تمهيد
تشكل صورة الزمن بُعدًا فلسفيا، علميا، معرفيا، عرفانيا، لم ينفك عن البحث والتحقيق منذ نشأ التفكير؛ ذلك أنَّ التفكير نفسه يندرج داخل الزمن، حتى وإن كان تفكيرا في الزمن نفسه. وبالتالي كانت صورة الزمن مِن أكثر المواضيع إثارة ودلالة؛ يندر من العلماء -مِن جميع التخصصات، وفي جميع العصور- من لم يُدل بدلوه فيه، ولم يعط صورة للزمن حسب تصوره، بناء على منطلقاته وغاياته ومدركاته؛ بل إنَّ النبوات نفسها قد طرحت منطلقات لفكرة الزمن، ولصورته؛ سواء في ذلك الكتب المقدسةُ الرسمية: “التوراة، والإنجيل، والزبور…”، وأخيرا “القرآن الكريم”؛ أم الشروح المتواصلة للوحي، من مثل “الشرح الحاخامي للتوراة، أي التلمود”؛ وشروح الإنجيل، حسب الروايات، من مثل “رواية مرقس”؛ وأخيرا السنة النبوية التي هي بيان للقرآن الكريم، وشرح شفويٌّ وعمليٌّ لتعالميه.
يقول محمد إقبال: “قد أثارت مشكلة الزمان انتباه المفكرين والمتصوفة…”. أما أحمد دعدوش فقد ألف كتابا بعنوان “مشكلة الزمن، من الفلسفة إلى العلم”؛ تعرض فيه لقضية الزمن؛ “باعتبارها من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة والفكر وهي أيضًا من أكثرها تقاطعًا مع العلم التجريبي، وما زالت تثير خيال العلماء والفلاسفة إثر الفتوحات العلمية في نظرية النسبية وفيزياء الكم وما بعدها”.
ويعنينا في هذا البحث أن نورد صورة الزمن لدى بعض فلاسفة العصر؛ ثم نخلص إلى صورة الزمن عند المفكرين محمد إقبال، وفتح الله كولن؛ ذلك أنَّ مجرد إيراد جميع الصور من المصادر، سيشكل بحثا قد يليق ببحث طويل النفس، من مختلف التخصصات.
صورة الزمن من منطلق القرآن الكريم
وقبل ذلك، لا بدَّ أن نحيل إلى صورة الزمن ومفهومه في القرآن الكريم، وقد يَسَّر الله تعالى تأليف بحث في هذا الشأن، ولعلَّ أنموذجا واحدا يكون كافيا لفهم مدى العمق الذي يتسم به هذا الحقل في كلام الله تعالى المعجز؛ وذلك قوله تعالى عن الفتية، أصحاب الكهف (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْه) (الكهف:17)؛ إذ بينما يرى البعض أنها فجوة مكانية؛ يقول الإمام البغوي في تفسيره: “متّسع من الكهف، وجمعها فجوات”؛ إلاَّ أنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقربُ مذكور في السياق هو حركية الزمن من خلال حركية الشمس، قال تعالى (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال) (الكهف:17)، ثم قال سبحانه (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)، أي من حركية الزمن، فلا يؤثر فيهم، ولا يغمرهم شأنَ باقي المخلوقات؛ ولهذا المعنى دليل في قصَّة (الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة) (البقرة:259)، حين كان “طعامه وشرابه” لمدة مائة عام في “فجوة” من الزمن. أمَّا حماره، فقد كان داخل “دوامة” الزمن، حسبما تقتضيه السنن، كباقي الخلائق جميعا؛ ولذلك تقادم، وشاخ، وبليتْ عظامه.
