(أ.د. فريد الأنصاري (رحمه الله) من روايته “عودة الفرسان”)
فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ لَيْسَ يَبُوحُ بِهِ!..
فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحداً!..
فَتْحُ اللهِ يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمعُ لِمَأْتَمِهِ!
فَتْحُ اللهِ وارثُ سِرٍّ، لو وَرِثَهُ الجبل العالي؛ لانهدَّ الصخر من أعلى قمته، ولَخَرَّتْ أركانُ قواعدِه رَهَباً!
فَتْحُ اللهِ فَارِسٌ ليس تلين عَرِيكَتُهُ، ولا تضعف شَكِيمَتُهُ! ولَصَوْتُهُ في الكَرِّ أشدُّ من فرقعة الرعد! يقاتل في النهار حتى تذوب الشمس في دماء البحر، فإذا خَلاَ لِأَشْجَانِ الليل بكَى..!
مَكِينُ الوثبة كالأسد، حادُّ الرؤية كالصقر، رهيب الصمت كالبحر، إذا سكتَ خَطَب، وإذا نطقَ الْتَهَب! وإنه لَيَشِفُّ كالزجاجِ إذا هو كَتَب!
كل الناس يعرف فتحَ الله، وكل الناس يسمع فتحَ الله، ولكن لا أحد يعرف ما يريد فتحُ الله! فلم يزل سِرُّهُ في صدره، يَقْبَعُ في الأعماق مثل اللؤلؤ المكنون!.. ومن يدري؟ فلعله فارسٌ لم يشرق بَعْدُ زمانُه! ولاَ حَانَ وقتُه وإبَّانُه! وأي بلاء أشد على المرء من أن يعيش قَبْلَ أَوَانِه؟ ويعاشرَ غيرَ أهلِ زمانه؟
ولم يزل فتح الله يرسم ملامح الماضي في لوحة المستقبل، فينفخ فيه؛ فيكون واقعاً بإذن الله! كلما كَتَبَ مقالاً أو خَطَبَ خُطبةً؛ تشكلت كلماته صوراً لقوافل الصحابة الكرام، ولجيش محمد الفاتح، يزحفون صَفّاً من خلف غبار الغيم، مَطَراً يهطل من أُفُقِ بلاد الأناضول على كل العالَم!
فَتْحُ اللهِ لاَ يملك من هذه الدنيا سوى ملابسه القديمة، ومحفظة أحزان صغيرة تصحبه أنَّى حَلَّ وارتحل، لم يزل يحتفظ فيها بثلاثة مفاتيح عتيقة! الأول: مفتاح “الباب العالي” في إسطنبول، والثاني: مفتاح “باب الحِطَّةِ” في المسجد الأقصى، والثالث: مفتاح جامع قرطبة في أندلس الأشجان!
رجلٌ وحده يسمع أنينَ الأسوار القديمة، ونشيجَ الريح الراحل ما بين طنجة وجكارتا! وبكاءَ النورس عند شواطئَ غادرتها سفنُ الأحبة منذ زمان غابر، ولكن لم يشرق لعودتهم بَعْدُ شِرَاعٌ!.. فيبكي!
رجلٌ وحده يسمع صهيلَ الخيل القادمة من خلف السُّحُبِ، ونداءَ الغيبِ المحتجِبِ، إذ يتدفق هاتفه على شاطئ صدره، فينادي مِنْ عَلَى منبره: “ألاَ يا خيلَ الله اركبي!.. ويا سيوف البرق الْتَهِبِي!”..
ويَرَى ما ليس يُرَى.. فيبكي!
فتح الله سيرةُ بكاء! لقبه الأسري: “كُولَنْ”، ومعناه “الضحاك” باللسان التركي، وهذا من عجائب الأضداد، ومن غرائب الموافقات أيضا! فهو بَكَّاءُ الصالحين في هذا العصر، لكنه ما بكى إلا ليضحك الزمان الجديد، وليزهر الربيع في حدائق الأطفال. ما رأيت أحدا أجرى دمعا منه، ولا أكثر وَلَهًا.. وكأنما دموع التاريخ جميعا تفجرت أنهارها من بين جفنيه!..
ولقد أخطأ من ظنه يبكي ضعفاً أو خَوَراً، وإنما هو جَبَلٌ تشققت أحجاره عن كوثر الحياة الفياض، فبكى!..
الوعظ سر من أسرار فتح الله! فلم يزل منذ طفولته يبكي بمجالسه؛ فتبكي لبكائه كل عصافير الدنيا! ولقد رأيته يبكي طفلاً وشاباً، ثم كهلاً وشيخاً! ولم يزل يبكي ويبكي.. وما جف لتدفق شلالاته نَبْعٌ! بدموع مواعظه الْحَرَّى سقى فتحُ الله كل غابات بلاد الأناضول! وبها أروى عطش الخيل، وأطعم فقراء الليل! وبوابلِ بوارقها سقى كل صحاري العالم! ولقد عجبتُ من أي جبال الدنيا تخرج منابعه؟