نشأ كولن يلاحق مراكز التكوين والتعليم التي لم تكن متوفرة لمن في وضعيته، يتحول من أفق إلى أفق، تحدوه الاستزادة في التحصيل، فعاش مستنفرًّا، يقظًا، تقتضيه حياة الوحدة والعصامية أن يكون مستجمعًا لتركيزه الذهني والتدبيري، ما يسيطر به على شؤونه الخاصة والعامة، بحيث لا يفوته من واجباته شيء. فهو يدرك -أو كان عليه أن يدرك في كل لحظة-أن حياة الانفراد والتطلع، تحتم عليه أن يمتد أبدًا من نطاق اليقظة إلى سائر محيط علاقاته؛ ضمانًا لمضي المسيرة، فقد كانت قاطرة المراحل تتقدم به، يسلمه بعضها إلى بعضها، فلا يزيده ذلك السفر في البلاد، إلا اغتناء في التجربة، وفاعلية في التصميم، وقدرة على النفاذ في خفايا الحياة والإنسان والمجهول.

من مسيرة حياته، ومن تراكم مرصود تجاربه، وما تأصل له من استنارة روحية وجِلاء فكري، استمد كولن مقاييس القيادة، واستلهم مواصفات الهيكلة والتأطير.

 ملتقيات الفتوة

باشر في مطلع شبابه إدارة ملتقيات الفتوة، وتسيير المخيمات المدرسية، يكتتب لها الميزانيات عن طريق التبرع والإحسان، ويوفر لها العدة ووسائل الإيواء والنقل، والتموين والتطبيب، والتنشيط وسائر ما تتطلبه حياة البناء المركز من ضمانات السلامة والبهجة والمردودية التكوينية، ما يجعل منها أفقًا تكوينيًّا مفتوحًا على الحياة، ومعززًا لأسس التنشئة السليمة، فاكتسب بيداغوجية إدارة المال والأعمال، واستحكمت فيه قدرة استئلاف الطوائف من الفتيان والشباب، وبذلك اكتملت لديه خبرة القيادة والسيطرة الحكيمة، وانضافت إلى ما احترفه من رئاسة منبرية كان يمارسها بوصفه إمام مسجد، الأمر الذي جعل الأداء الوظيفي والترشيدي، بل والمقاصد تتباين باطراد مع ما كان نظراؤه يؤدونه في مساجدهم، ويتوخونه في وظائفهم.

حياة العزوبة

ومن المؤكد أن حياة العزوبة التي عاشها كانت من أهم عوامل نبوغه في الترتيب والإدارة.. لقد تعلم من تلك الحياة كيف يدير شؤونه؛ صغيرها وكبيرها، وكيف يرتب الأوليات على نحو احتسابي لا مراء فيه، وحين تُنبئُنا سيرته مثلاً بأنه كان يغتسل لصلاة الفجر في عزّ الشتاء، عندما تتجلد المياه في الأنابيب، فيسكب هو الماء على نفسه في مغسل مفتوح على زمهرير وقَرٍّ تئن لهما الحجارة، فإننا ندرك أي الرجال كان؛ إذ الواجب الديني كان لديه مقدمًا على كل ما عداه، “حفظ الدين قبل حفظ النفس، في حين أن الإسلام يضعهما متلازمين، إلا حين يكون الاستشهاد خادمًا للإيمان”، إذ لا ننس أن العزوبة عند أهل الله هي الإعلان الأظهر عن الخيار التبتلي الذي لا مجال فيه لِلُبْس أو استرابة، وأن من يختارها نهجًا في الحياة يكون في وضع مثالي، من حيث التأهب للعمل الصالح، والتأهل للسعي والاحتساب الدائبين.

 لا ريب أن الذي يعيش موصولاً بربه على هذا النحو من التجرد الوطيد، هو إنسان روحاني بامتياز.

فالعزوبة التي يلتزمها المبجّلون، لا تعني فحسب، التفرغ للعبادة التي هي مناط وجودهم، ومحور حركتهم وسكونهم، ولكنها تعني أيضًا تجسيد مقاصد الإيمان الأساسية التي هي السير بالناس والمجتمعات نحو البِرّ، وإرشادهم إلى الخدمات والأداءات والتثميرات التي تعزز في الإنسان خيريته، وتجعله يمضي قدمًا على طريق تحصيل رضا الله.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:219-221.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.