وقفتُ لهنيهة قصيرة قبل أن أستقل الحافلة.. ألوح بيدي.. أجدّد شكري لمن حملوني عبر رحلة نورانية إلى عالم حقيقي المكان، أسطوري الزمان… أشكرهم وأنا أردد وصية كلّفني بحملها الأستاذ فتح الله، ليلة رؤيا نداء الروح.. ليلة سر فضاءات عوالم سماء الخامس.. وما أدراك ما سر هيبة الفضاء؟! إنه المكان الذي يتربع على عرشه فارس المعرفة ومجدد القرن.. هناك حيث تنزل على الرؤوس الشهب بالفلك، وتحمل الأسفار، وتملأ خزائن حافظة الإنسان بمئات الكتب والمؤلفات… في تلك الليلة أوصاني الأستاذ فتح الله قائلا:

كما أن التبليغ والإرشاد وظيفة، فإن معرفة فنّ التبليغ وظيفة أسمى.

– يا مريم، يا حفيدة الأنصاري عبادة بن الصامت، طلحة الدريج الأنصاري.. أوصلي سلامي لأبناء وأحفاد يوسف بن تاشفين وطارق بن زياد وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار ومالك بن نبي الذي أحببته كثيرا، وأوصيهم بأن يعيشوا أعزاء كرماء، مستغنين دائما، أنصار الكلمة.. فمناصب الدنيا زائلة، وتأثير الكلمة قوي ثابت. احذروا الأنانية في المجادلة.. ابتعدوا عن المراء والعناد.. استعملوا العقل والمنطق والبلاغة، والفصاحة، مع ما يناسب بيان الحكمة. فكما أن التبليغ والإرشاد وظيفة، فإن معرفة فنّ التبليغ وظيفة أسمى.. إن الانشغال بمظاهر الجيل الحاضر وبملابسه وأغانيه ومسلسلاته وملاحقة فيسبوكه، بدلا من ترشيده وضمد جروحه، يدفعه للنفور والهروب من تحقيق سعادة الإنسان الأبدية…

المفكر وإدراك العصر

قولي لهم يا مريم: من لم يقرأ علوم الحياة لا يخفق قلبه بحاجيات الشباب.. والمفكر هو البطل الذي يدرك عصره ويستهين بتفاهات الدنيا كلها.. وكما أن إعطاء الدواء قبل تشخيص المرض خطأ بيّن، كذلك القيام بالتدواي، قبل تشخيص المرض خطأ بيّن.. إن هذا الجيل المفتون بشاشات سلب الروح، لا يشبعه أي فكر مزخرف مزركش ما لم نرعاه، ما لم نرشده تربويا وعلميا وروحيا ومعرفيا… أخبريهم بأن علاج أزمة اضطراب جيلنا الحاضر بالحلول المالية دون تأهيلهم، هو الغفلة بعينها.

توحُّد الأفكار وفاعليتها

فالجيل الحاضر والمقبل هم شعلة التوقد الدائم في دم الشعوب والأمم.. هم دواء يفتت حصى عَفَنَ الزمن المتراكم على جمود العقول وشلل الأرواح.. احترموا عقولهم، فهي تزخر بمعين فائض من شلالات ينابيع الحياة، وتفجرات الأفكار… لا تمنعوهم من التفكير، لأن أفكارهم الفتية إن لم تتحول إلى شواهد حياتية متميزة ومرجعيات فكرية فاعلة، ستموت وتتدحرج من قمم الجبال على السفوح اليابسة، فتضمر النار في سهولها، وتلتهب اخضرار أغصانها ونباتها… حافظوا على شبابنا من الإحباط واليأس وزرع عدوى الشلل العقلي، والاتكال والموات الفكري…

كولن وبعث الإنسان من جديد

جددي لهم وصيّتك -يا مريم- التي أوصيتهم بها ذات يوم في جامعة الفاتح حين قلت لهم: “أفكار الأستاذ فتح الله ملهمة القدرات الإدراكية، محفزة على بعث الإنسان الجديد.. قراءاته المستقبلية مجددا للقرن الواحد والعشرين رسمت لكم معالم طريق نهضة حضارية، تتلمسون سبلها من بين عشرات الطرق.. فلا تحفظوها عن ظهر قلب حبا في شخص مجددها، وإنما حاولوا استيعابها.. اقرؤوا ما بين سطورها.. دقّقوا في رسائلها الحاضرة والمستقبلية… لأن الحفظ من دون فهم قد يوديها ويحبسها عند جسر العبور..

المفكر هو البطل الذي يدرك عصره ويستهين بتفاهات الدنيا كلها.

ثورة الروح والفكر

القرآن ذاته -وهو كلام الله المقدس- لما حفظناه في الصدور، من غير فهم وإدراك، يتمْناه وهجرنا معانيه، أوقفنا امتداد نوره الفياض، عبر جسور عوالم الدنيا… يا ابنتي مريم، أوصي الشباب المجدد، بأننا في حاجة إلى إصلاحات؛ فالشباب المجدد في قلق دائم زمن الثورات. قولي لهم بأن الإصلاح لن يأتي من غير اللحاق بثورة الروح والفكر، ثورة التعلم، محاربة أمية تأهيل القدرات الذاتية، بالإرادة بالفعل بالإنجاز..

فاللغة الثورية الحقيقية، تبدأ مع تغيير عنصر الخمول في الذات، والتأهب بسلاح العلم والمعارف والتحصيل.. هذه الثورة هي التي على الشباب المجدّدين اكتشافها يومًا بعد يوم.. عندما ينشقّ فجر ثورة الذات، تنطلق أصوات التفعيل والعطاء، مذوية تشد خيالكم، تحت سحر أحاسيس غامضة، لتطير بكم في جو روحاني نحو أعماق الإخلاص في الإنجاز.

كنت أتلو هذه الوصية وصوتي يرتجف، ويئنّ بحنين حكمة الكلمات، التي تبعث قشعريرة في الجسد.. مشاعري مفعمة بروح وصال تبليغ وصية الأستاذ فتح الله كولن. عشتُ سحر لذّة وصال فكري وروحي في الرؤيا.. ارتشفت من ينابيع حكمها الفياضة.. تلبست أحوالي…

رحلة إلى عوالم الأمل

إن علاج أزمة اضطراب جيلنا الحاضر بالحلول المالية دون تأهيلهم، هو الغفلة بعينها.

فكلّ ما شاهدتُه، وكلّ ما سمعته، وكل ما أحسست به، سجلته في رسالة أرسلتها في رؤياي تلك الليلة مع هدهد نداء الروح، ليخترق بها أنفاس رائحة تلك الحكم النقية، ويلقي إلى الحكيم السلام مع السمع، مبلّغا إياه أنني استنشقتها بعشق امتلأ به صدري، وأن نديم الوصية سيجمل حياة من أرسلت إليهم بتلونات عديدة.

في رحلة الانتظار لعوالم الأمل، تزاحمت صرخات الصمت، بعد جهد الرواد الذين ربطوا حياتهم بإحياء نفوس الآخرين.. أطل علينا صوت مفكر، فتح لنا أبواب عالم رؤى المستقبل بلغة الفعل التي أنزلها من الكتاب المبين، وسار بها متجولا في القرى والأحياء والمدن، إلى أن همست بصواب هذا الفكر. ربط التنظيرَ بالواقع، فعبرت إلى منافذ القلوب وأعماق شواطئ المشاعر..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: من كتاب “نداء الروح”

Leave a Reply

Your email address will not be published.