طبيعة كتابات الأستاذ كولن

فتح الله كُولَنْ كاتبٌ منتظمٌ في الكتابة، وغالبيّة كتبه وإن كانت تتألّف من المواعظ والدروس والمحاضرات التي ألقاها والأجوبة التي قدّمها ردًّا على تلك الأسئلة المطروحة عليه، إلا أنَّ لديه أعمالًا خطَّها بنفسه، إنَّ كُتبه مؤلَّفةٌ إما من المقالات أو الأشعار أو الحِكَم التي كتبها بيده وإما دروس ومحاضرات سُجلت ثم فُرِّغت فصيغت بأسلوب كتاب أي حُولت من أسلوبٍ خطابيّ إلى أسلوب أكاديميّ ثم راجعها بنفسه قبل نشرها، وفي كل كتبه انتهج منهجًا وترتيبًا معينًا، فمثلًا في كتاب “تلال القلب الزمردية” الذي تشكل من المقالات التي كتبها في مجلة “سِزِنتي” شهريًّا عالج الحياة القلبية والروحية للإسلام في إطار مفاهيمها ومن خلال مصطلحات الصوفية على ترتيب معيَّن، أما الكتب التي تشكلت من الدروس والمواعظ فهو يخطط لها أولًا –وأحيانًا يذكر منهج وخطة الدروس للمستمعين في أول درس- ويحدد الموضوعات التي سيتكلم عنها مرتبًا ثم يطبّق هذه الخطة درسًا بعد درس كأنه يكتب كتابًا.

يرى كولن أن الشعر هو”النغمة” المُستشعرة في الطريق إلى استكشاف العوالم الأخرى، أو أنه أنَّاتُ الجهد والطاقة المبذولة في هذا السبيل.

مقالات كولن الفكرية الإصلاحية

إنَّ المقالات التي كتبها بأسلوبٍ أصيلٍ بقدرٍ عالٍ وخاص به شخصيًّا تُنشر بانتظامٍ في مجلات: “سِزِنْتِي (Sızıntı) [الرشحة]” -المجلّة العلمية الأدبية الأخلاقية التي ما زالت تصدر منذ الأول من شهر يناير/كانون الثاني عام (1979م) وحتى اليوم- و”يَنِي أُوميتْ (YeniÜmit) [الأمل الجديد]” -المجلّة الدينية العلمية الأخلاقية الثقافية الفصلية التي تصدر منذ عام (1988م)- و”يَغْمُورْ (Yağmur) [الغيث]” -المجلّة الثقافية الأدبيّة الفنّيّة الفصلية الصادرة منذ عام (1998م) وحتى اليوم-.

وأما ما تُرجِمَ من هذه الأعمال إلى الإنجليزية فقد صدر أوّلًا في مجلة “تراستر (Truestar)” في إنجلترا اعتبارًا من عام (1993م)، ثم في مجلة “فونتاين (TheFountain)” الفصلية التي تصدرها “لايت إينك (LightInc)” في أمريكا، في حين أن ما تُرْجِمَ إلى الألمانية نشر في مجلة “دي فونتين (DieFontäne)”، بينما نشر ما تُرْجِمَ إلى الروسية في مجلة “نوفيا غراني (NoviyeGrani)”، ونشرت الترجمات العربية في مجلة “حراء” الدورية التي تصدر كلّ شهرين.

أثرُ كتابات كولن في الأدبين التركي والعالمي

ويمكن القول إن فتح الله كُولَنْ أحدَثَ أمرين في الأدب التركي، بل وفي الأدب العالمي- وهو إنسان لم ينتبه إليه المطالَبون بالانتباه- أحد هذين الأمرين حديث تمامًا، والآخر حديث بأسلوبه وكيفيّته ومنهجه الخاص به حتى وإن كانت له نظائر وأشباه في التاريخ، أول هذين الأمرين استنطاقُه الصور، وقد بدأ أول ما بدأ في أعدادِ مجلة “سزينتي”، وهو يعني: وضعَ عبارةٍ تحت كل صورة، ورسالةً تتوافق مع تلك الصورة ومعيارًا وفكرة وتقييمًا ما، وهذا أكثر دلالة وإفادة للمعنى من مقالةٍ تُكتب مرارًا وتكرارًا في موضوع واحد، وهي باعتبارها منهجًا أكثر تأثيرًا وحيوية .

