الملخص:

كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” للأستاذ فتح الله كولن من الكتب التي لفتت أنظار كثير من الباحثين فهو مع وجازة حجمه يرسم خارطة تفصيلية دقيقة لغاية عظيمة يتوخاها كل مجدد ومصلح، وهي إقامة صرح الروح المتداعي وتشييده على أسس متينة. ومن ثم فكل مفهوم في هذا الكتاب مركز شديد التركيز، يحمل في تضاعيفه إشارات ورموزا متعددة ومتنوعة.

وقد تصدت باحثة قديرة ورائدة في التفسير المصطلحي لبعض مقالات هذا الكتاب، حيث وقفت وقفة تأمل في النواة المفهومية التي منها تتشعب كل الدروب الاصطلاحية في النص. ووجدت أن هذه النواة المفهومية هي: وراثة الأرض. ثم راحت ترصد هذا المفهوم إحصاء ودلالة، وتسبر غور صفات ورثة الأرض الثمانية التي استعرضها الأستاذ كولن في ما اختارته من مقالات، لتخلص منها إلى جملة من المفاهيم التي تُشكِّل امتدادات يصلح كلّ مفهومٍ منها أن يكون ميدانًا لدراساتٍ مفهومية ومصطلحية عميقة في فكر الأستاذ كولن على حد وصف الكاتبة.

المقال:

مقدمة: فرضية وإشكال

يتميز كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”(1) للأستاذ فتح الله كولن، بالكثافة العلمية الشديدة، بسبب حجم الغاية التي يتوخاها، وهي “إقامة صرح الروح”؛ أي إعادة صناعة حضارة راشدة، وصغر المساحة التي خصصها لذلك: وهي 142 صفحة، نظرت منها إلى مقالتين أولاهما: (ونحن نقيم صرح الروح)، والثانية هي: (الحركية والفكر)، ثم لما وجدته يجعل الأولى مجرد تفصيل لمقال سابق، فقد أضفته إلى مساحة النظر، وهو مقال (وارثو الأرض)، فكان مجموع الصفحات المدروسة 22 صفحة، وهي مساحة أشد اختزالاً وكثافة. لذلك أفترض -أولاً- أن أفضل مفتاح يمكننا من الدخول إلى هذا الصرح هو المفتاح المصطلحي. ولما كانت تلك الكثافة العلمية سببًا في تزاحم المصطلحات والمفاهيم، فإنني أفترض ثانيًا أن ثمّة شبكة مفهومية مترابطة، من أي مدخل منها بدأت وجدت نفسك سائرًا بين دروبها في تداخل لا تخطئه عين الباحث. ولكن كثرة مسارب هذه الشبكة المفهومية، وتداخل مكوناتها قد يسقط الباحث أحيانًا فيما يشبه المتاهة، مما يقتضي منه وقفة تأمل في النواة المفهومية التي منها تتشعب كل الدروب الاصطلاحية في النص. لذلك أفترض أخيرًا بالنظر إلى سياق الكتاب كله، وطبيعة الغاية من تأليفه، أن هذه النواة المفهومية هي: وراثة الأرض.

غير أن مفهوم الوراثة ومعه الإرث والميراث اللذان استعملهما الأستاذ فتح الله كولن أيضًا مضافين إلى الأرض إنما يعني في استعمالاته اللغوية، وحتى في بعض استعمالاته القرآنية: “انتقال قُنْية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد”، بل “يقال لكل من حصل له شيء من غير تعب قد ورث كذا”، فكيف يستقيم مفهوم الوراثة بهذا المعنى مع مفهوم البناء، بناء صرح الحضارة الذي يشترط بلوغ الغاية من الجهد والتعب والحركية، فكرًا وعملاً، عقلاً وروحًا وجسدًا، جماعات وأفرادًا؟

نحن لسنا بحاجة إلى التفتيش عن شيء أجنبي أو اللجوء إلى أي شيء لعالمنا المتمازج بروح الإسلام على مدى الزمان. إن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا الفكرية والإيمانية.

1- إحصاءات ودلالات

ورد مفهوم الوراثة في هذه النصوص الثلاثة 27 مرة. منها 24 موردًا كلها موصولة بلفظ الأرض صراحة أو ضمنًا. وواحدة موصولة بلفظ السماء (الوراثة السماوية)، والاثنتان الأخيرتان ليست لهما إلا دلالة لغوية (أورث / يورث) بمعنى سبَّب.

92% من الاستعمالات الاصطلاحية للمفهوم وردت بصيغ اسمية، منها 65.21% جاءت اسمًا للفاعل في صيغة المفرد (وارث) أو صيغة الجماعة (وارثو الأرض، ورثة، جماعة وارثة) والباقي مصادر، وهي: وراثة 17,39% وميراث 08,61% وإرث 08,61%

إن تركيز النسبة في صيغ اسم الفاعل يؤكد فاعلية المؤمن -فردًا كان أو جماعة- في عملية وراثة الأرض. وهدف الأستاذ كولن أن يبين شروط هذه الفاعلية التي سمّاها بخصال وارث الأرض، كما سماها صفات في غير ما موضع.

وأما الصيغ الفعلية على قلتها فتؤكد امتداد هذه الفاعلية من الأرض إلى الكون كله، يقول كولن: “مَن يـرث الأرض ويحكمها، يحكم عمق الفضاء والسماء أيضًا. إذن هي حاكمة في الكون كذلك”، وهذا ما يسميه كولن: “وراثة السماء”.

إن آية الأنبياء آية جامعة، فهي كما تؤكد على الثقة المطلقة في وعد الله الذي كتبه في الزبور من بعد الذكر، وهو وراثة الأرض، قد بينت الشرط الجامع أيضا لتحقيق هذا الوعد: وهو الصلاح (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).

وهذا الشرط الجامع فصلته آيات كثيرة في الكتاب العزيز. فقد ورد مفهوم الوراثة في القرآن الكريم عموما 35 مرة، 68.57% منها تتعلق بوراثة الناس للأرض، أي 23 مرة. ويلاحظ أنها موزعة بالتقارب على مجالات ثلاثة: 8 منها تتحدث عن وراثة الأرض في الدنيا، و7 موارد تتحدث عن نوع مخصوص من هذه الوراثة وهي وراثة العلم، كتابًا كان أو نبوة أو حكمة، وهذه الوراثة هي التي سيجعل منها الأستاذ فتح الله كولن وصفًا أساسيًا من أوصاف وارثي الأرض كما سيأتي، و8 الأخيرة تتعلق بامتداد الوراثة الإيمانية الصالحة إلى الآخرة. ومن تتبع هذه الموارد يتبين أن شروط الصلاح التي جعلت في القرآن الكريم مناطًا لبلوغ مرتبة وراثة الأرض كلها دنيا وآخرة هي نفسها التي جعلها الأستاذ صفات لوارثي الأرض، فكيف يتبين ذلك من خلال كل الصيغ والاشتقاقات المستعملة؟ وما الامتدادات المفهومية للوراثة؟

يتحدث الأستاذ فتح الله كولن عن سائح الإيمان فيصفه بأنه “يعيش في شوق، ولا يقع في التشاؤم والسوداوية حتى في أشد المواقف سلبية، مع أمل القدرة على النجاح في كل شيء.

