ولد الأستاذ فتح الله في 27 نيسان/إبريل 1941م وفقًا لبطاقته الشخصية، لكن تاريخ ميلاده الحقيقي قبيل هذا بنحو عامين أو ثلاثة، فالمواليد في بيئته وعصره لم تكن تُقيَّد على الفور، وكثيرًا ما يشير في ذكرياته إلى أنه ولد قبل هذا.
أمّا طفولته وفتوته فلم تكن كتلك التي عاشها أقرانه؛ فلنشأته مناخ متميز هيّأته له خصائص أسرته آنفة الذِّكر، وملازمة أهل الذِّكر والقلوب النيّرة لبيتهم بسبب حب والده رامز أفندي للضيوف عامَّة وللعلماء خاصة، ومن حديثه عن هذه الفترة: “للعلماء والمشايخ رعاية وحظوة خاصَّة في بيتنا، ومن المحبوبين المشهورين الذين كانوا يأتون بيتنا على الدوام الشيخ أَلْوَارْلي محمد لطفي أفندي، وأخوه السيد وهبي أفندي، وسِرِّي أفندي، وشهاب الدين أفندي… لم أجالس أترابي وأقراني قطّ في طفولتي أو فتوتي، فديدني أن أجلس إلى الكبار وأصغي إليهم، حتى أصبح ذلك خلقًا فيّ، ولوالدي أثر كبير في هذا؛ فحديث هذه المجالس تطرب له الآذان وتستملحه العيون، لا سيما حديث الشيخ أَلْوَارْلي فكلما حدثك قلت: هل من مزيد؟ وربما لم أستطع فهم كلّ ما كان يقول، لكني كنت أحفظه كلّه؛ فأحكيه لأمّي وجدتي وأزواج أعمامي، وهذا له مذاق خاصّ عندي”.
مسقط رأس الأستاذ فتح الله في قرية قُورُوجُق بمدينة أرضروم
وبدأ ابن الرابعة يتعلم القرآن الكريم بالتزام ودقّة عالية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في قريته عامين أو ثلاثة، إلا أنه تركها عام 1949 عندما عُيِّن والده رامز أفندي إمامًا في قرية أَلْوَار، ثم استكمل الابتدائية في أرضروم بالانتساب.
بدأ ابن الرابعة الصلاة وواظب عليها، حتى إنه قضى في الآونة الأخيرة ما أدّاه في مرحلة عمرية معينة قائلًا: “ربما أخطأت في أداء الصلوات حينئذ”، وكان لا يتهاون في أداء الصلاة وهو في المدرسة ولو على مقعده، رغم سخرية أحد معلميه وغضبه؛ أمَّا المعلمة بَلْماء هانِم – وهي من إسطنبول – فكانت على خلاف هذا المعلم، فهي تجيد فن الحديث مع طلابها، وتثني على فتح الله في اجتهاده وتفوقه وأدبه؛ وجدت اسمه ذات مرة في قائمة الشغْب في الفصل، فقالت له في دهشة “حتى أنت؟!” والحرّ تكفيه الإشارة ففيها أشدّ الإيلام، وكانت هذه المعلمة على يقين بأنّ لتلميذها مستقبلًا واعدًا، وقالت في هذا لطلابها مشيرة إلى فتح الله: “كأني أرى الآن بينكم ضابطًا شابًّا يصول ويجول على جسر غَلَطَة”
وتحدّثنا عن تلك الأيام وهي فخور بما يقدِّمه الأستاذ فتح الله اليوم، تقول: “لم يكن فتح الله كغيره من الطلاب؛ ولد وقور، مجتهد، محترم، واسع الأفق، كنت أفخر به… لم يكن مشاكسًا كغيره؛ كان قوي البنية أبيض، يجلس فى آخر الفصل عند النافذة، ينظر إلى المعلِّم بيقظة وانتباه، لا يتباهى بنفسه أبدًا، متزنًا جدًّا، يشاهد ما يقع من أحداث، ولا يقحم نفسه فيها ألبتة؛ إذا عزم على أي شيء فعله، كان رزينًا، من خلقه ترك ما لا يعنيه، يراقب عن بعد ولا يُقحم نفسه، دائم التفكر، بعيد الغَوْر، الأدب والهدوء شيمته.
أنا بوصفي تربوية أفخر به، فلِما قام به من إنجاز في التربية والتعليم في تركيا وأنحاء العالم كافّة دور الرّائد في تعريف العالم كلّه ببلدنا وأمتنا، فما قام به يكفي لكي أفخر به”.
ولم يكن يقتصر تميزه على أترابه في سلوكه وأفعاله فحسب، بل هناك مواقف أخرى تظهر هذا التميز؛ استيقظ ابن السابعة أو الثامنة ذات ليلة قائلًا: “لبيك يا رسول الله”، وكانت أمّه بجواره حينئذ، فأذهلها ذلك، ومضى على هذا ليالي عدّة، فقلقت وخافت عليه، فأخبرت زوجها رامز أفندي؛ وذات ليلة راح رامز أفندي وزوجه يراقبان ما يجري، فتكلم فتح الله وهو نائم، لكنهما لم يفهما شيئًا مما تحدّث به، فلما استيقظ سُئل عن هذا، فلم يقل شيئًا، وأغلق الموضوع.
عُنِيَ الفتى بالعبادات منذ نعومة أظفاره، وتلك ميزة أخرى، ففي العاشرة سألته أمه: أين كنت يا بنيَّ، لقد قلقت عليك؟ فقال: في المسجد يا أمّي، صلّيت سبعين ركعة، فسألته: “وماذا كنت تصلي يا بنيّ؟”، فقال: قضيت الصلاة الفائتة”؛ وفي الليالي المباركة كان يعود إلى البيت متأخِّرًا، فتقول أمّه: “إمام المسجد عاد مبكِّرًا ونام – تشير إلى زوجها – فلماذا تأخرت أنت؟” فيقول: “ما زلْت أصلّي يا أمي”. تعلَّم الصلاة في الرابعة فواظب عليها، وكانت حِلْيتَه، فكلما وجد فرصة تجمَّل بها، فكانت قرة عينه في الصلاة.