إننا لن نقدر على فتح صفحةٍ جديـدةٍ دون انتزاع الــمُتَلَقَّيات والتصورات والأفكار المنحرفة الموجودة منذ سنين طويلة والتخلص منها، مثل إضناء الحياة الروحية في المناطق التي يعيش بها المسلمون وإذوائها بدرجة كبيرة، وتعطيل أجوائنا الدينية عن العمل، وتكميم ألسـنة القلوب بتنسية الوجد والعشق تمامًا، واتجاه المثقفين المفكرين والدارسـين إلى المادية الوضعية المتشدّدة وانحباسهم في قُمقُمِها، وإحلالِ التعصّب الأعمى محلَّ الصلابةِ والثباتِ على الحق، وطلبِ الآخرة والجنة على أنها دوامٌ واستمرار للسعادة الدنيوية المعتادة.

وليس المقصود من هذا القول أننا عاجزون عن انتزاع اللوثيّات التي حاصرت أرواحنا منذ بضعة قرون؛ بل بيانُ أنَّ بلوغَ بـرّ الأمان عسيرٌ غايةَ العُسرِ ما لم نتخلّص -كأمّة- من أسباب ودواعي انهيارنا وانحلالنا الحقيقيّة؛ مثل الطمع والكسل وطلب الشـهرة وشهوة السلطة والأنانية والميل إلى الدنيا وغيرها من الأحاسيس والمشاعر التي لا يمكننا التخلّص منها إلا بإذن الله تعالى وعنايته، والتوجّه إلى الحقّ بما يُعدّ جوهر الإسلام وحقيقته من استغناءٍ وجسارةٍ وتواضعٍ واهتمامٍ بِهَمّ الآخر وروحانيّة وربانيةٍ، ونُنقّيَ قلوبَنا بمشاعر الحق والصدق ونصبّها في قالبهما، لكن العُسرَ الشديدَ لا يعني المحال؛ فلا بد أن يتحقّق التجدّدُ والتغيّرُ المنشودُ ما لم تَخلُ السـاحةُ -وهي ليست خالية- من شـجعانَ مُخلصين للجوهر والذات، مالكين لإرادة التجديد، قادريـن على احتضان العصر واستيعابه.

يمكن القول إن الحقّ تعالى ألقى في صدور العلماء العظام -الذين تركوا بصماتهم على مرّ العصور- آراءَهم في الاجتهاد والاستنباط والتجديد

ولو حتى طرفة عين

وكمثالٍ على ذلك: يمكننا النظر إلى حياة الإمام الغزالي الملقب بــ”حجّة الإسلام” من هذا المنظور؛ فلقد بلغَ أفقًا رفيعًا عاليًا في العلم الظاهري أوّلًا، بل إنه وصل إلى جميع المصادر التي يمكن الوصول إليها بالنظر إلى عصره، واضطلع على ما عجّتْ به المكتباتُ في عصره من مؤلّفات؛ ثم خَلَّفَ أعمالًا مباركةً جدًّا للأجيال اللاحقة، والواقع أن القرن الخامس الهجريّ الذي نشأ فيه الغزالي كان -من ناحية ما- عصرًا مباركًا وصلت فيه نهضتنا إلى القمّة، وهكذا فالإمام الغزالي الذي بلغ القمّة في العلوم الظاهرية لم يتقوقع بعدها في القوالِبِ الضيّقة لتلك العلوم؛ بل توجّه إلى الأفق الربّاني والروحانيّ الذي أكسبها قيمةً وعمقًا آخر؛ إذ يرى الغزالي أن ما يدوّنه العلماء من كلماتٍ وعباراتٍ في الكتب لا يتعدّى كونه نظريًّا إنْ لم يكن له بعدٌ معنويٌّ وميتافيزيقي، ويمكن الوصول إلى معرفة الحقيقة بتحويل النظريّ إلى عمليّ، وتطبيقه في الحياة تطبيقًا يُستشعر أثره في أفق القلب؛ ومن ثمّ فإنَّ من يحيون في فلك القلب والروح أقلُّ عُرْضَةً للانكسار والانهيار من غيرهم من أهل العلم.

وهكذا فإنه من المستحيل أن تتخلّى الرحمة الإلهيّة عن الإنسان الذي يرتقي إلى مدارج حياة القلب والروح وينسلخ من الرغبات والأهواء النفسيّة ويرى الفناءَ في نفسه والبقاءَ بالله، ولا أن تَكِلَه إلى نفسه في أفكاره وآرائه وأحاسيسه. أجل، إن الله تعالى لا يَكِلُ مثلَ هؤلاء الناس إلى أنفسهم ولو طرفة عين، بل ولا يسمح بانزلاقهم في الخطإ.

