منذ قدومي إلى “إسطنبول” قبل سنوات وأنا أقرأ ما تُرجم إلى “العربية” من كتب الأستاذ “فتح الله كولن”، وأصغي بمزيد من الانتباه إلى تلامذته ورواده وخلصائه، وهم يستذكرون فيما بينهم ألمع أقواله وأفكاره.

ولا أزعم -وأنا الغريب وطنًا ولغةً- أني قد أحطتُ بفكر الرجل الإحاطة المطلوبة، أو فهمتُ عنه الفهم الذي يغريني بالقول عنه دون التوجس من الإفراط هنا أو التفريط هناك، ومع ذلك أجد في نفسي دافعًا يدفعني لكي أحاول جهدي أن أرسم بعض ملامح فكره مهْما بدت هذه الملامح قاصرة أو دون الغاية المرجوة.

فتح الله كولن لسان حضارة مهجورة ومغيبة تبين عن نفسها بواسطة قلمه.

 حضارة مهجورة

وإن أنا أردتُ أن أصفه بكلمات قليلة أحرص أن تكون صادقة ومعبرة أقول: إن هذا الرجل إنما هو لسان حضارة مهجورة ومغيبة تبين عن نفسها بواسطة قلمه، وإن فكر هذه الحضارة، وعقلها الباطن، وعالم وجدانها، وزمانها المفجع والموجع، كلُّ هذه الصور يمكن مشاهدتها منعكسة في كتاباته ومقالاته وخطبه ومحاضراته، وهو يرى أن ما بين الجوهر الإنساني النقي وجوهر هذه الحضارة ارتباطًا حميميًّا ومصيريًّا، بحيث إذا مات أحدهما مات الآخر، فهما يحييان معًا ويموتان معًا.

آلام العبقرية

و”فتح الله كولن” عبقرية غلاّبة لا شك في ذلك، ولكنها عبقرية حزينة بعض الشيء غير أن حزنها عذْبٌ وبنَّاء ومعطاء؛ فأي يقظة ذهنية إذا ما اتّسعت وأخذت أعظم مدياتها صاحبتها آلام روحية وجسدية عانى منها “فتح الله كولن” السنين الطوال. ومع كل هذه الآلام فإن تفكيره في ارتفاع دائم، وشعوره بالقوة والحيوية لا يوصف، ومغالبته  لأوجاعه وآلامه أمر يكاد لا يُصَدّق… فحيويته العظيمة ناجمة من غبطته بإنجازاته في الفكر والحياة، وشعوره بأنه يستنهض حضارة من تحت ركامات القرون، وأنه يبعثها بقيمها الروحية الجديدة على ما هو سائد في هذا العصر من قيم.

لقد كان من همِّ أرباب الفكر والقلم بالأمس واليوم تشخيص أمراض هذه الحضارة وبيان أسباب ما أصابها من ضعف وهزال، أما “فتح الله كولن” فقد كان يعرف أن قوة عظيمة موجودة في أعماقها، وأنّ مِن واجبه وواجب كل صاحب قلم أن ينبش التاريخ ليبحث عنها ويستخرجها من بين مدافنه إلى نور الشمس والحياة.

فتح الله كولن” عبقرية غلاّبة، ولكنها عبقرية حزينة بعض الشيء غير أن حزنها عذْبٌ وبنَّاء ومعطاء.

بشرى الحضارة

وهذه الحضارة التي ينشدها “كولن” ويبشر بها، جديدة كل الجدّة على السلوك الإنساني المعاصر في تنكره لعملية “الخَلْقِ والخُلُق” في مصدرهما الإلهي، فهو -أي هذا السلوك- غارق في الحسيّات إلى حدّ مخيف مما يشكل نوعًا من الحجر على انطلاقات الفكر والروح إلى ما وراء هذا العالم، بينما لا يرى “كولن” حدًّا فاصلاً بين المعرفة بالإنسان والطبيعة وما وراء الإنسان والطبيعة، وهو يرى أن علماء الطبيعة مرشحون دومًا ليكونوا في طليعة المستجيبين لنداء الروح والإيمان إذا ما صدقوا مع أنفسهم وأصغَوا جيدًا إلى فطرهم. ولن نكون مغالين إذا قلنا: “كولن” صوت حضاري يبشر بقدوم عصر حضاري جديد يتربّع على القمة منه فكر إيماني، يسعى “كولن” اليوم لترسيخه في الأذهان فيما يكتب ويقول.

الإسلام والانبعاث الحضاري

و”كولن” يعتبر الإسلام مصدرًا من مصادر التنوير الفكري فضلاً عن كونه دينًا من الأديان؛ وأنه انبعاث حضاري، لأن من أعظم خصائصه تدريب المؤمنين به على التفكير بالعالم واستقرائه واستبطانه كشاهد على الله تعالى. وليس كالمسلم أحد يدفعه تدينه إلى مناقشة الطبيعة والكون لإدراك مراميهما والفهم عنهما، فصِلاتنا بهما -كمسلمين- عملية مستمرة يأمرنا القرآن بعدم الانقطاع عنهما ما دمنا ندرج على هذه الأرض.

و”كولن” يريد من وراء ما يكتب أن يعطي “نفس المسلم” شكلاً معينًا ومتميزًا ومرنًا، بحيث لا يجد حرجًا في التناغم مع روح أي فكر حضاري يمكن أن يقدم البشرية خُطًى إلى الأمام من دون أن يَمَسَّ أصول عقيدته ودينه، فلا يغدو في نظر الآخرين روحًا غامضة شبحية تثير التوجس والرعب والاستنكار من قِبَلهم… إنه يخاطب أهم جزء فينا، ألا وهو الجزء الخلاَّق الذي تعطل عن العطاء منذ زمن بعيد لتجنّبه العذابات الذهنية المؤججة للأفكار، والباعثة للإرادات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــت

المصدر: كتاب “الضاربون في الأرض” (أديب الدباغ)

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.