2- صفات وراثة الأرض

الوراثة عند الأستاذ فتح الله كولن “عودة إلى الفلك الأصل”، وليس المقصود بالأصلية القدم الزماني وإنما التمثيل الحقيقي، فقد يمنح حق لبعض الناس، ثم يؤخذ منهم ويمنح لآخرين أفضل منهم نسبيًّا، طبقًا لعوامل الصعود والهبوط الحضاريين، وكل هذه أنواع من الوراثة للأرض، ولكنها ليست الوراثة الحقيقية التي يقصدها الأستاذ فتح الله. فالوارث الحقيقي من توفرت فيه خصال الوراثة الممتدة في الزمان والمكان، لهذا يقول الأستاذ فتح الله كولن: “الدنيا تدور، وتدور، وكلما دارت تنسحب إلى فَلَكها الأصل. فهل وارثو الأرض الحقيقيون جاهزون لاسترداد ميراثهم الذي أضاعوه، فخطفه غيرُهم قبل مدة؟ إن الحق الأول شيء، والحق المستلم بالتمثيل شيء آخر. فالحق إن لم يُمَثّل حسب مقاييس قيَمه الذاتية، يمكن أن يُسترد في كل وقت، وإن مُنح ابتداءً لأمة معينة وَجَمْعٍ معين… فيُستَرد منهم، ويُسَلَّم إلى من يكونون الأسبق والأفضل نسبيًا في الخير، إلى أن ينشأ الممثلون الحقيقيون… ولما كانت هذه الحاكمية بالنيابة والخلافة، فحيازة خصال التمثيل التي يريدها صاحبُ السماوات والأرض الحق، لازمة وضرورية “.

إن هذه الوراثة لها -حسب الأستاذ فتح الله كولن- مضامين ومجالات وصفات:

أ- أما مضامينها فمدارها على مفهوم الخلافة: فالتمثيل “حاكمية بالنيابة وخلافة” كما يقول. ولعل المقصود هاهنا استخلاف الإنسان في الأرض لتعميرها على قاعدة الصلاح، لا على قواعد الفساد الذي تخوّفت منه الملائكة لما قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ(البقرة:30). فاختيار الأستاذ فتح الله كولن للفظ الخلافة يتناسق مع شرط الصلاح الذي جعلته الآية مناطًا لوراثة الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ فلا يستحق التمثيل الحقيقي لهذه الوراثة، وهذه الخلافة، أو الحاكمية بالنيابة إلا من جمع شروط الصلاح وخصاله. ولذلك سماها الأستاذ أيضا بالوراثة السماوية التي تبدأ من اللجوء إلى الله تعالى لا من دعوى ندعيها، أو مصالح دنيوية نصيبها.

بـ- وأما مجالاتها فاثنان: الحركية والفكر: فهما الكلمتان الجامعتان للصفات المطلوبة لوراثة الأرض. يقول الأستاذ فتح الله كولن: “نحن نلخص خط كفاحنا كورثـة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا الحقيقي لا يتم إلا عبر الحركية والفكر”. أو هو الإيمان والعمل، والنظر والتطبيق. فالفكر بدون حركة سكون واستسلام وتسليم، والحركة بدون مبادئ وتصورات وقلب حي تكون حركة سلبية، لأنها تعني غياب الإيمان الحقيقي…”

فحركات الأفراد والجماعة لابد أن تتأسس على باطن هذبه الإيمان الحقيقي، بما يصاحبه من علم وعشق ومراجعة ذاتية وحرية وإبداع وفن، وهي صفات وارثي الأرض، التي يجمعها لفظ الدين أو العبادة. وبالمقابل، كما أن الحركية ترتبط بالفكر فلا بد للفكر أيضًا أن يكون حركيًّا، يتدخل فيما حوله، ويشارك في التكوينات المحيطة به، فليس من بديل لذلك إلا التسليم والعجز أو التعاجز بلغة الأستاذ كولن.

أي إن صفات وارثي الأرض، وهي الإيمان الحقيقي، وما يصاحبه من علم وعشق ومراجعة ذاتية وحرية وجماعة مبدعة ورؤية فنية يجب أن تظهر في حركة تاريخية يستعيد فيها وارثو الأرض أصلهم الضائع منذ قرون، أي التمثيل الحق لشريعة الله في الأرض. ومناط ذلك كله: “الحفاظ على الكتاب والسنة وصوافي اجتهادات السلف الصالح، وحسب مدارك العصر وأسلوبه”.

نحن أمام عودة عصر العلم والبيان من جديد. إذن لا بد لورثة الأرض من اللحاق بالعصر بعلمهم وفنهم وتقنيتهم. وتطوير متلقيات فنية طازجة تلائم عالمية الإسلام.

جـ- وأما صفات وراثة الأرض على جهة التفصيل فثمانية، سماها الأستاذ فتح الله كولن بالصفات والخصال، وهي:

الصفة الأولى، الإيمان الكامل: وهي أول صفات وارثي الأرض. وقد ورد لفظ الإيمان ومشتقاته في هذه المقالات الثلاث 22 مرة، منها  16مرة بصيغة “الإيمان” نفسه. وقد ورد اسم الإيمان تارة موصوفًا بصفات إيجابية أو مضافًا إليها، وهي: الكمال (الإيمان الكامل) والحق والحقيقة (المؤمن الحق، المؤمن الحقيقي، الإيمان بمعناه الحقيقي)، وبالصلاح (المؤمنين الصالحين)، وكذلك: ضياء الإيمان، وإنسان الإيمان، وسائح الإيمان. كما يأتي أحيانًا موصوفًا بصفات سلبية أو مضافًا إلى أوصاف سلبية، وهي: الإيمان تراب (مرتين)، غياب الإيمان (مرة واحدة)، ضاع الإيمان (مرتين). فكل من تمثلت فيه خاصية الإيمان بأوصافها الإيجابية كان بحق منتسبًا إلى وارثي الأرض حق الانتساب. وأما من ضعف الإيمان في قلبه فغاب وضاع وصار ترابًا، فقد حرم من شرف الانتساب إلى ورثة الأرض، وإن ادعى ذلك.

لذلك يأتي سياق وصف الإيمان بالتراب، في سياقين:

السياق الأول: سياق عام يتعلق ببيان الخلل الشامل الذي أصاب المسلمين بعد بيعهم الدين بالدنيا، وتخليهم عن ميراثهم المبارك لصالح أفكار إلحادية وشكوك مترددة، ومنظومات أيديولوجية متهاوية، وسلوكيات فاسدة.

السياق الثاني: سياق خاص يتعلق بالخلل الخاص الذي أصاب المنظومة التعليمية والفكر العلمي الذي تنتجه، كما سيأتي.

لذلك فالحل هو: “إثبات أننا وارثو الأرض الحقيقيون بفهم الإسلام، مصدرنا الكافي لانبعاثنا المادي والمعنوي، كما هو في أصله، ثم بالانخراط في جموع عباد الله الصالحين: السالمين المتدينين عاطفة وفكرًا وحسًّا وشعورًا وإرادة، الثابتين القائمين على إعلاء كلمة الله، المنظَّمين في حياتهم العلمية… الموثوقين في سلوكيات العمل، المستقرين في شخصياتهم، القادرين على دحر نوازعهم النفسانية، الموفقين إلى ارتفاق القلب والعقل”.

فإن شئت تحديدًا لمقومات مفهوم الإيمان الذي هو صفة لازمة لوراثة الأرض، فإن الأستاذ فتح الله كولن يرى أن هذه المقومات تتمثل في:

المقوم الأول: اشتماله على الأفق العرفاني بما يمثله من روح المحبة وبُعدَي العشق والشوق وألوان لانهائية من الأذواق الروحية، فضلاً عن الجهد الفكري والتفكري. ولكي يبعد الأستاذ كولن عن هذه العبارة أي فهم صوفي فلسفي متطرف يجمع في نفس السياق بين الإيمان والتفكر فالإنسان: “مكلَّف ببناء عالمه الإيماني والتفكري بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود حينًا، وبالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته حينًا آخر. ويعني هذا في الوقت عينه ظهور الحقيقة الإنسانية الكامنة في روحه”. أي أن شرط معرفة الإنسان لذاته ولحقيقة الوجود من حوله لا يتحقق إلاّ “في ضياء الإيمان”.

