قضية العنف عند كل من النورسي وكولن (٩)

فقه الواقع

لقد بينَّا في الحلقة السابقة المنحى الأول من أصل ثلاثة مناحي في منهجه العام لمعالجة كل القضايا ومنها معضلة العنف، ويتعلق بفقه النصوص، وسنتوقف في هذه الحلقة عند المنحى الثاني والذي يهم فقه الواقع، حيث إن أهمية فقه النص الديني تعد أساس التدين الحق، وإلا سيلج الإنسان مجال العبث بالدين، سواء تعلق الأمر بقضايا العقيدة وأعمال القلوب أو بمجالات الشريعة وأعمال الجوارح. وهذا سر نجاح الأستاذ كولن في معالجة عدد من القضايا الشائكة ومنها قضية العنف والتشدد.

الواقع والنص عند كولن

لمعرفة أهمية استحضار الواقع في فهم النصوص عند الأستاذ كولن، يمكن التذكير بأن أول تحدٍّ واجه واقع المسلمين يخص مجال العقيدة ويهم الفعل الإنساني وعلاقته بالحرية والجبرية “مسألة مرتكب الكبيرة”؛ وقد كانت من أوائل القضايا التي تصدى لها العلماء، بل وسجل لنا التاريخ الخلافات القوية التي حصلت بينهم في التصدي لها. وبعدها ظهرت قضية الألوهية “مسائل الذات والصفات” وكان موضوع النبوة من آخر ما ظهر لأنه لم يكن محل خلاف بداية الأمر، في واقع الناس. وبصيغة أخرى فقد كان الواقع هو الموجِّه والدافع بالنسبة للعلماء وقضايا انشغالاتهم، وذلك الذي أثارني في منهج “فتح الله كولن” اليوم؛ فما من قضية إلا وله فيها فقه وقول مدعوم بفعل واقعي ملموس، وما تصديه المبكر لقضية العنف والتشدد إلا نموذج شاهد على فقهه العميق للواقع، بل هو منهج قرآني صرف، ويتمثل في أسباب النزول حيث كان جزءٌ مهما من القرآن الكريم متعلقًا بواقع الناس؛ مجيبًا على التساؤلات وموضحًا للإشكالات التي واجهتهم.

إن ذلك الزواج الشرعي بين النص والواقع هو الكفيل بربط صلات الرحم التي انقطعت زمنًا، بين الفكر والفعل أو الإيمان والعمل.

مكانة فقه الواقع عند كولن

وقد احتل فقه الواقع مكانة مرموقة في فكر فتح الله كولن التجديدي، الشيء الذي أكسبه تميزًا لايخطئه المتأمل، وهو فقه عميق دائم الاستصحاب لثوابت الأمة ومقوماتها، يقول الأستاذ كولن: “لكن الواقع يقتضي -إذ نمضي في طريق التجديد أمةً- أن نعيد النظر إلى المحركات التاريخية لألف سنة مضت، وأن نستجوب “التغييرات” و”التحولات” المختلفة لمائة وخمسين سنة مضت. هذا ضروري، لأن الأحكام والقرارات تُقَوْلَب في الحاضر حسب “مقدسات” مصطنعة، والقرارات المنبثقة من تحت ثقل الفهم السائد المعلوم معلولة”[1]

إن ذلك الزواج الشرعي بين النص والواقع هو الكفيل بربط صلات الرحم التي انقطعت زمنًا، بين الفكر والفعل أو الإيمان والعمل. وهذا ما سيُعلي من شأن القضايا التي تؤرق الإنسان المعاصر خاصة في بُعدها القيمي مثل قضية العنف؛ والتي لا توتي أكلها إلا بقوة الاستدلال العلمي والعملي، معززة بمعاناة الإنسان في زحمة قضاياه الواقعية، وليس نجاح الأستاذ كولن ومن قبله الشيخ النورسي إلا ثمرة طيبة لذلك الزواج المبارك.