استنطق كولن الصور : أي وضعَ عبارةٍ تحت كل صورة، ورسالةً تتوافق مع تلك الصورة ومعيارًا وفكرة وتقييمًا ما.

والمنهج الآخر هو أنه يقدّم أفكاره ورسائله العلمية والفكرية في صورة “حِكَم” قلّ وجودُ مثيلها في التاريخ، ويستخدمها من أجل توجيه وتصويب الأحاديث والاعتقادات والأفكار والسلوكيات بحيث يمكننا أن نسميها “الشرحَ المُركَّز”، ونماذجُ هذا الأسلوب الفني الذي نراه في أعداد “سزينتي” كلها تقريبًا قد جُمعتْ في كتاب بعنوان “الموازين أو أضواء على الطريق” اقتبسنا منها نصوصًا مهمة في هذه الدراسة التي بين أيديكم.

فتح الله كولن شاعرًا

وأشعار فتح الله كُولَنْ وشاعريته موضوعٌ يجب الوقوف عليه وإجراء دراسات حوله أيضًا؛ فهو يَعرف العربيّة والفارسيّة معرفةً جيّدة إلى جانبِ إلمامه بالعثمانية وفنون الأدب، وهو أديبٌ -وإن لم ير نفسه هكذا- يحفظ ما يزيد عن ألف بيتٍ من الشعر ما بين تركي وعربي وفارسي، ولا يعرف البلاغة مجرد معرفة سطحية بل يُتقنها ويُدرِّسها وعلومَها، ويعرف أدباءَ الشرق والغرب المهمّين، ويعرف الفلاسفة أمثال “سارتر” و”كامو” بشكل جيد، ولم ينزلق قطّ في منازعات ومناقشات فكرية مثل “الفن لأجل الفن”، أو “الفن لأجل المجتمع”؛ فصاغ ثمار عقله وترانيم قلبه التي لم يستوعبها النثرُ شعرًا منذ طفولته، ومنها صدر كتاب بعنوان: “ريشة العزف المكسورة (KırıkMızrap)”.

وهو يرى أن الشعر لا بدَّ وأن يشدو بنظامِ الوجود بما فيه من جبال ووديان وجُرف وبحارٍ وبراري ومنحدرات وتلال وأزهار وأشجار وأحزان وأفراح، ونظامِ العالم البشري ونغمتِه التي تبدو معقّدة، والوحدةِ في الكثرة، وهذا ما عبّر عنه الإمام الغزالي بقوله: “ليس في الإمكان أبدعُ مما كان” وعلى حدِّ تعبير “كُولن” فإنَّ:

قدّم كولن أفكاره ورسائله العلمية والفكرية في صورة “حِكَم” قلّ وجودُ مثيلها في التاريخ، واستخدمها من أجل توجيه وتصويب الأحاديث والاعتقادات والأفكار والسلوكيات بحيث يمكننا أن نسميها “الشرحَ المُركَّز”.

“الشعر ليس سوى التعبير عن الجمال والتناسب المتواري في روح الكون، والتَّبسُّم المرتسم على مُحيّا الوجود، والحالة الرقيقة في الأرواح الشاعرية المرهفة الحسِّ؛ فالشعر هو”النغمة” المُستشعرة في الطريق إلى استكشاف العوالم الأخرى، أو أنه أنَّاتُ الجهد والطاقة المبذولة في هذا السبيل، والشعر مع أنَّه صوت متعدّد الأبعاد يصعب فهمُه وهو خاصّ بمناخٍ مبهمٍ بكثيرٍ من جوانبه، وكأنه الغسق في الطرق المُجَازَةِ، وكأنّه الأسرارُ في الفكر لأنّ موضوعَهُ الحديثُ عن ذلك الموجود المجهول، وإنّ العيون تصل إلى الضياء الحقيقي في مناخ الشعر الحقيقي، فتقصُرُ المسافات، وتبلغ الأرواح عزمًا وشوقًا لا ينطفئ” .