إنَّ صورة الزمن هي صورة لولبية (spiral)، مربوطة بمركز (central)، ممتدَّة نحو الأبد
المهم، أنَّ هذه صورة واحدة من صور الزمن، الذي يسري مثل نهر، تصبح فيه جميع الخلائق، وعلى جوانب النهر أو داخله فجوات، مَن دخلها نجا من قهره، ولا يدخل هذه الفجوات إلاَّ من كتب الله له ذلك إعجازا، وفي حالات نادرة جدا؛ أمَّا جميع المخلوقات من حيث سنن الله تعالى فتَحْيا داخل النهر، ويبليها الزمن، فتتقادم، وتبلى؛ ولقد عبَّرت الفيزياء الحديثة عن هذا المعنى الدقيق، بنظرية “القصور في الطاقة” (Entropi) يقول علي عزّت بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”: “طبقا لعلماء الحياة، القصور في الطاقة هو النقطة الحاسمة في تعريف الحياة؛ فجميع قوانين الطبيعة ترجع إلى القصور في الطاقة، والتي تعني التشوش العام، الحالة المطلقة للاتساق الخامد”. أمَّا كون الإنسان يتجه عكس هذا القانون؛ فلأنه يستمدُّ “حياته” ونشاطه المتواصل والدائم، من مصدر آخر غير المصدر المادي الجامد.
صورة الزمن في السنَّة النبويَّة الطاهرة
أمَّا من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فصورة استدارة الزمان، هي الأبرز في هذا السياق، ولذا ورد في “مفهوم الزمان في القرآن الكريم”، هذا التفصيل: “إنَّ محور الزمن -كما يؤكِّده القرآن الكريم ويثبته النبي صلى الله عليه وسلم- هو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وبالتدقيق “يوم استدار الزمان كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض”؛ فالتاريخ وفق هذا لا يسير “في تتال بسيط، محدود بخطوط مستقيمة (Rectilineaire)، وتناسبات عديمة من كلِّ معنى”؛ ولكنه يتنقَّل بسيولة وحيوية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يحدُّ بزمن خطيٍّ بسيط؛ “وإنما زمنه زمن حلزوني متشابك، تلتقي بدايته مع نهايته دون صعوبة في التنقل والمصطلحات؛ محوره نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولحمته الأزل، وسداه الأبد. ولقد أخبر النبي الصادق في حديث شريف عن هذه اللحظة التي استدار فيها الزمن، وهي إشارة إلى عملية “الطيِّ” التي هي توسع باعتبار، وانكماش باعتبار آخر؛ قال صلى الله عليه وسلم : “إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض….”
ولا شكَّ أنَّ تتبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في علاقته بالزمن والوقت، والعمل على تشكيل “صورة الزمن” بناء عليها، سيكون عملاً علميًّا له أهميته، وله أبعاده؛ ورغم أنَّ بعض المصادر اهتمت بهذا الجانب من حيث الأهمية والقيمة والخصائص، إلاَّ أنَّ الجانب المعرفيَّ الإدراكيَّ يبقى بغير اهتمام مذكور.
صورة الزمن في الفلسفة الغربية المعاصرة
لقد قصدنا في بحثنا هذا تخطي الفلسفة اليونانية، ذلك أنَّها دفعت الزمن إلى “حدود خرافية” لا تمت إلى العلم بصلة؛ ونأتي إلى الفلسفة المعاصرة التي اهتمت بالزمن اهتماما شديدا، من مختلف المداخل والتخصُّصات؛ وأنتجت فيه -ولا تزال- الآلاف من العناوين والنظريات؛ ومن ذلك يذكر “نظرية العود الأبدي، التي هي فكرة ميتولوجية” في فلسفة “نيتشه”؛ وبناء عليها يكون شكل الزمن “دائرة تعيد نفسها بلا توقُّف، وكلُّ لحظة هي أبدية تتكرَّر إلى ما لا نهاية”.
أمَّا “عمانويل كانط” فيرى أنَّ الزمن ليس سوى “صورة الحسِّ الداخلي، أو صورة الحدس المحض لدينا، اتجاه أنفسنا وحالتنا الداخلية” أي أنَّ “الزمن لدى “كانط” ليس سوى الصورة التي تحدس بها الروح نفسها كمقدرة حسية”، وبالتالي فهو ليس حقيقة موضوعية خارجة عن الذات.