لهذا يقول الأستاذ كولن: “لقد أرهق الغرب نفسه لملء فراغ جوهر لم يعرفه أساسًا، فحاول سد الحاجة نسبيًّا بالالتجاء إلى الروحية (MySticism)، أما نحن فلسنا بحاجة إلى التفتيش عن شيء أجنبي أو اللجوء إلى أي شيء لعالمنا المتمازج بروح الإسلام على مدى الزمان. إن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا الفكرية والإيمانية”.

المقوم الثاني: تفاوت الإيمان وامتداده. فالإيمان يتفاوت ويتدرج من حالة الترابية والضياع كما تقدم، وهي حالة “الرميم المتخلف من التاريخ”، إلى حالة العمق الراسخ والكمال، التي هي حالة وارث الأرض. ثم هو إيمان ممتد في كل كيان الفرد الفكري والنفسي، وكل جزئيات حياته اليومية، وتتبدى ثماره في كل أنشطة المجتمع المسلم. وجلي أن قول الأستاذ فتح الله كولن في الإيمان هنا يتأسس على عقيدة إسلامية أصيلة: وهي أن الإيمان درجات، وأنه يزيد وينقص، وأن الإيمان الحق تصديق وقول وعمل: ينطلق من القلب فتظهر ثماره يانعة على الجوارح. أو كما يقول الأستاذ فتح الله كولن وهو يبين علاقة الفكر بالحركية، والإيمان بالعمل في حياة المرشدين الممثلين الوارثين: “ينثر احتضان الإيمان والعقل ثماره في كل صوب، وينبت ويزدهي المستقبل في صدر الأماني والآمال والعزم بألوان وأفنان لا يضاهيها خيال “المدن الفاضلة”، وتنشر التلفزيونات والراديوهات والصحف والمجلات في جو الفضاء، الفيوضات والبركة والنور، ويرتشف الكوثر كل قلب سائح في ربيع الجنة هذا، ما خلا الذي كالرميم المتخلف من التاريخ”.

إن هذا الامتداد يتناغم مع امتداد مفهوم الوراثة الذي يتعدى وراثة الأرض إلى وراثة الكون كله، إذ “لن تنحصر هذه الوراثـة بالأرض وحدها… ذلك بأن مَن يـرث الأرض ويحكمها، يحكم عمق الفضاء والسماء أيضًا. إذن هي حاكمة في الكون كذلك”.

المقوم الثالث: القوة وهي صفة تناسب ما يسميه الأستاذ فتح الله كولن “إنسان الإيمان” الذي يستشعر طبيعة أصله ومصيره ووظائفه ومسؤولياته، و “يرى كل شيء نورًا وضياءً، ويطأ قدمه من غير قلق أينما يطأ، ويسير نحو هدفه بلا خوف وفي ثقة”. فيعطيه هذا الشعور قوة تنشطه في المسير، ويكون “سائح الإيمان” الذي تتناسق حركته مع حركة الكون كله. يقول الأستاذ فتح الله كولن:

“يُعد سائح الإيمان مكتشفًا لمصدر مهم للقوة. هذه الخزينة والذخيرة التعبوية، العائدة للأبعاد الأخرى، والمرموز لها بـ”لا حول ولا قوة إلا بالله”، لتبلغ من الأهمية موقعًا يلغي حسّ الحاجة إلى مصدر غيره عند من يحوز على هذا المصدر للقوة، وعلى هذا النور. فإنه لا يرى إلا “هو” سبحانه، ولا يعرف إلا “هو”، ولا يفر إلا إليه “هو”، ولا يحيا إلا متوجهًا إليه هو”؛ فيستطيع تحدّي كل القوى الدنيوية بقدر عمق معرفته واعتماده على الله، ويعيش في شوق، ولا يقع في التشاؤم والسوداوية حتى في أشد المواقف سلبية، مع أمل القدرة على النجاح في كل شيء”.

الكمال، والتفكر، والقوة: هي إذن: ثلاثية المدخل الإيماني إلى وراثة الأرض.

يلزم لوراثة الأرض السعي الجـاد في الصالحات ابتداءً. بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسـنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه.

الصفة الثانية، العشق: وهو أعلى درجة في المحبة. وقد ورد ذكره في المقالات الثلاث 12 مرة. ويلاحظ من سياقات استعماله الخصائص المفهومية التالية:

أ- أنه يشكل بُعْدًا من أبعاد الإيمان الحقيقي. فالإيمان الكامل كما يضعه القرآن العظيم يشتمل في نظر الأستاذ فتح الله كولن على “الأفق العرفاني وروح المحبة وبُعدَي العشق والشوق وألوان لانهائية من الأذواق الروحية”. كما أن “من يُعَمِّر ويجهِّز قلبه بالإيمان بالله وبمعرفته، يحس حسب درجته بمحبة عميقة وعشق أصيل”. وأخيرًا يتحدث الأستاذ فتح الله كولن عن سائح الإيمان فيصفه بأنه “يعيش في شوق، ولا يقع في التشاؤم والسوداوية حتى في أشد المواقف سلبية، مع أمل القدرة على النجاح في كل شيء”.

بـ- أن العشق أتى في خمسة مواضع مقترنًا بمفهوم الشوق أو واردًا في سياقه، كما لم يرد مفهوم الشوق إلا مقترنًا بالعشق أو مستعملًا في سياقه، باستثناء موضع واحد، ولكنه ورد فيه مصاحبًا للإيمان الحق. والخيط الواصل بين المفهومين هو الروحانية التي عبر عنها الأستاذ فتح الله كولن بألفاظ متعددة مثل: المواجد والجذب والانجذاب والذوق.

فهل يهدف الأستاذ فتح الله كولن بهذا الأفق العرفاني للشوق، أن يحمله المعاني الصوفية الفلسفية، التي استهجنها علماء الإسلام قديمًا، والعلماء المجددون في كل عصر؟

صحيح أن الأستاذ فتح الله كولن يحيلنا إلى أعلام كالغزالي والسرهندي والشاه ولي الله الدهلوي وبديع الزمان النورسي، وجلال الدين الرومي والشيخ غالب ومحمد عاكف، ولكنه لا يطلب من ورثة الأرض إلا الإفادة من إخلاصهم وحماسهم، شريطة التمسك بالمحجَّتين البيضاوين: الكتاب والسنة، وأن “يتوجهوا بإيمان وحركيةِ خالد بن الوليد وعقبة بن نافع وصلاح الدين ومحمد الفاتح وياووز سَليم…”. وتلك مجرد خطوة أولى، “وخطوتنا الثانية هي أن نمزج عشقهم وشوقهم العجيب -غير المقيَّد بالأزمنة والأمكنة كلها- بأساليب واحدة، لنصل إلى روح القرآن الذي لا يحده زمان ولا يبلى، وبالتالي إلى ميتافيزيقية كونية. لذلك “يلزم لوراثة الأرض السعي الجـاد في الصالحات ابتداءً. بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسـنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه”.

لذلك ينكر على الفكر الصوفي كما تمارسه الزوايا والتكايا، لأنهم استبدلوا بذلك العشق الإيماني الأصيل، تَسلّيًا بقراءة مناقب الأشخاص.

جــ- إن العشق الأصيل -كالإيمان- له امتداد وشمول، حيث يستغرق الوجود كله. ويتضمن ذلك بالطبع العشق الإلهي، وبيان ذلك عند الأستاذ فتح الله كولن من زوجية الفكر والحركية:

ففي الجانب الفكري: يرى الأستاذ فتح الله كولن أن التجربة يجب أن تمر من مصفاة العقل، والعقل يجب أن يسلّم نفسه للفطنة العظمى، والمنطق ينبغي أن يقع في حال الحب عينه، والحب ينبغي أن ينقلب إلى العشق الإلهي. فبهذا النظر يكون العلم بُعْدًا من أبعاد الدين وخادمًا لـه، والعقلُ طيفَ نور يصل به الإلهام أينما يشاء، والمكتسبات التجريبية منشورًا يعكس روح الوجود… ويصدح كل شيء بصوت أناشـيد المعرفة والمحبة والذوق الروحاني.