ووفقًا لكُولَنْ فإنه “لا بدّ من أن يكون كلُّ شيءٍ محسوسٍ ومعتقَدٍ في الشعر قابلًا للتصوّر، وأن يكون متاحًا إخضاعُ التصوّرات فيه للمحاكمة العقليّة دون هدرٍ، وينبغي لهذه العناصر الخفيّة التي تبدو في صورة نسائم تهبّ في عالم الشاعر الداخلي أن تتمكّن من حماية وجودها وحيويّتها حتى تلك اللحظة التي تصبح فيها هواءً يمكن تَنَفُّسُه بواسطة الكلمات والعبارات، ولا بدّ لتلك الرسالةِ المستعصية على الكلمات أن تنعكس على الأرواح في صورة أنَّاتٍ” ، ولهذا فإن الشاعر الحقيقي هو ذلك الشخص العالمي الذي يتجاوب مع الخالد تجاوبًا لا ينقطع، ويَثْمَلُ مع ما وراء العالم المادّيّ، الواقف على نظام الأشياء وما وراء الحجب، المدرك للأرواح من ناصيتها وأعماقها، الذي يعطي كل شيء قيمته ومكانته الحقيقية؛ سواء من حيث الشكل أو من حيث المعنى، يستطيع -حتى وإن بدا بسيطًا في أسلوب كلامه- مخاطبةَ الناس على اختلافِ مستوياتها بفضل قدرته على أن يُلبِسَ كلَّ معنى لباسَه اللائق والخاصَّ به؛ ومِن ثَم فإنَّ الورود تتفتّح واحدةً تلوَ الأخرى في كلماته ومصاريعه وأبياته ومقطوعاته؛ وكما أن من يُقَيِّمُون كلَّ شيء وفقًا للنظرة الظاهرية للعقل الدنيوي؛ كتشبيه أحد رعاة الحيوانات البحرَ حين يراه للمرّة الأولى بمرعى جميلٍ، حتى وإن حسبوا عباراته بركةَ ماءٍ ضحلة، فإن شعره في الأساس يشبه محيطًا لا تُدرَكُ نهايته مهما غِيصَ فيه، ولا يُعثر على قاعه، يمنح الدرّ والمرجان لكل جهد مخلص.

عالج كولن في كتاب “تلال القلب الزمردية الحياة القلبية والروحية للإسلام في إطار مفاهيمها ومن خلال مصطلحات الصوفية على ترتيب معيَّن.

وجميع مؤلفات فتح الله كُولَنْ تقريبًا من أكثر الكتب قراءةً في تركيا، وباختصار يمكن القول إنَّ فتح الله كُولَنْ يتمتّع بجمهور من القراء على مستوى العالم نَدَرَ ندُّهُ لكاتبٍ آخر، وكتبُه من أكثر الكتب مطالعة.

وقد تُرجمت بعض كتب الأستاذ فتح الله كُولَنْ التي نشرت حتى الآن إلى عديدٍ من لغات العالم في مقدمتها بالطبع الإنجليزية، ثم العربية والألمانية والفرنسية والروسية والإسبانية والصينية والأندونيسية واليابانية والأردية واليونانية والألبانية والرومانية…[تسعة وثلاثون لغة في أواخر (2015م)] ونشرت في تلك اللغات، وما زالت تُتَرْجَمُ.

وقد أجرى “أيوب جان” حوارًا مفصّلًا مع فتح الله كُولَنْ نَشَره بعنوان “جولة في الأفق (UfukTuru)”، بينما نشرت ما أجرته معه من حوار “نوّال سَوِينْدِي” بعنوان “لقاء مع فتح الله كُولَنْ في نيويورك (FethullahGülenileNewYorkSohbeti)”، ونشر “محمد كوندم” أيضًا حواره مع كُولَنْ باسم “أحد عشر يومًا بصحبة كُولَنْ (Gülen’le 11 Gün)”، وخلافًا لهذا فقد سُجّلت تسجيلًا حيًّا باستخدام خاصّيّة الفيديو مواعظه ودروسه التي ألقاها حسبةً في محافظات مثل: “أنقرة” و”إسطنبول” و”إزمير” ما بين (1989-1991م)، وعُرِضَت بعد الحصول على تصريحٍ رسميّ بالنشر والعرض، كما سُجِّلت على أشرطة صوتيّة مواعظُه ودروسُه ومؤتمراتُه التي ألقاها بينما كان موظّفًا رسميًّا بالدولة ما بين (1973-1980م)، ونُشِرَت أيضًا بعد الحصول على تصريح رسميّ بذلك .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ230/ 231/ 232/ 233/ 234.

ملحوظة عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.