تَسِيرُ السُّحْبُ فِي هَذَا الفَضَاءِ ** مُغَامَرَةً، تَطُولُ بِغَيْرِ مَاءِ

وَقَدْ خَطَّ الإِلَهُ لَهَا خُطُوطًا ** فَتَهْبِطُ فِي هدُوءٍ وَاسْتِوَاءِ

وَمِنْ طَبَقٍ إِلَى طَبَقٍ تَوَالَتْ ** إِلَى حِجْرِ الغلافِ مِنَ السَّمَاءِ

وَتَنْقِلُ رَحْمَةَ الرَّحْمَنِ خَيْرًا ** فَتَخْضَرُّ القُلُوبُ بِذا الرِّوَاءِ

صورة شعرية للأستاذ الجليل محمد فتح الله كولن – حفظه الله ورعاه، أدلف بها إلى قراءتي الموضوعية ورؤيتي الاستشرافية لكتابه المعنون بـ”الغرباء”.

أما قبلُ،،،

فإن هذا الكتاب يسعى إلى تقديم تصور دقيق لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، متَّكِأً على الأخيرين خاصة بأسلوب سَرْديٍّ وبشكل زُهْديٍّ، ما يعني أن على قارئه الاستعداد بمداركه وخلجاته معًا له، ولا يدخل إليه إلا باسم الله الأعظم؛ حتى يطَّلع على خباياه العريقة، ويستكشف أسراره العميقة، ويحوز قلادة التنعيم بالفهم الثاقب الحكيم.

حركة الخدمة المباركة، هؤلاء الناذرون أرواحهم للحق، يتغيُّون نشر قيم الأمانة والعدل والحب والسلام، ويرسمون صورة قلمية لفوارس القلوب الصافية للأجيال السعيدة، فهم يشبهون الملائكة الأطهار غير أنهم خُلقوا من ماء وطين.

ولقد قرأتُه غيرَ مرة، فوَجَدْتُني أمام صرحٍ كالطَّود العظيم، وسألتني: كيف لمثلي أن يستكشفه ولمَّا يملكُ لَأْمَة الكشف، وهل يمكن أن يستعرض مقالاته من دون وسائل الكم والكيف، وقد أُغْرِمَ بمضامينها حتى ظُنَّ مكوثه فيها يحتاج عمرًا كفتية الكهف، فلكأني بكل فقرة تحوي لَدُنِّيَّات الغيب، وما أنا إلا مَظْهرُ الشهادة بين يديه، يَرتجي احتراف القول منه وإليه، فاستعنت بالرب الأعلى وهو خير معين.

أما بعدُ،،،

فإن هذه المقالة تسعى إلى استقراء الكتاب بانتهاجٍ بَيْنيٍّ، يجمع الاعتراف بالحال العسير، والاستشراف نحو المآل اليسير، لذا رأيت أن أستعرضه – أولًا -بمنظور الغاية، متخذًا من عناوينه ومضامينه الوسيلة والراية، موزِّعًا إيَّاها على فِكَرٍ أربع هي: غيوم من أنين الذات، وهموم على أعتاب الليالي، ومن أوراق النسيم إلى آفاق النعيم، ثم تجليات رواء الأرواح الظامئة.

غيوم من أنين الذات

أما الفكرة الأولى: غيوم من أنين الذات، فهي تتناول عناوين مقالاته الآتية:

كفكف دموعك يا صغيري

طويلا بكينا

العذاب المقدس

هذا موسم البكاء

فرسان الوجد في هذا الزمان

بيان القلب ولغة الحال

أنت روحنا النابضة

مكابدة الفكر

تجديد الذات

سلطنة القلوب

فتلك عشرة أولى كاملة، تدور مضامينها حول الذات البشرية وما يكتنفها من كروب وآلام وعذابات وشقاء، تصل بها حد البكاء، حتى بدت سماؤه غائمة لا ساحبة، تعود من سعيها خاوية اليدين خائبة، فاخترق أنينها عنان السماء، لتؤذن بأنها على دروب الغرباء، لذلك يخاطب الأستاذ: “أن ائذن لي أن أكون فدائيَّك في هذه الجولة العصيبة، واسمح لي أن أضرب بريشتي من أجلك، وأوصل أناتي إلى روحك، نحن غرباء العصر، في أيادينا باقة من الورد، عيوننا تنفح الورد بقطرات من الندى، نقف أمام من استعجل المجيء في قر الشتاء”.

الغريب من بات مغتربًا في مجتمعه حالًا ومنهجًا وسلوكًا، يحمل أحلامًا سامية وغايات أخروية سامقة، يُضحِّي بملذَّاته في سبيل معتقداته، يُسعد الناس وإن أنكروه أو أقصوه، يكابد ويعاني لكنه ذو قلب مؤمن فيَّاض بالصفح.

وفيها اعتراف بأحوال ما كان لها أن تنبت أشواكها في أرض عمَّرها محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن تكون بذورها شيطانية ورواؤها أبالسي، فمن ذلك الذي يسير على شريعته ويستن بسنته ولا يحوز منزلته ومكانته، وما على هذه الذات سوى البكاء على ماض تولَّى وحاضر يصْلى سعير البعد عن حق الله ومرضاة رسوله، ومستقبل تجلَّى نوره بالإنابة والتوبة.