وفي الجانب الحركي: يرى الأستاذ فتح الله كولن أن العشق “يُعد أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد” وأننا “بحاجة في الحاضر إلى أن تفيض القلوب من العشق، وأن تطفح من الشوق، في فهم جديد وطريّ، لتحقيق انبعاث عظيم؛ فما من حركة أو حملة باقية باعتبار نتائجها، من غير العشق… وخصوصًا إن كانت الحركة أو الحملة ذات امتداداتٍ إلى العقبى وأبعاد ما وراءها”. إذن بهذا السبب اعتبر الأستاذ فتح الله كولن تجديد الحركة التاريخية للمسلمين إقامة لصرح الروح، ووصَف الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية هذا التجديد بأنهم “أطباء المعنويات القادرين على تشخيص بؤسنا الداخلي والخارجي ومداواته”. ومرشدون صادقون مشدودون إلى الأخرويات من غير انقطاع (أنفاسهم). لأن هذا التجديد الحركي الشامل “يرتبط أولًا وقبل كل شيء بالابتعاد عن أثقال النفسانية ودوافعها كافة، والانفتاح على الروحانية، والنظر إلى الدنيا والعلم بها كصالة انتظار إلى الأخرى”.

فالعرفان والشوق والشمول: مداخل العشق الأصيل عند الأستاذ كولن.

يعتبر الأستاذ كولن الرياضيات مصدرًا للنور. لا بالمعنى الديكارتي العقلي الجاف، بل بالمعنى الروحي الشامل: فهي تُضيء طريقنا في الخط الممتد من الكون إلى الحياة، وتُرينا ما بعد أفق الإنسان.

الصفة الثالثة، العلم: وهو أكثر المفردات تكرارًا في المتن المدروس، حيث وردت 41 مرة بصيغه الاشتقاقية المختلفة، ولم يأت منها ما هو متعلق بالعلم الإلهي إلا واحدًا، كما لم يأت منها في صيغة الفعل إلا واحدًا. وقد يعلل هذا العدد الكثير من الموارد بأن وراثة العلم كما أشرنا أعلاه قد خصها القرآن الكريم بعناية خاصة، وجعلها أهم ميراث للأنبياء والصالحين. والحقيقة أن هذه الموارد التي استعمل فيها الأستاذ فتح الله كولن لفظ العلم ومشتقاته، تقدّم تصورًا تجديديًّا مهما لنظرية العلم والمعرفة العلمية في الإسلام، ولنظرية التعليم وتطبيقاتها في الحضارة الإسلامية، في أفق توضيح الطريق أمام وارثي الأرض، ليملؤوها علمًا صحيحًا وتعليمًا راشدًا.

ملاحظات في نظرية العلم والمعرفة العلمية

أولًا: إن “العلم بُعْدٌ مِن أبْعاد الدين كما يقول الأستاذ فتح الله كولن، ومنه فلا وجود لصراع بين المعرفة العلمية وطبيعة الدين. (وفي كل مكان يسير الدين مع العلم يداً بيـد).

ثانيًا: إن وسائل المعرفة العلمية متنوعة ومتعاونة، فلا انفصام بين التجربة والعقل والمنطق والعرفان، بل تتضافر كلها في حياة وارث الأرض على بلوغ الحقائق وتفعيلها.

ولذلك يُصدّر الأستاذ فتح الله كولن هذه الصفة من صفات وارثي الأرض بقوله: “الوصف الثالث لوارث الأرض هو التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والوجدان”، ويعلل الأستاذ فتح الله كولن هذا الشمول والتنوع في مصادر المعرفة ووسائلها بمفهوم القراءة، قراءة الكتاب المنظور (وهو الوجود) وقراءة الكتاب المسطور (وهو القرآن العظيم)، كما سيأتي بيانه بإذن الله.

ثالثًا: الدقة والنسبية: فوارث الأرض حين يمارس سياحته الإيمانية لا يكف عن التدقيق في البحث في كل شيء في الوجود. إنه كما يقول الأستاذ فتح الله كولن: “يُنَقّب خمسين ألف مرة عن الوجود وما وراء ستار الوجود، ويرشّح الأشياء والحوادث خمسين ألف مرة في الإنْبِيْق(2)، ويصر على طرْق كل باب، ويبحث عن وشائج المناسبة مع كل شيء” فإذا وجد نفسه عاجزًا عن إدراك أمرٍ ما وهو سائر في طريق البحث المدقق المنقب، فإنه لا يكسل ويتراجع، كما لا يتنطع ويدعي ما ليس له، بل “يكتفي بالحقائق التي رآها وعرفها في وجه التحقيقات التي استحصلها هو أو غيره حتى ذلك الحين، ثم يواصل المسير”، وهذه هي الأخلاق العلمية التي تقوم على التواضع والاعتراف بالقصور والنسبية مع الإصرار على الاستمرار في طلب العلم والبحث العلمي.

رابعًا: بناء مجتمع العلم: فالتوجه إلى العلم بهذه الخصائص فيه خلاص للبشرية جمعاء، في الوقت الذي انجرفت فيه وراء فرضيات غامضة مظلمة. إن الدخول إلى عصر العلم يعني أن تستمد الجماعة الوارثة للأرض قوتها البنائية من العلم، بعد أن صار العلم كما يقول الأستاذ فتح الله كولن استنادًا على النورسي: يمتلك الحكم والقوة. إن هذا يعني عودة عصر العلم والبيان من جديد. إن بناء مجتمع العلم يتطلب منا:

– إمرار العلم من منشور الفكر الإسلامي، وتمثيله عمَليًّا والإفادة عنه بشتّى الوسائل.

– توقير رجال العلم.

– توحيد التوجهات والأهداف.

– عدم الخلط بين المعلومة والعلم، فالعلم بالأشياء المتعلقة بالرياضيات لا يعني أن العالِم بها رياضي.

– عدم الخلط بين العلم والفلسفة. حيث يشن الأستاذ فتح الله كولن هجومًا قويًّا على الفلسفات الغربية التي اكتسحت عقول الشباب وصارت ألعابًا يُتسلَّى بها ويتصارع عليها، مثل الماركسية والدوركهمية واللينينية والماوية، منقسمين إلى معسكرات شتّى، بدلاً عن اللحاق بالعصر بعلمهم وفنهم وتقنيتهم.

– ضرورة الانفتاح على العلم والبحث العلمي واستشعار التوافق بين القرآن وسنّة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة. وهذا عمل لا يمكن أن يقوم به إلا “أولو العزم من العباقرة”، وبما أن العلوم اليوم شهدت توسُّعًا كبيرًا جدًّا في التفريعات بحيث يعجز الفرد الفريد عن حمل العبء فيه مهما كان عبقريًّا، فقد حلّت الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محل الدهاء العبقري. أي لابد من “جماعة علمية” تفتح الطريق نحو مجتمع علمي. لذلك فمن خصائص ورثة الأرض أنهم منظمون في حياتهم العلمية كما يقول الأستاذ فتح الله كولن.

كل من تمثلت فيه خاصية الإيمان بأوصافها الإيجابية كان بحق منتسبًا إلى وارثي الأرض، وأما من ضعف الإيمان في قلبه فقد حرم من شرف الانتساب إلى ورثة الأرض.