وكما هو معلوم فقد علَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمّته هذا الدعاء هدفًا تنشده وترجوه:

“يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ”[1].

ورجال الإصلاح الذين جعلوا دعاء سيد المرسلين هذا هدفهم الأسمى وسعوا وبذلوا ما في وسعهم في ذلك الاتجاه ساروا دائمًا تحت أطياف نور المعيّة الإلهيّة بإذن الله وعنايته.

لا يُضيّعُ اللهُ مثقالَ ذرّةٍ من عمل

لذا يمكن القول إن الحقّ تعالى ألقى في صدور هؤلاء العظام -الذين تركوا بصماتهم على مرّ العصور- آراءَهم في الاجتهاد والاستنباط والتجديد، وإن نظرتم إلى كتاب “النتائج” لإسماعيل حقّي البرصوي وجدتم عباراته من قبيل: “جاءني إلهامٌ عند طلوع الفجر، وجال بخاطري هكذا” ويُفهمُ من هذه العبارات أن الحقّ تعالى يُنير طرقَ هؤلاء الأشخاص العِظام، ويفتح لهم الطرق، وبهذا يرون كل شيءٍ صحيحًا ويفسّرونه تفسيرًا صحيحًا، ثم يضطلعون بإنجاز الأعمال اللازمة وفقًا لسِمات المجتمع وظروف الزمان والمهمّة المكلَّفِينَ بها.

ويقول الحقّ تعالى في سورة الزلزلة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: 99/7-8).

وفَهْمُ معنى هذه الآية الكريمة على نحو: “أن الإنسان سينال في الآخرة فحسب عقابَ وجزاء ما عمله في هذه الدنيا من خيرٍ أو شرّ” فهمٌ ناقصٌ، وأرى أنه يجب النظر إلى الموضوع هكذا: إن الإنسان سيُجازى في الدنيا أيضًا -ولو بقدرٍ بسيطٍ- على ما فَعَلَهُ من أوجه الخير أو ما ارتكبَه من صنوفِ الشرّ، وبما أن أوجه الخير الصغيرة ستلقَى -حتى وإن كانت كلّ واحدةٍ منها تزنُ ذرّة- جزاءَها في الدنيا فإن ما يُبذَلُ من خيرٍ وبرٍّ وإن كان يزن الكرةَ الأرضيّة ثقلًا في سبيل غايةٍ مثاليةٍ سيتحقّق جزاؤه يقينًا، ويتجلى كثيرًا في صورةٍ من صور العناية الإلهيّة.

ومن هذه الناحية فإنه لا يُتصوّرُ أن يتخلّى الله تعالى عن رجلٍ من رجال الإحياء الذين جعلوا هَمّهم أمّتهم، ونذروا أنفسهم لإحياء الناس وضحّوا بِمتَعِهِم الشخصيّة ولم يفكروا بأيّ شكلٍ من الأشكال لا في منصبٍ ولا في غَدٍ! ومَنْ يدري فقد يُوجِّه الله تعالى الإنسانَ صراحةً أحيانًا، وقد يُلقي بداخله رغبةً خفيةً في الشيء دون أن يُدرك الإنسان ذلك أحيانًا أخرى، ومهما تعرّض مثل هذا البطل من أبطال الانبعاث لمتاهات وطرق متعرّجة، ومهما مرَّ طريقه بأودية ساحقةٍ شاقّة؛ فلن يضل أبدًا، بل سيُواصل المسير في الطريق الصحيح دائمًا بإذن الله وعنايته.

وهذا النوع من أبطال الحقيقة الذين فتح الله لهم آفاقًا خاصّة يرون أحيانًا كلَّ شيءٍ منذ البداية واضحًا عيانًا بيانًا؛ لدرجة أنهم ما إن يواجهوا مشكلةً أو حادثةً حتى يقولوا بكلّ راحةٍ ويُسرٍ: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلاَلُ﴾ (سُورَةُ يُونُسَ: 10/32).

فيُرْشِدون إلى الصواب ويَنطِقون بالحقيقة، وحين يواجهون في بعض الأحيان الأخرى حادثةً غامضةً ومبهمةً يقولون: “اللهم رضاك فحسب، اللهمّ وفقنا إلى اختيار ما يُرضيك كي يهتدي إليك هؤلاء الناس” ويلجؤون إلى الله تعالى بصدقٍ وإخلاصٍ وجدٍّ، ونتيجة لذلك يرون الحقّ وينطقون بالحقيقة، ويُوجّهون الناس إلى الطريق المستقيم.

من المستحيل أن تتخلّى الرحمة الإلهيّة عن الإنسان الذي يرتقي إلى مدارج حياة القلب والروح وينسلخ من الرغبات والأهواء النفسيّة ويرى الفناءَ في نفسه والبقاءَ بالله.