وكأنني بلسان السارد يردِّد: “كفكف دموعك يا صغيري فهذا موسم البكاء في طريق العذاب المقدس، وكم طويلًا بكينا نحن فرسان الوجد في هذا الزمان، وإن بيان القلب ولغة الحال لا شك يتيحان مكابدة الفكر، فأنت روحنا النابضة بتجديد الذات كي نتوَّج على سلطنة القلوب”.

هموم على أعتاب الليالي

أما الفكرة الثانية: هموم على أعتاب الليالي، فهي تتناول عناوين مقالاته الآتية:

الإنسان الذي نتوق إليه

عالم المسلمين

الروح الباعثة

شجرة الأمة

جنون القوة

الإنسان الجديد

الوعي الجمعي

النفوس النافعة أو مجتمع الضمير

لعلنا نبعث من جديد

المجتمع المثالي

وتلك عشرة ثانية كاملة، تدور مضامينها حول المجتمع المسلم وما يتَّسم به من جهل وفقر ومرض وتشرذم وتناحر وعصبية جاهلية، حتى صار في ذيل المجتمعات البشرية، “إنه يعيش حالة من الكسل، لا يؤرقه فيها مخاض فكري، ولا يقدم رؤية بناءة، وليس لديه مشروع ينهض به من كبوته تلك، ولا تهيج في صدره مشاعر للتغيير، أحاطت به طبقة ضبابية كثيفة من الغفلة واللا مبالاة.

ينبغي على الأمة جميعًا – وبالأخص النُّخَب والمثقفين – أن يؤسسوا سلامًا بينهم وبين تاريخهم، وأن يتم التخطيط لكل حركة تجديدية وعملية تغييرية وضعت من أجل إنشاء المستقبل، بناء على مقوماتنا التاريخية وجذورنا الروحية.

تحاول هذه العشرة أن تؤسِّس صرحًا مجتمعيًّا مثاليًّا من خلال بعث جديد تتوق فيه إلى إنسان صالح ينبت من شجرة الأمة الوارفة الظلال، بروح باعثة لقيم الحق والخير والعدل والجمال، ونفوس نافعة ذات ضمير حي تمنح ولا تمنع، وتعطي بلا مَأْخذ، بتعقل وانضباط وتبصُّر وانتظام وتثبُّت وحذر، فلا مكان للتعثُّر والانتكاس والإخفاق والغَرر.

وما المجتمع إلا عدة أفراد، “وإن الأفراد الذين لا يستطيعون – بحكم مزاجهم البشري – أن يكونوا رجالَ تعقُّلٍ واتِّزان في كثير من الأحيان، بعد تسرب هذا الفهم الحكيم إلى وعيهم وشعورهم وتشرُّبهم له، وبعد تقلُّبهم في بوتقة الوعي الجمعي وانصهارهم فيها، وبعد قبولهم هذه الخميرة الحيوية واستيعابهم لها، ودخولهم في مراحل تحوُّلية جوهرية وتشكلهم فيها… سوف يتسامون إلى مرتقًى عالٍ وفضاء واسع يصبحون فيه أبناء مثاليين لمجتمع مثالي”.

وأيضًا في هذه العشرة يطرح الأستاذ مقترحات لمجابهة تلك العثرة؛ إذ ينبغي على الأمة جميعًا – وبالأخص النُّخَب والمثقفين – أن يؤسسوا سلامًا بينهم وبين تاريخهم، وأن يتم التخطيط لكل حركة تجديدية وعملية تغييرية وضعت من أجل إنشاء المستقبل، بناء على مقوماتنا التاريخية وجذورنا الروحية، ويجب ألا تشوَّه قضية حيوية كهذه بأغراض سياسية، ولا تلوَّث بمطامع فردية أو مصالح فئوية، واتخاذ كل التدابير الممكنة لما يعترض ذلك من مضاعفات جانبية وصعوبات حياتية، وعلى كلٍّ فإن هدم أي بنيان يستوجب وجود نموذجه الجديد قبل ضربه بالمعاول من خلال الدراسات العميقة والبحوث الدقيقة والاستيعاب الشامل.

من أوراق النسيم إلى آفاق النعيم

وأما الفكرة الثالثة: من أوراق النسيم إلى آفاق النعيم، فهي تتناول عناوين مقالاته الآتية:

أين أنت

الطرق

الغرباء

أنت

انتصار الروح

الامتحان

الوفاء

النفوس المكابدة

سمات المؤمن الحق

المؤمن لا يسقط وإن اهتز

وتلك عشرة ثالثة كاملة، تدور مضامينها حول البشارة وبوارق الأمل والعزيمة والبعث الأصيل بعد القضاء على مجموعة الجهلة والسفهاء والكذَّابين والمشعوذين الذين أخطأوا في التشخيص وأجرموا في العلاج، ذاكرًا ضوادَّها من القدوات الصادقة في بدر الكبرى والنماذج المخلصة في ملاذكرد الرائعة والأمثال الساطعة في الفتح الأكبر، هؤلاء المشحونون بالفداء والتجرد والتضحية الفاخرة والتفاني والبطولة النادرة.