فقه الواقع لدى كولن

ففقه الواقع الذي آتى أكله في التصدي لقضية العنف والتشدد عند فتح الله كولن، هو ذلك الاستيعاب المعرفي الشامل والمفصل للصورة الواقعية من الحياة، التي يراد معالجتها بالهدي الديني، والذي لا يتم إلا بالكشف عن حقيقة تلك الصورة، في عناصرها الظاهرة والخفية، وفي علاقتها بالصُور الأخرى، في أبعادها الفردية والاجتماعية والدولية، وفي مظاهر الخلل المنتجة للأضرار، والتي تفوت مصالح الأفراد والجماعة، وكل ذلك مع مراعاة عناصر التشخيص التي تتعلق بالمكان والزمان للقضية[2].

أسباب تأزم الواقع

لقد أصاب النورسي رحمه الله في فقه واقعه الصعب الذي انقضّت عليه أيادي الغدر والتواطؤ الدولي، وظهر هذا الفقه جليًّا فيما أشار إليه الأستاذ كولن مذكرا بتوصيف النورسي للخلل الكبير الذي أصاب الأمة حين قال: “فالنورسي يـرى مصدر المفاسد كلها – بالأمس كما اليوم- في الجهل والفقر والتفرق. الجهل هو أول الأسباب لمآسينا الاجتماعية، ومقدمة الدواعي إلى بؤسنا السائد فلا شبهة في أن أعظم مصائبنا -أمس واليوم- هو الجهل بالله وتناسينا للنبي e، وترك روابطنا بالدين والتعامي عن محركات تاريخنا المادية والمعنوية. ولقد جعل بديع الزمان حياته وقفاً على محاربة هذه الجراثيم القاتلة”[3].

إن كثيرًا من مظاهر العنف ومآسي الأمة ناجمة عن فئات عريضة غرر بها بعض ولاة الأمر من المحسوبين على العلماء أو الدعاة أو السياسيين.

إن النجاح الباهر الذي حققه فتح الله كولن في مواجهة العنف والتشدد، يعد نجاحًا لمنهجه في معالجة كل القضايا المرتبطة بالقيم والأخلاق، كل ذلك بفضل الرؤية الشمولية والمعالجة الجذرية فقهًا وتنظيرًا وتنزيلاً، فتأمل هذا الكلام العميق: “وبسبب الجهل والتفرق المنبعث من الجهل، يعيش العالم الذي يرتبط بنا وحيثما كان، حيـاة من القهر والأسـر والتحكم والذل وأنواع البلاء والأمراض، ويغرق في بحار الدم، وتنتهك فيه الأعراض ويداس على الشرف، ويعجز عن كبح جماح الفرقة وإعطاب عجلة الفواجع والفضائح في تقلبه ذات اليمين وذات الشمال في هذا العالم المترنح في شِباك فقدان الموازنات والمعايير… بل لا نجد وسيلة لخلاص العالم الإسلامي من التدحرج يوما بعد يوم إلى مهاوٍ مهولة وبئيسة، ولا نتحفز بروح الوحدة، ولا نصفي حسابنا مع العصر”[4]

أسباب أخرى للأزمة

لم يتوقف فتح الله كولن عند توصيف الشيخ بديع الزمان النورسي للواقع التركي وحال الأمة عموما، بل زاد الأمر عمقا وتشريحا حين قال: “كان الجهل والفقر والتفرق والتعصب وما يشبه ذلك، هم أعداؤنا في زمن ماض. واليوم زيد عليهم الخداع والتسلط والسفاهة والخلاعة واللامبالاة وضياع الهوية” بل كان الرجل أكثر جرأة وإيلامًا حين وجه النقد مباشرة إلى بعض أهل العلم وبعض الشباب الذين يُغرر بهم وينخدعون بالمظاهر والخطابات المُجلجلة إذ يقول: “وليعذرني هذه المرة الذين يحملون في جنباتهم قلق النـزاهة الدينية والصفوة الفكرية والحماسة “الملّيّة، إذ أقول بأن أجيال الشباب وقسمًا من أنقياء السـريرة من الشيب يُضَلَّلون منذ مدة طويلة بالحماس البريء النقي، ويعيشون غـدر وعذاب الشخصية الصدوق-المنخدعة، ويُغرَّرون بأيديولوجيات منحرفة ما فيها إلا الكلمات المنمقة”[5].