إذن “لا بد من تحقيق تجددنا الذاتي ونهضتنا (Renaissance) عن طريق تلقيح عقول شبابنا بالتفكير العلمي، وذلك سيؤدي إلى تفاعلهم واندماجهم مع الفكر والعلم، كما فعَلنا

تشخيص الخلل وطريق إصلاحه في نظرية التعليم وتطبيقاتها

أما في نظرية التعليم وتطبيقاتها في الحضارة الإسلامية: فإن الأستاذ فتح الله كولن يخصص فقرات مهمة يوجز فيها وضعية هذا التعليم وطريق الخروج من أزمته. ويتضح ذلك من خلال أمرين:

الأمر الأول: تشخيص الخلل: فالخلل في تاريخنا القريب يتلخص في فكرنا العلمي ونظامنا التعليمي الذي اقترف رجال التغريب إجرامًا حقيقيًّا في حقّه، حيث وقع تزلزل في توقير رجال العلم، وتشتت في التوجهات والأهداف، واختلاط المعلومة بالعلم، والعلم بالفلسفة. واستفاد الأجانب المقيمون في بلادنا من هذا الفراغ فائدة جمة، فافتتحوا المدارس بنشاطٍ في كل زاوية من زوايا الوطن، ولقّحوا أجيالنا باللّقاح الأجنبي من خلال أعشاش التعليم. وتطوعت شريحة منا لتمكين خير أبناء الوطن استعدادًا وقابلية، من شغل مقاعد الدراسة فيها، بل حتى بتقبيل الأيدي والأرجل، ليزيدوا في السرعة المطردة للتغريب. وكانت النتيجة، أن سلمت لهذه المدارس الأدمغة الطرية بلا توجّس أو قلق، لتقدم لها الثقافة الأمريكية والأخلاق الفرنسية والعادات والأعراف الإنكليزية، وألعاب الإيديولوجيات الفلسفية التي شتتت الشباب عن العلم والتفكير العلمي الذي يجمعهم على البناء. ثم كان من الأعراض الخطيرة للخلل تلطيخ اسم الدين وأهل الدين، وتشهير أنواع الجنون الغربي أمام الأنظار.

ومن أعراض الخلل أيضًا: أنَّ مؤسسات التعليم فعلت نفس ما فعلته الأسرة والشارع وأوساط الفنون، حيث نفخت في أرواحنا الأفكار الشاذّةَ والموازين الفاسدة، فقلبتْ رأسًا على عقب كل شيء، وصارت الأنانية أساس التفكير والتخطيط بدل المبدئية والجماعية. وبالتالي: حلت القوة محل الحق والإرادة والفكر الحر.

تلك أعراض مرتبطة بالنظام التعليمي التغريبي، ولكن ثمة أعراض ترتبط بالنظام التعليمي التقليدي المدرسي أيضا: “ذلك لأن التعليم التقليدي لم يزد على ترداد مسلماته الثابتة، والمدرسة التقليدية أطلَّت على الحياة من حافاتها وأطرافها، والتكيّة (الزاوية) دفنت نفسها في الوجدانيات تمامًا، والثّكنة أظهرت القوة وحدها وزمجرت بالقوة وحدها… في تلك المرحلة، هيمنت الفلسفة المدرسية (ScholaStic) على التعليم التقليدي ولم يُتنفس إلا هواءها، وعاشت المدرسة التقليدية مشلولة لغلق أبوابها بوجه العلم والفكر والحرمان من قوة الإبداع والإنشاء… وفي خضم ذلك، انقلب كل شيء رأسًا على عقب، وانقعلت شجرة الأمة لتهوي على الأرض…”

الأمر الثاني: إصلاح الخلل: لابد من وجود من يسميهم الأستاذ فتح الله كولن بـ “عمّال الفكر الذين يكُدّون لبناء مستقبلنا”. وهم القادرون على إنجاز المهمة التاريخية المتمثلة في تحقيق تجددنا الذاتي ونهضتنا (Renaissance) عن طريق تلقيح عقول شبابنا بالتفكير العلمي، وهم بذلك يجددون في الوظيفة الحقيقية للنظام التعليمي، وذلك جزء لا يتجزأ من حركة الإعمار والإحياء التي يحملونها على عاتقهم. لذلك يرى الأستاذ فتح الله كولن أن هؤلاء كانوا وراء أيام العمران المديدة حتى اليوم، وسيكون هؤلاء ممثلين لحركات الإعمار والإحياء الآتية غدًا. وسيتحقق هذا التمثيل باستنباط نظريات حقوقية جديدة من مصدري الكتاب والسنة لمعالجة المستحدثات والتوقعات المستقبلية، وتزيين أفكارهم بآراء العالم الجديد.

فالدين والتكامل والدقة أبعاد أساسية للمعرفة العلمية المطلوبة في الجماعة الوارثة.

إن الدخول إلى عصر العلم يعني أن تستمد الجماعة الوارثة للأرض قوتها البنائية من العلم، بعد أن صار العلم كما يقول الأستاذ فتح الله كولن استنادًا على النورسي: يمتلك الحكم والقوة.

الصفة الرابعة، المراجعة والتقويم: ورد هذا المصطلح لفظًا ثلاث مرات فقط، ولكنه ورد مفهومًا عِدَّة مرات من خلال مفاهيم اصطلاحية أخرى تتقاطع معه دلاليًّا في متن الأستاذ فتح الله كولن المدروس هاهنا. ومن أهمها مفهوم القراءة، ومفهوم المطالعة. ويحدد الأستاذ فتح الله كولن معنى هذه الصفة من صفات وارث الأرض بقوله: “هو إعادة النظر في قراءته للكون والإنسان والحياة، وبالتالي مراجعة تصوراته الصحيحة منها والخاطئة”.

ويقسم الأستاذ كولن هذه الصفة إلى عناصر ثلاثة:

العنصر الأول، القراءة: ويعني بها الأستاذ فتح الله كولن القيام بمطالعة مزدوجة لكتاب الله المسطور، وهو القرآن الكريم الذي هو “بيان الله سبحانه النابع من صفة الكلام الجليلة”، ومطالعة كتاب الله المنظور، وهو الكون والإنسان والحياة، لأن “الكون كتاب فتحه الله تعالى أمام العيون ليراجَع باستمرار. وكل من الكتاب المسطور والكتاب المنظور ينطق بحقيقة واحدة، ينبغي على وارث الأرض استكشافها، ورؤية طرق التوافق والانسجام فيها، ويعمل بمقتضاهما: “فالله سبحانه وتعالى يكافئ مَن يدرك كلا الكتابين ويحوّل ذلك الإدراك إلى واقع عمَلي، ثم ينسج حياته كلها على هذا المنوال؛ بينما يعاقِب مَن يهملهما ويتغاضى عنهما بل ولا يفسرهما تفسيرًا صحيحًا ولا يحولهما إلى واقع”.

العنصر الثاني، القيم الإنسانية: فالمراجعة تقويم لإنسانية الإنسان، بحيث لا ينبغي تقويمه برصيده المادي، وإنما برصيده من القيم الإنسانية، أي “بالتحري عن الأعماق الإنسانية الحقيقية في الشعور والفكر والشخصية”.

العنصر الثالث، الشرعية والحق: إذ ينبغي أن يكون الهدف مشروعًا وحقًّا، وأن تكون الوسائل الموصلة إليه شرعية وحقَّة. ويقرر الأستاذ فتح الله كولن أن الوسائل الشرعية ضدها الوسائل الشيطانية. وعليه، “لا يمكن خدمة الإسلام وتوجيه المسلمين إلى مراميه الحقيقية بوسائل شيطانية ألبتة”. فالغاية لا تبرر الوسيلة أبدًا.

إن مفهوم المراجعة ينفتح على دلالتين: الدلالة الأولى، دلالة العودة: فلابد من العودة إلى الكتاب مسطوره ومنظوره بحثًا عن الانسجام، وتوجيها للعمل كما تقدم. وهذه دلالة جلية من سياقات استعمال اللفظ، ومن قول الأستاذ فتح الله كولن بصراحة: “هاتان المحجَّتان البَيضاوان، هما لأرباب القلوب منبع العشق والشوق ومَنْجَم الجذب والانجذاب. فلن يعود خاليًا من يراجعهما بصفوة الحس وحافز الاحتياج، ولن يموت أبدًا من يلجأ إليهما”.

