغيير ما أراده الكاتبون المُصلحون من: طباع سيئة اُلفت،، وأمراض اجتماعية واقتصادية وتعليمية وإعلامية انتشرت، فساد كبير عمّ، وإفساد أكبر طمّ، قلة من عمل، وكثرة من أمل، وغياب للأصل والجوهر، وسطوة للشكل والمظهر، وسلبية مقيتة، وإيجابية كسيحة، واحتلال بعد تحرير، وغياب “تقرير المصير”، وتخلف وتبعية، وانتكاسات حضارية الخ. ولقد طرحوا ـ مازالت ـ تطرح ذات القضايا، وتعرض ذات المشكلات، وتـُقترح ذات الحلول، فأين الخلل إذن؟.

أهي كلمات مسؤولة تبني وتـُشيد وتعمر، أم تهدم وتخرب وتدمر؟، أهو حقاً مداد مثمر صالح أو معطوب طالح، أهي كلمات صادقة مخلصة أم مكذوبة مغشوشة؟ أم هي علل وأدواء تستعصي على الحل، وغياب نماذج القدوة الحسنة، إذ لا حياة للشعوب والأجيال بدون قدوات ورموز؟. أهو طريق مسدود، وخطان لا يلتقيان بين “الفاعل، والقابل”، و”المنهج والتطبيق”، ومزاوجة القول للفعل؟. أهو عدم مراعاة قوانين التدرج، واستحداث القابلية للتغيير؟. وأين كل الأطراف الفاعلة في عملية النهوض والتأثير والتأثر من استنهاض الهمم، ووضوح الرؤى، تحدي البرامج، وتقويم النتائج، ونظافة اليد، وتحمل المشاق، والتجرد للشأن العام، والنهوض بالتبعات والمسئوليات؟.

أين الإشكالية؟

إن الشواهد التي يكاد يجمع عليها الكتاب والمفكرون والمصلحون تؤكد علي أن الإشكالية ليست “إشكالية منهج”، بل “أزمة تطبيق”. فالمناهج الإصلاحية النهوضوية واضحة جلية، طبقت حقباً فكانت لنا حضارة “سطعت شمس” أنوارها علي كل الدنيا من مشرقها إلي مغربها. نهلنا من غيرنا ـ وصهرنا في بوتقتنا، وفق خصوصياتناـ وأضفنا وقدمنا (للآخر) عصارتنا علي أطباق من ذهب دون قيد أو شرط أو إكراه، وكم شهد علي ذلك شاهد من أهلهم، وما أكثر شهاداتهم التي تتري وتتوالي من منصفيهم. لكننا ـ والأيام دول، والحضارات كما الإنسان تتعاقب عليه فترات صحة ومرضاً، ضعفا وقوة، طفولة ورشداًـ تنكبنا الطريق لأسباب واضحة جلية يعرفها القاصي والداني، وإذا ما عرفت الأسباب سهُل تشخيص الداء، ووصف العلاج. إن التجارب النهضوية الحضارية الحديثة في شرق آسيا وغيرها متاحة وهي في أسسها تناسبنا وتقترب من خصوصياتنا. و”التلاقح الحضاري” المحافظ علي الهويات والخصوصيات، كما فعلناه أول مرة، أمر غير منكور. وسيظل المنهج جليا، وسيسهم القلم والعمل، والكلمات والفكر، والثقافة والمثاقفة في عمليات النهوض واستعادة الهوية والدور الحضاري الرسالي. ولا شك أن العقول متوفرة، والأفكار نيرة، والثروات لا تحصي، والسواعد كثيرة، والطاقات البشرية ليست كما أو عبئاً مهملاً بل ثروة ما أعظمها من ثروة، والاستثمار فيها انفع واجدي أنواع الاستثمار.

ريادة “الخدمة”

لعل ما تحظي به حركة “الخدمة” ومؤسساتها النهضوية والتعليمية والإعلامية والطبية من إشادة بحثية ونظرات نقدية وتقييمات إستراتيجية من القاصي والداني الباحث والمتابع لتجيب بأبلغ الردود عن الأسئلة المثارة. لقد قامت فلسفتهم على الإيمان بالعملٌ البناء المُسدد في اتجاه التربية والتعليم والإصلاح والتجديد، الأمر الذي اقتضى حظوظا من الكفاءة والاقتدار معززة بمدود من توفيقات الله. ففي تجربة الخدمة والتغيير، تجد ما يشبه “العلاج بالكيّ”، حيث تشخيص مواطن الداء في حسم وأناة، لأجل استئصال العلة، وضمان البرء، واسترداد العافية. فمن المعلوم أن النظام التربوي والتعليمي في طليعة المُفعلات التي يجب أن يستهدفها الضبط والتعبئة تمهيدًا للوثبة النهضوية المأمولة. فمؤسسات تدأب على نظام تعليمي متطور، ستمدّ المجتمع بالدفعات القادرة على التحول به إلى الأحسن، والأفضل.