وذرني أقول إن كثيرًا من مظاهر العنف ومآسي الأمة ناجمة عن فئات عريضة غرر بها بعض ولاة الأمر من المحسوبين على العلماء أو الدعاة أو السياسيين. وإن كثيرًا من أعمال الشغب والعنف والعنف المضاد في كثير من البلاد الإسلامية يعد نتيجة طبيعية لهذا السلوك كما هو الحال اليوم في تركيا وفلسطين ومصر وسوريا والعراق وأفغانستان وغيرها.

معالم المنهج

إن الأستاذ كولن وهو يشرِّح الواقع بعد فقه النصوص، تجده يسيح بك في أعماق ودلالات الألفاظ حتى يبعث في مواتها حياة جديدة في ظل موات الأفكار. ومن ذلك قوله: “أرجوكم أن تتفكروا… بمَ ننجـو مـن الفقر الأخلاقي والمعضلات المتشـابكة يومًا بعد يـوم حتى جعلت الحياة حملاً ثقيلاً وحيرة لا تطاق؟ وكيف نتخلص من نوبات أمراضنا الفردية والعائلية والاجتماعية؟ وكيف نسير إلى المستقبل في ثقة واطمئنان؟”[6]

من أجل ما سلف نجد فتح الله كولن الذي يغترف من مشكاة لا تنضب، متفوًقا ليس في مواجهة العنف فحسب، بل في قطع أصوله وزرع الحياة في كثير من القيم التي ماتت في عالمنا. إذ يقول: “ولذلك، نحن اليوم في أمس الحاجة إلى طريق يوصلنا إلى الحقيقة والفضيلة، ومنهج تفكير لا يخدعنا، وموازين لا تضلنا. والواقع أن الوجدان والقيم الأخلاقية مصادر نور تكفي لحل كثير من المعضلات، لكن في أيامنا هذه، الوجدان جريح والقيم الأخلاقية شتات. فهذان المحركان قد أجتُزّا من الجذور وجُففت ينابيعهما”[7].

هذا الجهد المنصرف إلى الحب والتسامح والحوار، هِمّة مهمة في سبيل لملمة شعث المجتمع وتحريك مصادر قوته المعنوية.

ليس هذا فحسب، فالأستاذ كولن قد أعلن النفير العام من أجل المواجهة الشاملة لكل ما من شأنه المساهمة في تحقيق تلك الأهداف الإنسانية الكبرى فتأمل هذا الإعلان العالمي لرجل مهموم بالقيم الإنسانية الكبرى: “واليوم، هـذا النفير التربوي بأسمائه وعناوينه المتنوعة، وهذا الجهد المنصرف إلى الحب والتسامح والحوار، هِمّة مهمة في سبيل لملمة شعث المجتمع وتحريك مصادر قوته المعنوية…”[8]

هذه بعض معالم منهج فتح الله كولن في معالجة قضية العنف والتطرف من خلال نافذة فقه الواقع، فهل ذلك عمل كاف لبلوغ النتائج المرجوة يا ترى! كلا. إن جزءًا كبيرًا من الذي ذكرناه في منهج فتح الله كولن لفهم النصوص أو فقه الواقع، يعد منهجًا مشتركًا بين عدد مهم من العلماء، إلا أن واسطة عقد منهج الأستاذ كولن يكمن في الشق الأخير الذي يمثل الصفحات المشرقة لفقه هذا الرجل، وذلك ما سنحاول بيانه في جانب فقه التنزيل عنده؛ من خلال المنحى الثالث والأخير إن شاء الله تعالى.   (يتبع)

[1] انظر “ونحن نقيم صرح الروح للأستاذ كولن دار النيل للنشر ط4 2008م ص41

[2] انظر كتاب فقه التدين للأستاذ عبد المجيد النجار.

[3] انظر “ونحن نقيم صرح الروح للأستاذ كولن ص73

[4] السابق ص74

[5] انظر “ونحن نقيم صرح الروح للأستاذ كولن ص 92

[6] السابق 96

[7] انظر “ونحن نقيم صرح الروح للأستاذ كولن ص97

[8] السابق 106

Leave a Reply

Your email address will not be published.