يعد فتح الله كولن، أو الأستاذ كما يلقب واحدًا من أهم روّاد مدرسة التجديد في العصر الحديث، بما يمتلكه من رؤية ثاقبة وفكر مستنير، تجاه أزمات وطنه وأمّته، فضلاً عن أنه أحد الرموز الدينيه التجديديه، وإشعاعاته لم تقتصر على تركيا فقط بل تعدّاها إلى الفضاء الواسع والأرحب وهو العالم الإسلامى. ويُعد الدور التحديثي الذي يقوم به فتح كولن وجماعته من أبرز النماذج الناجحة للمسلمين في العالم، من خلال حركة الخدمة ومدارسها ليس في تركيا وحدها، فضلاً عن كونه أحد أهم أفراد السلسلة التجديدية التي بدأت مع الأفغاني ومحمد عبده ونامق كمال وإقبال والنورسي.

كولن وإعجاب عالمي

وللأستاذ كولن نتاج ضخم يجسّد به رؤيته وملامح مشروعه الفكري والخدمي، ويأتي ذلك في كتبه ومؤلفاته ومقالاته وندواته، فضلاً عن تلاميذه الذين ينتشرون في كل مكان، حاملين أقباس نوره ودروب معرفته ليبصروا به ويتبصروا، ويقدموا للعالم نموذجًا من أجلّ النماذج وأكثرها ملائمة للواقع، ولما يحياه المسلمين من ضعفٍ وهوانٍ وتبعية. ورغم ما يُقدّمه كولن من أفكار ومعارف وخدمات لأمته إلا أنه لم يسلم من الطعن والغمز واللمز، وكانت دومًا رسالته التسامح والعفو، دومًا نسمعه يقول: ”لقد أحللنا جميع حقوقنا الشخصية”، بل ويصف نفسه بهذا القمطري ويقول: ”من أنا حتى أغضب لطعنٍ أو شتمٍ يتناول شخصي وقد أوذي من هو أجلّ مني وأكثر دينًا وورعًا رسولنا محمد -صلى الله علسه وسلم – إن أنا إلا قمطري ”، ولعل أكثر مايؤلم الرجل أن الافتراءات تأتي من أبناء جلدته وملّته، ومِمّن هم مشتركون معه في اللغة والدين والعرق، وتراه في الخارج محل ترحاب وأُلفة وفرح من الجميع، فكل من يراه يسعد لرؤيته ويغبط لمشاهدته، لكن أنّى ذلك التجاهم؟ ودومًا كان حال أهل الورع والتقوى والزهد في كل العصور، وهو بنفسه يذكر ما ألمّ بمولانا جلال الدين وبشمس التبريزى وكيف حِيكت لهم المؤامرات والدسائس، حتى انتهى الأمر بمقتل التبريزي، وحتى من عاصره وشاهده وشاهد كيف أوذي في الله وكيف عُذِّب وسُجِن ونُفِي، ولم ينل ذلك كله من عزيمة بديع الزمان النورسى (1960)م.

كولن: “من أنا حتى أغضب لطعنٍ أو شتمٍ يتناول شخصي وقد أوذي  من هو أجل مني وأكثر دينًا وورعًا ورسولنا محمد -صلى الله علسه وسلم – إن أنا إلا قمطري”.

عرض كتاب حاقان يافوز

وها هو كولن اليوم يعيش حياة مثيلة لِما عاشها أقرانه، فالرجل يعيش بعيدًا عن وطنه في بنسلفانيا، وتُعد الفترة التي يحياها الرجل من أكثر الفترات خصوبة وخطورة في نفس الوقت، ومنها تأتي الابتلاءات، فحرص الرجل على أن يُربّي رجالاً كان دومًا هاجسه، ولعل الكتاب الذي ألّفه السيد حاقان يافوز وهو مهندس وكاتب تركي، والصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة (2015)، والذي قام بترجمته شكري مجاهد، وقد جاء فيما يقرب من أربعمائة صفحة، متضمنًا المراجع والهوامش، ويستعرض الكتاب من خلال ثلاثة أجزاء مقسّمة إلى عشرة أبواب وخاتمة، حركة السيد فتح الله كولن وملامحها وأهدافها وأبرز ماتقوم عليه وخصومها، ويأتي ذلك في ثلاث بنيوات، أولها الإنسان، الذي هو محل وغاية كل رسالة وعمران في الأرض، وكيف أن حركة الخدمة هي عملية ديناميكية، تسعى لدمج الإنسان في واقعه بأن يحيا آلامها وأحزانها وأفراحها، وأن يتفاعل مع مشاكل وطنه وأمته، واضعًا نصب عينيه كيف أن الإنسان بطبعه وخاصة مرحلة الشباب لديها من القوه والحماس ماينبغي استغلاله واستخراج كوامنه، لكي يعطى لأمته أفضل مايملك، وتُعدُّ هذه الفترة بقدر قوّتها وأهميتها مرحلة خطيرة، وعلى الإنسان أن يراعي نفسه فيها جيدًا، ولذلك يأتي دور الخدمة فى توظيفه وانصهاره بشكل قوي بعد دراسة رغباته وما يملك وما يستطيع أن يعطي ويبذل، وهي تقريبًا نفس المرحلية المتبعة في أغلب الجماعات والمنظمات المجتمعية، المشاركة من خلال عمل تطوعي أو حتى حزب راديكالى، فالسعي لبناء إنسان متوائم الروح والجسد يأتي من خلال التكامل بين المادية والمتطلبية وعلى رأسها النفسية وهي من أهم الأمور التي تتبعها الخدمة مع أفرادها في مدارسها ومنتدياتها، وتطبيق ذلك واقعيًّا يأتي من خلال مشاركة أفرادها بعضهم البعض لمجمل الأنشطة الاجتماعية، كل ذلك أعطى للإنسان بديلاً هامًّا في ظلّ سنوات عانت فيها تركيا خواءً روحانيًّا كبيرًا، فضلاً عن أزمات وانهزامات نفسية واقتصادية.