هذه المقالة تسعى إلى استقراء الكتاب بانتهاجٍ بَيْنيٍّ، يجمع الاعتراف بالحال العسير، والاستشراف نحو المآل اليسير.

وما على سالكي دروب هؤلاء سوى عشقهم إياهم واشتياقهم خلف دليلهم؛ حتى تذوب الجبال لهم قيعانًا مستوية، ويصير الحزَن أمامهم سهلًا ميسورًا، ويجتازون بتأسِّيهم لجج الدماء والصديد، فلا تعثُّر ولا نكوص ولا انكفاف أو رجوع خلوص، وإنما يطيرون إلى المجد بله يطير إليهم، وينظرون إلى الموت نظرة المحب الوله، فلا خوف عليهم فيما يُمتحنون ولا هم يحزنون.

إن هؤلاء السالكي تلك الدروب من الغرباء، كما يرى الأستاذ، ثلة من أبطال القلوب وفدائيي المحبة، وقلة من الأطهار المجهولين، يتنفسون أملًا، وينشرون أمنًا وسكينة وسلامًا، وما الغريب إلا من بات مغتربًا في مجتمعه حالًا ومنهجًا وسلوكًا، يحمل أحلامًا سامية وغايات أخروية سامقة، يُضحِّي بملذَّاته في سبيل معتقداته تجاه غيره، يُسعد الناس وإن أنكروه أو أقصوه، يكابد ويعاني لكنه ذو قلب مؤمن فيَّاض بالصفح والتحفُّز الروحي العظيم.

لقد نصَّ على أن المؤمن الحق لا يسقط أبدًا وإن اهتزَّ، فعندما يجابَه بموجات الحقد والعداء، وتدلهمُّ أمامه الخطوب، وتتكاثف الظلمات بعضها فوق بعض، نجده لا يتردَّى في وديان اليأس والقنوط، ولا يضطرب أو يتردَّد؛ لأنه ذو ميسم فذٍّ بإيمانه النقي وجهوده الهائلة لنشر هذا الإيمان وحلاوته، ويرسل البسمات والتحايا إلى الوجود كلِّه بأخلص شعور وأطيب عبير، جبهته على الأرض في سجود دائم، وروحه هائمة في ملكوت الرب بأجنحة الشرع، يحبُّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حبًّا جمًّا خالصًا من أي شوائب، ولا شك أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم يحبُّه كالذَّوائب.

رواء الأرواح الظامئة

وأخيرًا في الفكرة الرابعة: تجليات رواء الأرواح الظامئة، فهي تتناول عناوين مقالاته الآتية:

أيها الشاب

روح الفتوة

تعالوا نتحدث بقلوبنا

صورة قلمية لفارس القلب

حب الإنسان

حركة نماذجها من ذاتها

الناذرون أرواحهم للحق

الأمانات المباركة

الأجيال السعيدة

أن نكون من جديد

وتلك عشرة أخيرة كاملة، تدور مضامينها حول البناء المقتدر والجزاء المنتظر بعد المسير في دروب النور إلى الأهداف القدسية وجمال الحقيقة الأبدية، فلقد كان اكتشاف الذات بشعلة الإيمان وسيلة لتجاوز المفاوز المرعبة والامتحانات العصية والشدائد القوية، ويستعرض بعض النماذج المادية المعاصرة التي نهضت وتقدَّمت من بني الأصفر والأحمر، ثم يُعرِّج على نموذج حيٍّ واقعيٍّ قدمه – الأستاذ نفسه – للبشرية جمعاء وهو حركة الخدمة المباركة، هؤلاء الناذرون أرواحهم للحق، يتغيُّون نشر قيم الأمانة والفضيلة والعدل والحب والصفح والسلام، ويرسمون صورة قلمية لفوارس القلوب الصافية للأجيال السعيدة، فهم يشبهون الملائكة الأطهار غير أنهم خُلقوا من ماء وطين.

إن هذا الكتاب يسعى إلى تقديم تصور دقيق لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، متَّكِأً على الأخيرين خاصة بأسلوب سَرْديٍّ وبشكل زُهْديٍّ.

إن هذه إطلالة قراءتي التي ما رضيت عنها بعدُ؛ فكما ترى كلَّ مقالة بالغرباء عامرةً بفيوضات الفكر ما لا يسعُ زماني ولا موضعي ولا بناني أو أذرُعي من الإحاطة بها بله الكتابة حولها في بضع ورقات أو فقرات، لكنِّي أكتفي بما وعاه اللُّبُّ وغَشِيَه القلبُ لما مضى ذكرُه إلى ما لا ينقضي أَثَرُه، ولولا خوفُ الإكثارِ في استكناه ذلك المدارِ لما وَجَبَ الاقتصارُ على هذا المقدار في استكشاف المسار.