إن في حروف القرآن الكريم ــ لا سيما المقطعة ــ شيئًا عُجَابًا يأخذ الألباب.

الحروف المقطعة تصدَّرت بعض السور نحو ﴿الم﴾، ولم يُعهد قبل نزولها كتابة رموز من حروف كهذه.

نعم، إن أسرار القرآن أُدِعت في روحه مشفَّرةً، والحروف المقطعة من مفاتح هذه الشفرات.

ومن له علمٌ بماهية الشفرة يدرك هذا جيّدًا، فخبير اللاسلكيات قد تَقرعُ سمعَه هذه الأصوات: (دي، دي، دا، ديت، دا، دا، دا، ديت)، فنحن لا نفهمها، أما هو فيحوِّلها إلى حروف مثل: (أـــ ب ـــ ت)، ويكتبها (خماس ــ مخمس)، لقد اتّخذ من هذه الحروف أرقامًا دالّة على مجموعة أسرار، فالرسالة المشفرة تُحلَّل في ضوء هذه الأرقام، فتفيد المعنى المراد.

الحروف المقطعة وأسرار القرآن

والغرض من التشبيه تقريب المسألة للأذهان، ووجه الشبه أن الحروف المقطعة في القرآن شفرات أيضًا على ما في القرآن من أسرار، ولعلها هي التي حملت أمثال محيي الدين بن عربي والإمام الرباني وبديع الزمان على أن يكشفوا آلاف الأسرار، ويفتحوا أبواب تلك الكنوز، ويطلعوا على الأسرار القرآنية.

وأما العلم بهذه الشفرات فمصدره الإلهام، يُلهمها سبحانه قلوب من شاء، فيكشفون الأسرار القرآنية النافعة لزمانهم، ويُبلغون مَن حولهم الأسرار الإلهية.

وموضوع هذه الأسرار ليس من القضايا التكليفية، بل هي ضروب من الموائد القرآنية ونافلة من الإحسانات الإلهية.

لعل الحروف المقطعة هي التي حملت أمثال محيي الدين بن عربي والإمام الرباني وبديع الزمان على أن يكشفوا آلاف الأسرار، ويفتحوا أبواب تلك الكنوز، ويطلعوا على الأسرار القرآنية.

منهج القرآن في اختيار الحروف المقطعة

إن للقرآن منهجه في اختيار الحروف المقطعة واستخدامها، وبيان ذلك أن للحروف أقسامًا في علم التجويد والأصوات: فمنها المجهورة، والمهموسة، والشديدة، والرخوة، ومنها حروف القلقلة وهكذا، والحروف المقطعة ــ وهي نصف الحروف العربية فقط ــ جاءت على نسقٍ دقيق، فالحروف الرخوة ضِعْفَا الشديدة استخدامًا في القرآن، ومن المستحيل وجود هذا التقسيم بالصدفة، فهذا الضرب من نظام الحروف ليدلّ على أن القرآن معجزٌ بنظمه وأنها كلام الله، ولِبيان ذلك إليك مثالاً لا يخفى على أحد.

لنفرض أن على قارعة الطريق عددًا من الأعمدة، ثم هُدم العمود الثاني والرابع والسادس…إلخ، أي فرادى، فمن السفه ادّعاء المصادفة كأن يقال: إن الريح هدمتها فرادى؛ إنَّ في هدمِ بعضٍ بعينه وتَرْكِ غيره قصدًا وترجيحًا، وقل مثل هذا في الحروف المقطعة، فاختيارُها بالنمط المذكور ليس مصادفة، فمثلاً: حرف “ق” لم يرد إلا في موضعين: سورة “ق”، والشورى، وهو عند القائلين بالإعجاز العددي رمز القرآن الكريم، وهو كذلك لمن أمعن، وبيان ذلك أن حرف القاف ذُكِرَ 57 مرة في كلا السورتين، فالمجموع (114)، وهو عدد سور القرآن، ومعنى السورتين وموضوعهما هو القرآن؛ فمطلع سورة(ق) القَسَم بالقرآن: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾(ق:1)، وختامها: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾(ق:45).

وأما سورة الشورى فمطلعها: ﴿حم* عسق* كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الشورى1/2/3)، وختامها عن خصائص القرآن: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(الشورى: 52).

جاءت البداية والنهاية في السورتين عن القرآن كما أشرنا أن”ق” رمز إلى القرآن، وأن موضوع السورتين هو القرآن، وأن الحرف “ق” تكرر (114)، وهو عدد سور القرآن، أفيمكن أن ينسب هذا إلى المصادفات؟ ويزيدنا يقينًا بذلك أن هاتين السورتين ليستا من أواخر ما نزل من القرآن، فهذا التحديد لا يكون إلا ممن يعرف عدد السور القرآنية قبل إنزالها، ولا أحد يعلم هذا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فيستحيل أن يشير من تلقاء نفسه بمائة وأربعة عشر(114) قافًا إلى مائة وأربع عشرة (114) سورة.

هذا الضرب من نظام الحروف المقطعة في القرآن الكريم يدلّ على أن القرآن معجزٌ بنظمه وأنه كلام الله

نكات بديعة للحروف القرآنية المقطعة

ومن النكات البديعة للحروف القرآنية المقطعة أن زيادتها ونقصانها في سورها له نسق يطّرد وترتيبَ ورودها مثلًا:

سورة الرعد تبدأ بـ﴿المر﴾ فترتيبها (أ، ل، م، ر)، ثم يتناقض عددها على هذا الترتيب. أيضًا: فـ”أ” هي: تكررت (625) مرة، و”ل” (479) مرة، و”م” (260) مرة، و”ر” (127) مرة.

وثمَّة سورٌ سوى هذه يلاحظ فيها هذا التناسب الدقيق منها سورة البقرة، فالحروف المقطعة فيها هي﴿المر﴾، وتكرارها في السورة كالتالي: تكرر حرف “أ” (4592) و”ل” (3204)، و”م” (2195)، فالانسجام في الترتيب جليّ فيها؛ وهو كذلك في سورة آل عمران، فالحروف المقطعة فيها هي: ﴿المر﴾، وعددها في السورة مطّرد مع ترتيبها؛ فحرف “أ” تكرر في السورة _2578) مرة، و”ل” تكرر (1885)، و “م” (1251)، على التوالي، والأمرُ جارٍ في سورتي العنكبوت والروم لو عددْتَ حروفَهما.

وأما في سورة (يس) فكان العكس؛ فالحرف الأخير عدده في السورة أكثر، لأن ترتيب الحروف المقطعة فيها على خلاف ترتيبها الهجائي، بدأت بالياء وثنَّت بالسين، فجاء عدد السين أكثر من الياء، ونكتفي في هذا الباب بما قدمناه مجملًا، ولندع تفصيله للمتخصّصين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد فتح الله كولن، البيان الخالد(لسان الغيب في عالم الشهادة)، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017، ص62

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.