رغم ما يُقدّمه كولن من أفكار ومعارف وخدمات لأمته إلا أنه لم يسلم من الطعن والغمز واللمز، وكانت دومًا رسالته التسامح والعفو، دومًا نسمعه يقول: ”لقد أحللنا جميع حقوقنا الشخصية”.

وبعد مرحلة الإعداد والبناء التي لم تنقطع تأتي مرحلة القيادة وتحمل المسؤلية، وهو الجزء الثاني من الكتاب الذي يُقسّمه المؤلف إلى ثلاثة موضوعات رئيسية، ولعله يتشابك بشكل كبير مع الجزء الثالث وخاصة مع الباب التاسع والعاشر، ويتناول فيها الحركة وصراعها الدائم مع السلطة، سواء الماضية أو الحالية التي استغلتها في فترات الانتخابات والدعم الذي قدّمته الحركة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، من خلال مراكزه ومدارسه المنتشرهة في كافة أنحاء الجمهورية التركية، والذي لعب دورًا هامًّا في تثبيت السلطة الحاكمة الآن، وفرض رؤيتها التنموية ومشاريعها الوطنية، من خلال الفاعلين على الأرض، مما جعل كثيرون آنذاك يتوهم بأن حزب العدالة هو الذراع السياسي للحركة قبل أن يظهر الشقاق والتقاطع الذي وصل إلى حد اتهام الحركة بأنها جماعة إرهابية كما جاء على لسان السيد أردغان، وينفي السيد كولن أن الحركة تحالفت مع أحد ويصف ذلك بأنه تقارب في الرؤى والمواقف وأننا نقف على مسافة واحدة، ومما طور وتيرة الاتهامات وتبادلها الحظر لبعض أنشطة الجماعة، وهو الأمر الذي يعزوه البعض إلى الإحساس بالتنافس الشديد الذي تمثله الخدمة للحزب الحاكم، وهو ما يخاف معه من فقد الحاضنة الشعبية من خلاله، وقد دعت هذه الأمور السيد كولن لأن يرد بنفسه من خلال بعض الحورات والمقابلات التي أجريت مع صحف تركية وغربية، والتي بدأ فيها أكثر اتزانًا من الرئيس أردغان، مما زاده احترامًا في نظر معارضيه قبل مؤيديه، وظهر في مظهر الصوفي الزاهد، والعالم الورع التقي، وهي صفات طالما تحلّى بها الرجل وإن تخلّس منها تواضعًا، وهو الذي جسّده تلاميذه على الميدان من خلال عدم الاصطدام مع كوادر حزب العدالة والتنمية، خاصه بعيد عملية حظر الخدمة وأنشطتها، ووضح أكثر في الترسانة الأخلاقية التي أرستها الخدمة في تنشئة أفرادها، وهذه التصادمات اعتادت عليها الحركة منذ زمن الانقلابات إلى اليوم، وهذا معظم ما تناوله الجزء الثالث والأخير من الكتاب والذي تضمن فيه رؤية السيد كولن وجماعته لما يسمى بميدانية الإسلام، والحوار الذي تتبناه الحركة مع المسلمين وغير المسلمين، وكلها حورات تقوم على الصدق والمحبهة والمودة والخوف.

يُعد الدور التحديثي الذي يقوم به فتح كولن وجماعته من أبرز النماذج الناجحة للمسلمين في العالم، فضلاً عن كونه أحد أهم أفراد السلسلة التجديدية التي بدأت مع الأفغاني ومحمد عبده ونامق كمال وإقبال والنورسي.

قدرة الحركة على الصمود

وقد استعرض الكتاب نقطة هامة متعلقة بمدى مستقبل الحركة، خاصة في فترات هامة الآن تتعرض فيها لكثير من المؤامرت والحيل، وبمدى قدرتها على الصمود ، وخَلُص الكاتب أن الأمر متعلق بالقيادة التي على رأس الحركة من بعد زعيمها الروحي الأستاذ فتح الله كولن، وخاصة أن هناك تجربة ماثلة في الأذهان والخاصة ببديع الزمان النورسى وجماعته، أو حتى جماعة محمد زاهد كوكتو، وهو صوفي كبير، اندثرت جماعته بعد موت المؤسس، والكتاب في مجمله هام جدًّا لأنه يُعطي نظره ثاقبة ورؤية موضوعية براجماتية بعيدًا عن الأيدولوجيات المعقدة التي قد تربط معظم الأتراك في الوقت الحاضر، فضلاً عن المعلومات التي حواها الكتاب .