لقد بنى الأستاذ “محمد فتح الله كولن” تصوره للنهضة على تشكيل صفوة طليعية تستوفي شروط التكوين، من خلال اتصافها بالفتوة، والعلمية والاحتساب. فالقاطرة التي تجر العربات هم النخبة التي تلقّت تكوينا عميقا في العلم الشرعي على يد الداعية، وتزوّدت بالاستنارة المعرفية العصرية، وتدرّبت التريض القلبي الذي يجعلها تستعذب الأداء، وتذوق ذاتياً حلاوة البذل والتضحية. إذ ليس كمثل الدافع القلبي ضامنا لاسترسال الجهد والمواظبة على البناء وتقديم الخدمة. لقد تدثروا بشعار القرآن فهو الأساس الارتقائيّ الذي تترشّد به المشاريع، وتزدهر تحت رايته المنجزات. وهو القاعدة التي ينبغي أن يتّخذها كل عامل -يحلم بأن يكون من خدّام الأمّة- منهجًا ومرجعاً ومرشداً وملهماً له في مشاريعه. فعلى كل صاحب فكر سليم أن يتمرّس بتوجيهات القرآن، ليتطبّع على روحه، ولتتشرّب مواجده رحيقه؛ فالقرآن “صوت الملكوت الذي يخاطب فكر الإنس والجنّ ومشاعرهما”، وإن طلاقة تعاليمه جعلت حكمته نضرة على الدوام. وإن التدثر بشعار القرآن يفسح أمام العقل والفطرة والملكات مَدًى لا يُحَدُّ من الرحابة الفكرية والانفتاح الذهني والشعوري، إذ أنه لا يعزلك في أيديولوجية ضيّقة أو “دوغْم” يجافي القيم الإنسانية، ويتنكر لمثل الخير والمحبّة والسلام. إن المدد التنويري الذي يفيده أولو الألباب جراء تفاعلهم مع القرآن، ينعكس على المواجدِ صفاءَ روحٍ، وعلى القلب جلاءَ بصيرةٍ، وعلى العقل رهافةَ مدارك.

 إن الشواهد التي يكاد يجمع عليها الكتاب والمفكرون والمصلحون تؤكد علي أن الإشكالية ليست “إشكالية منهج”، بل “أزمة تطبيق”.

سيظل “القلم، وما يسطرون” باعثاً للنهوض

تعددت الجُدر، والكتابة واحدة. جُدر كهوف، وسعف نخيل، ورقاع، وأوراق بيضاء. جُدر ثابتة ومتحركة، واقعية وخائلية. لكن ستبقي الكلمات ينابيع صافية، وخبرات ضافية، وورود زاهية. تحيطك بخلاصات بشرية، وتجارب إنسانية، ومشاعر وجدانية، وعلوم طبيعية، ومعارف إيمانية: (نحن لا نطلب إلا كلمة، فلتقلها وانصرف.. فلتقلها.. آه ما أيسرها.. إن هي إلا كلمة. كبرت كلمة ! وهل البيعة إلا كلمة ؟.. ما دين المرء سوى كلمة.. ما شرف الرجل سوى كلمة.. ما شرف الله سوى كلمة.. فقل الكلمة واذهب عنا. أتعرف ما معنى الكلمة…؟ مفتاح الجنة في كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، زاد مذخور، والكلمة نور، وبعض الكلمات قبور.. بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشرى.. الكلمة فرقان بين نبي وبغى.. بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور.. ودليل تتبعه الأمة..عيسى ما كان سوى كلمة، أَضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم !.. الكلمة زلزلت الظالم.. الكلمة حصن الحرية.. إن الكلمة مسئولية.. إن الرجل هو الكلمة.. شرف الرجل هو الكلمة.. شرف الله هو الكلمة).

سيظل القلم وما يسطرون وسائل معينة لننفتح على ذاتيتنا، ونلتحم مع ماهيتنا، وننفض الغبار على مقوماتنا، ونستحيي مكامن الوجدان، فينبعث الوعي، وينتعش الضمير، وتتجدد المعنويات، وتنطلق الحياة النهضوية كرَّة أخرى إذن ليس “مدادا مغشوشاً”، فسيظل للقلم، ولما يسطرون ـ في حضارتنا التي تقوم علي العلم والمعرفة، وأن “المعرفة قوة، والقوة معرفة”ـ  دورهما وأثرهما وتأثيرهما، وإلا لما أقسم بهما الله تعالي في مطلع سوره من سور القرآن الكريم تحمل ذات الاسم: “ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” (القلم: 1). ولا ريب أن النهضة منوطة بالتعليم الفاعل، والمدرسة الناجحة، والجامعة النجيبة، البحث المثمر، والتربية المتعافية. فإذا تعافت روح المسلم، تيسّر على الأمة استدراك ما فاتها في حقول المعرفة الدنيوية، والمهارات المدنية.

لقد بنى الأستاذ “محمد فتح الله كولن” تصوره للنهضة على تشكيل صفوة طليعية تستوفي شروط التكوين، من خلال اتصافها بالفتوة، والعلمية والاحتساب.

سيسهم القلم والعمل والكلمات الفكر والثقافة والمثاقفة في تكريس التربية القيمية والإيمانية والأخلاقية والتعليمية المرجوة والأكيدة، وركيزتها بناء الإنسان منذ نعومة أظفاره. مما ينمي كل فاعلية وعمل وكفاءة وإبداع، ويعمل علي إثراء العقول، وصقل وتثمير الكفاءات. وسيسهم القلم والكلمات والفكر في استنهاض الهمم والهامات، وبث الأمل والآمال، والحث علي إبداع الخيارات والتطعات التي ستجد واقعاً معيشاً، فالشعوب ـ وإن ضعفت ـ  لا تموت، وطالما هي حية، “فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة”. وسيسهم القلم والعمل والكلمات والفكر والثقافة في رفعة الأوطان، وتقوية الهويات، وتنمية الثروات، وصون المقدسات. وسيسهم القلم وما يسطرون في “التدافع” بين أصحاب الحق والباطل، بين القلم والسيف، بين الفكر والقهر، بين الإبداع والجمود، بين النهوض والإرتكاس، حتى وإن تعاقبت السنون والدهور إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً:”… وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251).