لن يعودَ أحدٌ خاويَ الوفاض بعد الوقوف على بابه

إن كنتم تُعبرون في دعائكم عن صدقكم وإخلاصكم دائمًا قائلين: “اللهم إني ألوذ ببابك في مواجهة المصائب والابتلاءات التي لا أقوى عليها ولا أستطيع تحمّلها، اللهمّ لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم إني ألوذ ببابك دون سواك فنجّني من الأخطاء والذنوب ووطأتها الثقيلة، وأعِنّي على الحياة، لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لا تكِلني إلى نفسي ولا إلى أحدٍ سواك طرفة عين في كلّ قولٍ أو فعلٍ أقوم به في سبيل إرشاد الناس وهدايتهم، اللهم لا تحرمني أبدًا تجلّيات هدايتك وإرشادك، اللهم اهدني إلى الطريق المستقيم دائمًا، واجعلني مخلصًا صادقًا في كلّ تصرّفاتي وأفعالي، اللهم لا تحرمني عنايَتَك ورعايتك حتى تؤثر أقوالي وأفعالي في الناس، اللهم إنّني أعلم أن أهل الضلال سيعترضون طريقي بينما أجادل وأسعى في سبيل الإرشاد والتبليغ، وسوف يهاجمونني ويعتدون عليّ متذرّعين بأمور تافهة، اللهم إنني ألوذ بِك وألجأُ إلى عنايتِك وحمايتِك وكنفِك دون سواك، فوفقني اللهمّ إلى التصدّي لهم دون انحناءٍ ولا تذلّل ولا انكسار ولا تنازل ولا تراجع، وأكرمني بالذلّ والانحناء بين يديك دون غيرك، اللهمّ إني ألوذ ببابك، ولا حول ولا قوة إلّا بك، اللهمّ إنني أعترف بعجزي عن تنقية قلبي، وبتقصيري في مراعاة حقوقك كما ينبغي، لذا فإنّني ألوذ ببابك مجدّدًا وأسألك أن تُنقِّي قلبي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيض من الدَّنَسِ فتُعيده كحاله أوّل ما خلقته، ولا حول ولا قوّة إلا بك”.

فإن الحق تعالى لن يردّكم صفر اليدين ولن يُضيّع دعاءكم وتضرّعكم هذا دون نظيرٍ ولا مقابل، ولن يكِلَكم إلى أنفُسِكم طرفةَ عينٍ في اجتهاداتكم واستنباطاتكم واختياراتكم.

أجل، إن كنتم تعيشون حياتكم بهذا النهجِ وتلوذون ببابه صباحَ مساء؛ فتعرضون عليه حاجاتكم الواحدةَ تلوَ الأخرى وتُلِحُّونَ في الطلب فإن الله جل جلاله الذي يسمعُ ذلك ويعلمه ويراه سيُجيبكم لا محالة، ولن يَرُدّكم خائبين، وكما ذُكِرَ كثيرًا في أوراد أهل الحقّ وأوليائه المؤثرة والعميقة التي تحرق القلوب وتُجيّش مشاعرها؛ فليس ثمّة أحدٌ حتى الآن ممّن طرقوا بابَه عادَ خاويَ الوفاض، وهناك الكثير ممّن تخبّطوا في أخطائهم وذنوبهم فلمّا لاذوا ببابه ولجؤوا إلى عفوِه ومغفرِته وجنابه، غشيَتْهُم رحمتُه ولَفَّهم إحسانُه ولطفُه وعنايتُه رغم ما اقترفوه في السابق من ذنوب وآثام.

والحاصلُ: أن الحقّ تعالى من شأنه ألّا يتخلّى عن طالبي التعمير والإصلاح والتجديد وإن لم يحظوا بمراتب الفناء في الله والبقاء بالله ومع الله، وعجزوا عن الوصول إلى الذات الإلهية عبر المرور بمراتب علم اليقين فــعين اليقين فـــحق اليقين، ولا يمتلكون رصيدًا حقيقيًّا في هذا السبيل سوى أنهم مخلصون وصادقون لأقصى درجة، ودائمًا ما يبتهلون إلى الله تعالى ويضرعون إليه ويلوذون ببابه بصدقٍ تامٍّ ويتوجّهون إليه سبحانه متضرعين قائلين: “اللهم الإيمان الكامل، اللهم الإسلام الأتم، اللهم الإخلاصَ التام، اللهم الصدق”؛ فقد شملهم الله بحفظه عبر حمايته ورعايته ونُصْرَتِهِ إيّاهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] النسائي: السنن الكبرى، 147/6؛ مسند البزار، 49/13.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts