إن الثروة الحقيقية التي تمتلكها المجتمعات إنما هي ثروة الفكر التي توجه نحو تنمية المجتمعات وتطويرها، ثم تحويل هذه الأفكار إلى افعال تسير في نفس الاتجاه، انطلاقاً من الإيمان الراسخ في النفوس بالمسؤولية تجاه الوطن والإنسانية جمعاء.

سُررت وشُرفت مؤخرا بإهداء كتاب مُتميز لي يحمل نفس عنوان المقال، منبثق عن مجلة حراء، من إعداد الكاتب والباحث نور الدين صواش.

هذا الكتاب عبارة عن أفكار متنوعة في مقالات متعددة لسبعة عشر عالمًا من بلدان مختلفة يحملون رؤى مختلفة، ولكنها مُتفقة في الهدف والغاية التي هي الرغبة في العيش في مجتمع آمن ينعم بالسلام والأمان والرُقي والتحضُر، مجتمعًا بلا خوف.

هؤلاء العلماء الذين يحتوي الكتاب على مقالاتهم هم الدكتورة مريم آيت أحمد، العالم محمد فتح الله كولن، فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، الدكتور أسامة الأزهري، الدكتور الحبيب علي الجفري، الدكتور إسحاق السعدي، الدكتور الشاهد البو شيخي، الدكتور عبد الحميد عشاق، الدكتور العطري بن عزوز، الدكتور الشريف حاتم العوضي، الدكتور أحمد حسين محمد إبراهيم، الدكتور عبد الله بن بيه، الدكتور محمد عمارة، الدكتور سعيد شبار، الدكتور محي الدين عفيفي، الدكتور محمد إبراهيم السعدي، والباحث صابر عبد الفتاح المشرفي.

من وجهة نظري أن أهم قضية يتناولها الكتاب وترتبط بها بقية القضايا والمحاور الأخرى هي قضية الإرهاب التي يعاني منها العالم أجمع اليوم.

وشئنا أم أبينا فإن الواقع يقول بأن هذه الجريمة ألصقت بالمسلمين، وأصبحت أول وأخطر المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، التي يلصقها البعض بالدين الاسلامي.

والحقيقة أن من يقوم بارتكاب هذه الجريمة يستند إلى حُجج وأسانيد وتأويلات دينية، ينطلقون منها إلى القيام بهذه الأفعال عن اعتقاد وإيمان كامل بأن ذلك واجب ديني وأن جزاءهم عند الله جنة الخُلد، وأن الحور العين تنتظرهم في الآخرة. بالطبع هذه المفاهيم خاطئة من منطلق الفكر الإسلامي الرشيد والتأويل الصحيح للنصوص، ولا تعبر عن صحيح الدين. فقولا واحدا، صحيح الإسلام برئ من الإرهاب.

والبعض هنا يكتفي بإلقاء التهمة والمسؤولية على أعداء الإسلام في ظهور الجماعات الإرهابية الإجرامية التي تتبنى هذه السياسة كجماعة أو تنظيم (داعش ) الذي يطلق على نفسِه اسم (الدولة الإسلامية).

لستُ مع هذا الرأي، فلا شك أن هناك أعداء للإسلام وأتباعه، ولكن هذا لا يعفي المسلمين من المسؤولية، فالحقيقة أن هناك بعض المسلمون الذين يؤمنون بمثل هذه الأفكار المتشددة، ويصدّرونها على أنها الدين الصحيح، هؤلاء المنطبق عليهم الوصف القرآني الحكيم:
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).

وفي هذا الصدد كانت المقالة التي اختتم بها كتاب (نحو عالم بلا خوف) هذه المقالة للعالم فتح الله كولن التي جاءت بعنوان (لكيلا يكون شبابنا فريسة للتنظيمات الإرهابية)، يقول العالم كولن: “إن إحدى الخطوات المهمة التي ينبغي القيام بها في هذا المجال هو هزيمة المتطرفين – الذين يرون أن العنف مشروع- في ساحة الفكر، فالتكتيك المشترك أو الخطيئة المشتركة التي تمارسها تنظيمات أنصار العنف، هي الاجتزاء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من سياقها وتأويلها بما يخدم أغراضها الدموية التي حددوها مسبقا).

ويضع العالم كولن يده على العلاج في التصدي لهذه الجريمة ومحاربة هذا الفكر المنحرف للقضاء عليه، فيقول: “لكي يتم التصدي لمثل هذا العمل الخطير، ينبغي العمل على وضع منهاج تربوي يدرب الأجيال على قراءة التراث الديني بنظرة كلية شاملة، ويعلمهم كيف يفهمون الروايات والنصوص الدينية وفق سياقها. وأفضل طريق لتعزيز نظام المناعة لشبابنا إزاء هذه الأفكار المنحرفة التي يحاول المتطرفون غرسها في عقولهم، هي أن نطلعهم عبر برامج تربوية من جهة ومشاريع عملية من جهة أخرى على طريق إيجابي بديل للسير فيه”.

ومن المصادر والمنابع التي تؤسس لهذا الفكر وتدعو إليه وتساهم في تكوين عقلية الإرهابي تلك الكتب التي تصادفنا كثيرا وتباع على الأرصفة بالشارع. وألقت الضوء على هذه المشكلة الإعلامية الأستاذة بسمة وهبة على قناة one بتاريخ 16 يناير 2020، وأوضحت كيفية تأثير مثل هذه الكتب على عقول الأطفال والشباب وإسهامها في إخراج جيل امتلأ عقله بالفكر الإرهابي دون أن يكون هناك رقابة واضحة على كتابة هذه الكتب وبيعها.

وذكرت الإعلامية بسمة وهبة مثالا ونموذجا ممن تأثروا بهذه الكتب وتحولوا بمساعدتها إلى إرهابيين، فذكرت أن الإرهابي عادل جبارة الذي اعتدى بالقتل على عشرات الجنود في سيناء، كان يشتري كتبا من هذه، فعندما تم القبض عليه ذكر أنه تعلم من تلك الكتب واستقى منها أفكاره التي بناءاً عليها قام بقتل العشرات اقتناعا منه بأنه بذلك يُطبق شرع الله.

إن كتاب (نحو عالم بلا خوف) يدعو إلى أفكار ومفاهيم تؤدي إلى تحقيق غاية الأمن والسلام، وتقضي بدورها على مثل هذه الجرائم التي ترتُكب باسم الإسلام كهذه الجريمة النكراء جريمة الارهاب. وهذه الأفكار والمفاهيم هي: التمسك بالقيم الإنسانية، الدعوة إلى حب الوطن، بناء ثقافة الوسطية في الإسلام، وقفة مسلمي العالم لحل مشكلاتهم وقفة جادة صادقة، التصدي لهذه التنظيمات الإرهابية في ساحة الفكر، التجديد في الفكر الإسلامي، نبذ العنف ومسبباته، القضاء على أشكال التمييز والإقصاء الاجتماعي على مستوى الدول والمجتمعات، منع التطرف والغلو باسم الدين لمنع آثاره السلبية على الإسلام والمسلمين، مكافحة ظاهرة الانحراف الفكري واتباع سُبل علاجها مما يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المبتغاة وهي العيش والتنعم بعالم آمن، سالم، عالم بلا خوف …

دامت أوقاتكم نورها العلم وقوامها الحب..

***************

بقلم: هيثم أوزوريس/ باحث مصري في القانون الدولي