الدلالة الثانية: دلالة التصحيح: إذ الهدف من هذه العودة المستمرة إلى مطالعة الكتابين، هي تصحيح أخطاء الذات وتعديل السلوك، وهذا بين مما تقدم في تعريف الأستاذ فتح الله كولن لهذا الوصف الرابع لوارثي الأرض، حيث استعمل لفظ المراجعة مضافًا إلى التصورات الصحيحة والخاطئة (مراجعة تصوراته الصحيحة منها والخاطئة).

القراءة والقيم والشرعية (الحق): هي العناصر المفهومية للمراجعة.

الصفة الخامسة، حرية التفكير: يرى الأستاذ فتح الله كولن أن الوصف الخامس للوارث، هو أن يكون حرًّا في التفكير وموقِّرًا لحرية التفكير. وقد ورد لفظ الحرية 10 مرات؛ وقد جاء نصف هذه الموارد موصولاً بالفكر أو التفكير، مما يدل على أن الحرية مفهوم شامل، وقيمة إنسانية ضرورية لبناء صرح الروح من جديد. وهذه أولى الملاحظات. فإنسانية الإنسان رهينة بتذوقه حس الحرية. ومتى فقدت الحرية ضعفت الشخصية وتراجعت القدرة على التطور والتجديد، وحلّت الأنانية محل التفكير الجمعي المبدع والقوة محل الحق والإرادة والفكر الحر. وليس المقصود بالحرية عند الأستاذ فتح الله التحرر من قهر الجماعة الجائرة فقط، بل كذلك تحرير الروح من قيود المادة والشهوات. إذن “فالحاجة ماسة اليوم إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر، وتنفتح على العلم والبحث العلمي، وتستشعر التوافق بين القرآن وسنّة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة”.

صفات وارثي الأرض، وهي الإيمان الحقيقي، وما يصاحبه من علم وعشق ومراجعة ذاتية وحرية وجماعة مبدعة ورؤية فنية يجب أن تظهر في حركة تاريخية يستعيد فيها وارثو الأرض أصلهم الضائع منذ قرون.

الصفة السادسة، الشعور الجمعي المسؤول (الجماعة المبدعة): وهو ما عبر عنه فيما تقدم بالشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي. وهذه أهم عناصر البعد الحركي في بناء الأمم والحضارات.

إن مفهوم الشعور الجمعي أو الوعي الجمعي لا ينحصر في المعنى الدوركايمي الضيق الذي يكون فيه الفرد تابعًا في تصوراته وسلوكياته لإكراهات الجماعة، مهما كانت قيمها منحطة ومنحرفة. بل إن مفهوم الجماعة أوسع من ذلك في نصوص الأستاذ كولن. تبتدئ من نواة أولي العزم الصالحين، وتمتد صعودًا حتى تصل إلى الكون كله. وبين المرتبتين مراتب من المجموعات والفئات التي يقترب مجموع تصوراتها وقوانينها من الشريعة الفطرية فترشد، أو تبتعد عنها فتنحرف بدرجات متفاوتة أيضًا. ولقد ورد لفظ الجماعة بمشتقاته وتصاريفه عشرين مرة، ولما كانت الوراثة وراثة للأرض والكون كله، كان مفهوم الجمع يمتد أيضًا من هؤلاء الورثة الذين وصفوا في الآية الكريمة بالصالحين إلى الكون كله، في انسجام وتوافق مع الخلق “أجمعين” الذين يسجدون لله تبارك اسمه، وهذا التكامل أو التوافق مع سنن الكون هو من أهم مقومات التصور الإسلامي للإنسان الصالح. إذن فالوجود الإنساني الحقيقي تبدأ دورته من هذه المجموعة الصالحة التي أخذت الخلافة بالتمثيل لا بغيره، فاندفعت جذورها في أعماق الكون، ومنها ارتفعت شجرة الصلاح لتمتد في آفاق الكون إلى الآخرة. وقوام جمعها الصالح اجتماعها على ما يسميه الأستاذ كولن بالشريعة الفطرية، وهي ناتجة عن مجموعة من التصورات والمبادئ المأخوذة من مجموعة من القوانين الإلهية المأخوذة من كلام الله عز وجل. ويبدأ الانحراف في الجماعات البشرية بالتخلي جزئيًّا أو كليًّا عن هذه الشريعة الفطرية، وبالتنازل جزئيًّا أو كليًّا عن تجلياتها في التصورات والمبادئ التي يحملها الناس، فيؤدي ذلك إلى تراجع الجماعة المسلمة وتآكل كيانها وتراجعها عن قيادة العالم، وتجنح إلى التفريط في خاصيتها التمثيلية، أعني عن الوراثة الحقة.

لنقرأ النصين التاليين: “لقد وعد الله بإرث الأرض للصالحين من عباده… وهم ممثلو الروحية المحمدية والأخلاق القرآنية، المنشغلون بالاتحاد والاجتماع، المدركون لأحوال عصرهم، المسلحون بالعلم والفن، المقيمون لميزان الدنيا والعقبى. الحاصل، هو وعد لعقبان الروح وللمعنى الذي يدورون به في مدار نجوم السماء النبوية، وسادتنا الصحابة الكرام. إنه سنة الله…فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً(فاطر:43) سنّة ثابتة “وشريعة فطرية” لن تتغير”.

“فيلزم لوراثة الأرض السعي الجـاد في الصالحات ابتداءً. بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسـنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه. ولنتذكر دائمًا أن المجتمعات التي لا تلتفت إلى “الشريعة الفطرية” المتجلية من “القدرة” و”الإرادة”، وإلى “مجموعة” القوانين الإلهية الظاهرة من صفة “الكلام” في الكائنات، وإن الأمم والشعوب التي تتعرض إلى التبدّل داخليًّا في حياتها المعنوية، مصيرها إلى الخذلان غدًا، مهما كانت ظاهرةً اليوم. هو ذا التاريخ -وما أشبهه بمقبرة للأمم المنقرضة-يصرخ عاليا بصوت الحقيقة: إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(الرعد:11).

“فلنسعَ مرة أخرى في إثبات أننا وارثو الأرض الحقيقيون بفهم الإسلام، مصدرنا الكافي لانبعاثنا المادي والمعنوي، كما هو في أصله، ثم بالانخراط في جموع عباد الله الصالحين: السالمين المتينين عاطفة وفكرًا وحسًّا وشعورًّا وإرادة، الثابتين القائمين على إعلاء كلمة الله، المنظَّمين في حياتهم العلمية… الموثوقين في سلوكيات العمل، المستقرين في شخصياتهم، القادرين على دحر نوازعهم النفسانية، الموفقين إلى ارتفاق القلب والعقل”.

والقاعدة العامة هي: “نحن نلخص خط كفاحنا كورثـة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا الحقيقي لا يتم إلا عبر الحركية والفكر… حركية وفكر قادران على تغيير الذات والآخرين. والواقع أن كل كيان ثمرة حركة ومجموعة من المبادئ والتصورات، كما أن بقاءه مرتبط باستمرار هذه الحركة وتلك التصورات”.

أما كيف ذلك؟ فالجواب عند الأستاذ كولن هو: “لذلك، ينبغي أن يستشعر وارثو الأرض الذين يخططون لإقامة عالم المستقبل، نوعَ العالم الذي يريدون إقامته، ونوع الجواهر اللازم استعمالها في إعمار هذا العالم.. حتى لا يضطروا هم بأنفسهم إلى هدم ما بنوه بأيديهم من قبل. إن جذور المعنى وأصول الأسس لألف سـنة من حياتنا -نحن- معلومة ومعروفة. وعلى مهندسي مستقبل الضياء أن يجهدوا في استخدام قوتهم الفكرية -إلى جانب دوافعهم الحركية- من أجل أن تنصت المحركات التاريخية التي ننشئ بها حياتنا الدينية والوطنية إلى صوت الإسلام كَرّة أخرى، وتلتقط زاوية نظره وتجس نبضه وتستمع إلى وجيبه، بالاستفادة القصوى من المرونة والامتداد العميق، والعالمية في إعلاء بناء هذه المحركات مع الحفاظ على الكتاب والسنة وصَوَافي اجتهادات السلف الصالح، وحسب مدارك العصر وأسلوبه”.

إن الخطوة السادسة لورثة الأرض أنهم ينشرون الفهم الصحيح في المجتمع المسلم لربطه دومًا بمصدر القوة والإبداع في حياتهم: القرآن والسنة. ثم التحرك على هذا الأساس الفكري السليم، حركة اجتماعية حضارية صالحة لبناء الحضارة الإنسانية الصالحة التي تنسجم وتتوافق وتتناسب مع هذا الكون الساجد لله تبارك اسمه. وهذا التناسب هو ما يلفت النظر إلى الخصلة السابعة.

القانون (الشريعة) والمسؤولية والصلاح: أبعاد الشعور الجمعي عند الأستاذ كولن.

لابد من “جماعة علمية” تفتح الطريق نحو مجتمع علمي. لذلك فمن خصائص ورثة الأرض أنهم منظمون في حياتهم العلمية كما يقول الأستاذ فتح الله كولن.

الصفة السابعة، الفكر الرياضي: وردت كلمة الرياضيات 10 مرات في النص. 9 منها في مقال “ونحن نقيم صرح الروح” في مقال، وواحدة في الحركية والفكر. وليس غريبًا أن يكون الاشتغال بالفكر الرياضي جزءًا من عملية البناء، لأن هذا العلم على الخصوص حظي باهتمام خاص من قبل المسلمين. فهو علم حاضر في كل تفاصيل العقيدة والشريعة عند المسلمين، فالله سبحانه “أحصى كل شيء عددًا”، والقرآن الكريم ذكر أصول الأعداد كلها، صحيحها وكسورها، وعلم الفقه لا يستغني عن النظريات الرياضية وعملياتها الأساسية في حساب الوصايا وحل أعقد أمورها بالكسور والجبر، وكذا في مسائل الزكاة، فضلا عن الحاجة إليها في المعاملات المدنية من بيوع وشراء ووزن العملات ونحو ذلك. ويعلل الأستاذ كولن الحاجة إلى الفكر الرياضي تعليلًا تاريخيًّا وفكريًّا:

أ- فمن الناحية التاريخية: كانت الرياضيات عند كل الأمم أساس النهضة، ويضرب لذلك مثال الأمم القديمة في آسيا، ومثال الأمم الغربية الحديثة. فلقد “كشفت الإنسانية في تاريخها كثيرًا من المجاهيل والمغلقات بعالَم الرياضيات المفعم بالأسرار”.

بــ- ومن الناحية الفكرية: تعتبر الرياضيات أفضل طريق لإدراك التناسب أو المناسبة بين البشر وبين عالم الأشياء. ونحن نعلم أن مفهوم النسبة أو التناسب من أهم نظريات الرياضيات. تُعلِّمنا الرياضيات ألا مكان للعبث والصدفة العمياء في هذا الكون، وأن كل دقيقة من دقائق الزمان والمكان والأحداث تسير في حركة منضبطة. ومن ثم فحركة الإنسان يجب أن تتأسس على النظام لا على الفوضى، ولهذا السبب خصص الأستاذ مقالتين لمفهوم النظام في هذا الكتاب، يحتاجان لوقفة خاصة.

مهمة الرياضيات -على هذا المستوى الفكري-توضيح الأشياء، لأن الرياضيات يعتبرها الأستاذ كولن مصدرًا للنور، لا بالمعنى الديكارتي العقلي الجاف، بل بالمعنى الروحي الشامل: فهي على حد قوله “كمصدر نور تُضيء طريقنا في الخط الممتد من الكون إلى الحياة، وتُرينا ما بعد أفق الإنسان، بل أعماقَ عالَم الإمكان الذي يعسر إعمال التفكير فيه، وتوصلنا إلى غاياتنا”. فنحن نعلم أن الرياضيات تشتغل في المجرد، وتطير بك في عالمٍ من الكائنات الرياضية اللامتناهية، لِتُعلِّمك أن عالم الإمكان ليس محدودًا بقيود الجسمانية، وأثقال المادة المباشرة الصمّاء، وأن الفكر الإنساني له من الآفاق والإمكانات حظٌّ وافرٌ يمكنه من التحرر من تلك الأثقال، فيشعر أنه يسمو إلى اللانهاية. إن الرياضيات تقربنا من جلال الله ونوره. بقدر ما تُعلمنا من الانسجام والتوافق مع الكائنات الأخرى.

وهو أمر عظيم، ولهذا زاغ فيه الزائغون من المتصوفة بطريقين:

الطريق الأول: التصرف المفرط للحروفيين كما يقول الأستاذ كولن، لأنهم خلطوا عملاً صالحًا وآخر طيبًا. لقد مزجوا الرياضيات بأعمالهم السحرية. ولكن ورثة الأرض -وهم أهل الصلاح- يحيون بفكرهم الرياضي بين إدراك جمالية الإحساس بالتناسب مع الكون، وجلال النور الإلهي العظيم الذي يحرر المسلم من ضيق المادة إلى سعة الفكر والروح.

الطريق الثاني: النقص الحاصل بسبب رياضية الأوراد والأذكار: ويدعو الأستاذ كولن إلى إصلاح هذا النقص “بتعميق الكمية في عباداتنا إلى النوعية، وبإطلاق النقص الحاصل في رياضية الأوراد والأذكار إلى الآفاق اللامتناهية بالنية والخلوصية، وبالمعرفة والاعتبار واليقين في دعواتنا ومناجاتنا وبثنا إلى الذات الإلهية الأقرب إلينا من أنفسنا”. أي ليس المهم في هذه الأوراد الجانب الكمي العددي فقط، بل معانيها الباطنية الروحية. ومناط كل ذلك العودة إلى مصادر طاقتنا، وهي على حد قول الأستاذ كولن: “موجودة في منظومتنا الفكرية والإيمانية. فالمفيد أن نحيط فهمًا بهذا المصدر والروح كما هو في ثَرائه الأوّل”.

التوضيح والتناسب والنظام: هي السمات التي تجعل من العقل الإسلامي أجدر العقول بالتفكير الرياضي.

يتميز كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” للأستاذ فتح الله كولن، بالكثافة العلمية الشديدة، بسبب حجم الغاية التي يتوخاها، وهي “إقامة صرح الروح”؛ أي إعادة صناعة حضارة راشدة، وصِغَر المساحة التي خصصها لذلك.

الصفة الثامنة، الرؤية الفنية: وهو وصف لا يطيل الأستاذ كولن فيه ضمن حديثه عن هذه الصفة بالذات، حيث يقول: “بناءً على ملاحظات معيّنة، أكتفي هنا بقول جولفر: “بعض الأوساط ليست على استعداد حتى الآن للانخراط في هذه المسيرة بمقاييسنا”. ولكن القراءة المتأنية لموارد اللفظ في هذا المتن المدروس، تبين أنه ذكره بنفس العدد المخصص للفكر الرياضي: أي 10 مرات. وهذا العدد، وإن لم يكن مقصودًا من قِبَل الأستاذ كولن، ولكنه يدل على التوازن العميق في ذهنه بين العلم الرياضي والعمل الفني. ونحن نعلم أن نظريات تصنيف العلوم عند الأقدمين كانت تضع بعض الفنون كالموسيقى ضمن ما كان يُسمى بعلوم التعاليم، وهي أربعة علوم: علم العدد (علم الحساب) والهندسة، وهما علمان رياضيان بالأصالة، وعلم الفلك (أو الهيئة) وعلم الموسيقى، وهما علمان رياضيان بالتبع، فحساب الإيقاعات الموسيقية يقوم على زمان الإيقاع، ويتوقف ذلك على نظرية الكسور ونظرية التناسب الرياضيتين. وكانت فنون أخرى علومًا دقيقة كالعمارة التي كانت علمًا هندسيًّا، وعلم العروض أيضًا كان علمًا رياضيًّا لأن العلاقات بين حركات شطري البيت وسكناتهما محسوبة بتناسب رياضي… فلعل الأستاذ كولن يستحضر هذا التراث العلمي الكبير، حيث أَبدعت الأمة الإسلامية في الفنون بمقدار إبداعها في العلوم، خاصة وأننا نلمس هذا الترابط بين العلم والفن واردًا في أغلب سياقات الاستعمال.

ففي خمسة مواضع يرد العلم معطوفًا على الفن أو في نفس سياقه. وفي أربعة مواضع تأتي ألفاظ أخرى تدل على العلم، أي أنه يرد مفهومًا لا منطوقًا، كاستعمال ألفاظ الفكر والصنعة والمعرفة، أو لفظ التعليم، في قوله “مؤسسات التعليم وأوساط الفنون أفسدت الأرواح وقلبت الموازين”، واستعمال عبارة “استنباط نظريات حقوقية جديدة من مصدري الكتاب والسنة”. وهذه ممارسة علمية بالطبع. وأما الموضع الأخير فهو الموضع العام الذي استعمل فيه التركيب الإضافي “الرؤية الفنية”. وبالطبع فإن مفهوم الرؤية يحيلنا إلى الإطار النظري التصوري الموجّه لكل النشاط الروحي للإنسان علمًا كان أو فنًّا أو ممارساتٍ عملية وأنشطة اجتماعية أو نحو ذلك.

الفكر بدون حركة سكونٌ واستسلام وتسليم، والحركة بدون مبادئ وتصورات وقلب حي تكون حركة سلبية، لأنها تعني غياب الإيمان الحقيقي.

إن كل هذه الأمور تفيدنا بالملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: أن الفن كالعلم سلاح ومصدر قوة لورثة الأرض: ويتبين هذا من قوله: “لقد وعد الله بإرث الأرض للصالحين من عباده… وهم ممثلو الروحية المحمدية والأخلاق القرآنية، المنشغلون بالاتحاد والاجتماع، المدركون لأحوال عصرهم، المسلحون بالعلم والفن، المقيمون لميزان الدنيا والعقبى”. ولذلك وجب على ورثة الأرض إحياء علوم العصر وفنونه، وتَصَدُّر الأمم فيها جنبًا إلى جنب مع عمليات إحياء الحياة بالإسلام.

الملاحظة الثانية: أن البيان من أهم مظاهر الفن، إن لم يكن مظهرها الأساس. ويستلهم الأستاذ كولن هنا فكرة النورسي القائلة بأن البشرية تتجه اليوم بكل طاقتها إلى العلم والفن، وأن الفصاحة والبلاغة وقوة الإفادة صارت موضوعًا في سبيل قبول الجمهور للعلم، وموضع اهتمام الجميع. وبالتالي نحن أمام عودة عصر العلم والبيان من جديد. إذن لا بد لورثة الأرض من اللحاق بالعصر بعلمهم وفنهم وتقنيتهم، وتطوير متلقيات فنية طازجة تلائم عالمية الإسلام.

الملاحظة الثالثة: أن الإيمان أساس سمو كل النشاط الروحي للإنسان بما فيه العلوم والفنون والحياة كلها، ولذلك إذا ضاع الإيمان آلت كل أنشطة الفكر والتصور والفن إلى الابتذال. وهذا ما حصل عندما تم تسليم مدارس المسلمين لعملية التغريب الممنهجة، فَنَفَخت في أرواحهم الأفكار الشاذّةَ والموازين الفاسدة، فقلبتْ رأسًا على عقب كل شيء، من المادة إلى الروح، ومن الفيزياء إلى ما وراء الفيزياء. لذلك وجب تعميق الإيمان وضبط الصنعة والتقنية جنبًا إلى جنب مع الفن.

الملاحظة الرابعة: أن مهمة إعمار الأرض التي ورثها الصالحون تتطلب على المستوى الفني كما يقول الأستاذ كولن: “تطوير متلقيات فنية طازجة تلائم عالمية الإسلام، وتركز روح الأمة وشعورها في بؤر الإسلام وترتبط بأحاسيس التجريد، وعجن ثقافتنا الذاتية المستوعبة للدين والدنيا والموروثة من خزائن ألف سنة متصلة”. فالعالمية في الفن تعني امتدادًا في الروح والشعور المشبع بالإيمان المجرد عن أثقال الشهوات العابرة، وامتدادًا في الزمان الماضي، فيكون استمرارًا تجديديًّا للتجارب الفنية المتراكمة عبر مئات السنين وامتدادًا في المكان بتصدر فنون العصر كلها بعد عجنها بتلك الثقافة الذاتية البالغة الغنى.

فهو البيان والتقنية والعالمية: موضوع وصنعة وامتداد يشكلون ظلالاً يفيء إليها العمل الفني المطلوب.

3- علاقات وامتدادات

هذه إذن مجمل المفاهيم التي تُشكِّل امتدادات يصلح كلّ مفهومٍ منها أن يكون ميدانًا لدراساتٍ مفهومية ومصطلحية عميقة في فكر الأستاذ كولن:

المفهوم الأول، الإيمان الكامل: الكمال، والتفكر، والقوة: هي: ثلاثية المدخل الإيماني إلى وراثة الأرض.

المفهوم الثاني، العشق: العرفان والشوق والشمول: مداخل العشق الأصيل.

المفهوم الثالث، العلم: الدين والتكامل والدقة: أبعاد أساسية للمعرفة العلمية المطلوبة في الجماعة الوارثة.

المفهوم الرابع، المراجعة: القراءة والقيم والشرعية (الحق): هي العناصر المفهومية للمراجعة.

المفهوم الخامس، حرية التفكير: التفكير، والتجديد، والانفتاح: مسالك الحرية وآلياتها.

المفهوم السادس، الشعور الجمعي المسؤول: القانون (الشريعة) والمسؤولية والصلاح: أبعاد الشعور الجمعي.

المفهوم السابع، الفكر الرياضي: التوضيح والتناسب والنظام: هي السمات التي تجعل من العقل الإسلامي أجدر العقول بالتفكير الرياضي.

المفهوم الثامن، الرؤية الفنية: البيان والتقنية والعالمية: موضوع وصنعة وامتداد يشكلون ظلالاً يفيء إليها العمل الفني المطلوب، وهي تمثل في نهاية المطاف شبكة ومفاهيمية شديدة الترابط، تحتاج إلى جهود لدراستها وتفكيك محتوياتها، نأمل أن تيسر لنا سبل ذلك والله ولي التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” للأستاذ فتح الله كولن هو أحد أهم الكتب التي ترجمت إلى العربية والتي بلغت 32 كتابا حتى الآن، طبع هذا الكتاب طبعات عديدة عن دار النيل للطباعة والنشر بالقاهرة، كما عقدت حول الكتاب ندوات ولقاءات علمية مختلفة أسفرت عن دراسات متعددة حول محتوى الكتاب ومفاهيمه المختلفة. (المحرر)

(2) الإِنْبيق: جهاز تُقَطَّر به السوائل، ويجمع على أنابيق. انظر قاموس المعاني.

 

 

About The Author

رائدة التفسير المصطلحي، (فاس، المغرب) حصلت على الإجازة سنة 1987 في شعبة الدراسات الإسلامية. وحصلت على الدكتوراه في موضوع "مفهوم التفسير في القرآن والحديث". ترأس هيئة تحرير مجلة "الرؤية"، وشاركت في عديد من الندوات والملتقيات العلمية، محليًّا وعالميًّا. لها مؤلفات عديدة أهمها: "مفهوم التأويل في القرآن والحديث" و"معجم المصطلحات القرآنية المعرفة في تفسير الطبري" و"أزمة النص في مفهوم النص عند نصر حامد أبو زيد".

Related Posts