وبعد ذلك اعتبر “هيغل” أنَّ مفهوم الزمن المجرَّد أحد أكثر البداهات خواء؛ وبالتالي “يعتبر الزمن السطح المفهومي المجرَّد الأول والمباشر للمعطى الحسيِّ، فهو إذن ينتمي الى مرحلة بدائية من تطور العقل”.
وفي المتأخرين يبدو الزمن عند “هيدغر” “بلا نهاية في ذهن كلِّ إنسان؛ لأنَّه النهاية نفسها بالمعنى الأكثر راديكالية للكلمة”. ولذا “حينما عرَّف “أينشتاين” الزمن بأنه البعد الهندسيُّ الرابع، رَدَّ عليه “هيدغر” بأنَّ الزمن هو الرباعيُّ الأبعاد”، أي أنه هو ذاته لا حصر لأبعاده وآماده.
أما عند علماء الفيزياء، فنسجِّل وصف “إسحاق نيوتن” الزمن بأنه “شيء في ذاته وطبيعته يتدفق تدفقا متساويا”؛ أي أنه على “صورة نهر وجدول”. لكنَّ فكرة التدفق المتواصل قد نقضت من قبل علماء آخرين؛ منهم “لويس روجيه” الذي قال: “إنَّ الزمن غير متدفق باستمرار، وإنما هناك ذرَّة زمنية”.
ولقد أعدّت الكثير من البحوث حول مفهوم وشكل الزمان بين “أينشتين” و”برغسون”؛ وبخاصة ما يتماول “الديمومة” و”الوجود”، و”تتالي الآنات”… الخ.
ونسجل مما مرَّ أنَّ بعض التعاريف نحت منحى موضوعيا في بيانها لماهية الزمن؛ بينما ركَّزت أعمال أخرى، على الجانب الذاتي للزمن؛ وهم يعترضون على الزمن الموضوعي بأنه لا يستطيع أن يطبق على زمن “الذات الإلهية”، أو على أيِّ زمن ميتافيزيقي، خارج حدود المادة.
الحقُّ أنَّ صورة الزمن تشكل الرؤية الكونية لدى أيِّ شخص، عالِما كان أم دون ذلك؛ وتركِّب النماذج الإدراكية عند كلِّ أمَّة، متمكِّنة كانت أم متخلفة
صورة الزمن كما عرضها محمد إقبال
ونورد إضافة معتبرة في هذا المجال، لفيلسوف الإسلام محمد إقبال؛ وبخاصة من خلال كتابه “تجديد الفكر الديني”؛ فلقد نقد الزمن الموضوعيَّ نقدا لاذعا، مستشهدا بما أبدعه ثلة من علماء الإسلام المتأخِّرين؛ إلى أن انتهى إلى القول: “عندما نرتفع إلى أعلى فأعلى في سلَّم الكائنات غير المادية، فإننا نصل إلى الزمن الإلهي، ذلك الزمن الذي يخلو تماما من صفة المرور، وبالتالي لا يقبل الانقسام ولا التتابع ولا التغير، إنه فوق القِدم، فوق الأبدية، ليس له بداية ولا نهاية” إلى أن ينتهي إلى خلاصة قيمة، وهي “أنَّ أولية الذات الإلهية ليست راجعة إلى أولية الزمن، وإنما أولية الزمن هي التي ترجع إلى الأولية الإلهية”.
ويسجل إقبال ملاحظة ذات مغزى في سياقنا، وهي “أنَّ الإمام فخر الدين الرازي، هو أكثر علماء الدين الإسلامي اهتماما بمشكلة الزمن، فهو يخضع للبحث والفحص مشكلة الزمن في كتابه المباحث الشرقية، مستعرضا كلَّ نظريات الزمن في عصره”
ولقد ضرب الإمام الرازي أروع مثال في التحقيق العلمي، وفي خُلق العالم، بإعلانه صراحة عن عجزه إدراك ماهية الزمن، قال: “اعلم أنه حتى الآن لم أستطع أن أكتشف بالفعل أيَّ شيء عن حقيقة الزمن”.
وينتهي إقبال إلى رأيه، وهو “أنَّ وجهة النظر الموضوعية البحتة لن تساعدنا إلاَّ قليلا في فهمنا لطبيعة الزمن، والسبيل الصحيح هو التحليل النفسي الدقيق لتجربتنا الشعورية، فهو وحده الذي يكشف طبيعة الزمن الحقيقية”، وهذه الطبيعة حسب رأيه هي “أنَّ زمان الذات المطلقة يتكشف باعتباره تغيرا بلا تتابع، أي كُلاًّ وضعيا، يبدو ذريا، بسبب الحركة الخلاقة للذات”. وهو بهذا يعطي للزمن أبعادا أخرى غير البعد المادي الطبيعي الفيزيائي، فيصير كأنه معلم ثلاثي الأبعاد: البعد الإلهي، البعد الذاتي، والبعد المادي؛ مع الاعتراف أنَّ البعد الثالث هو أقلُّ الأبعاد شأنا ومكانة وقدرا؛ وأنَّ الأوَّل هو الأساس، وهو الحقيقة المطلقة، وأنَّ البعد الذاتي هام لكنه محدد في التقدير والإحساس والشعور، غير مؤثر على حقيقة الزمن كما هي.
ثم يقرر في الأخير أنَّ هذا الجانب “صعب” حقًّا، وهو من المباحث الفلسفية العميقة والمستعصية.
صورة الزمن عند فتح الله كولن
أمَّا فتح الله كولن، فيعود بنا إلى “الصورة النبوية” للزمن، ويقول “إنَّ صورة الزمن هي صورة لولبية (spiral)، مربوطة بمركز (central)، ممتدَّة نحو الأبد” ومن ثم يناقض نظرية “نيتشه”، ويقول: “إنه ليس مستديرا”؛ وفي مقال آخر، بعنوان “المعيَّنية إلى حدٍّ ما”، ينحو فتح الله ذاتَ المنحى، ويردُّ على “جون دِيوي” في مقولته الشهيرة، والتي يكررها الناس كثيرا بلا تحقق ولا تحقيق، وهي قوله: “التاريخ يعيد نفسه”، فيقول فتح الله: “التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يشبه نفسه”.
والذي يقابل مفهوم الزمن الدائري، هو مفهوم الزمن الخطي “الذي يبدأ ببداية ونهاية محددة، ويسير وفقا لخط مستقيم، وهي الفكرة التي ترسخت لدى مفكرين وفلاسفة غربيين من خلال مفهوم الزمن المسيحي الذي ينظر للوجود على أنه ذو بداية ونهاية، فالبداية مع خلق آدم عليه السلام والنهاية مع يوم القيامة”. وفتح الله كذلك يناقض هذا المفهوم، ويقول: “إنه ليس خطا مسطحا مستقيما”. ثم يضيف تفصيلا آخر، وبعدا آخر بقوله: “بل فيه صعود ونزول”. وإنَّنا لنسأل عن دلالة هذا الصعود والنزول، التي تبدو جديدة غير مألوفة؛ فهل تعني الصعود والنزول في المكانة والمعنى، أم هو صعود ونزول طبيعيٌّ ماديُّ لا يحسُّ، أم هو أمر آخر؛ ونترك الأمر للبحث والتقصي الحقيق.
أمَّا أصل الزمان، وأسه، ومادته، ومنطلقه، فهو من بعد آخر غير الأبعاد المادية المألوفة بخاصة لدى علماء الفيزياء؛ وغير الأبعاد النفسية التي أوغل كانط في ردِّ جميع الزمن إليها؛ إنَّ أصل الزمن يعود إلى “خالق الزمن”، كما أشار إلى ذلك محمد إقبال بقوله: “عندما نرتفع إلى أعلى فأعلى في سلَّم الكائنات غير المادية، فإننا نصل إلى الزمن الإلهي”؛ لكن ليس الحكم هكذا بالتعميم، ولا بنفي الأبعاد الأخرى من الزمان، والحلول في الحقيقة الواحدة حلولا مطلقا؛ وإنما بتفصيل جاء فيه: “ووجود كائن الزمان الحقيقي هو لوح المحو والإثبات” ثم يستشهد فتح الله بقوله تعالى( يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب (الرعد:39؛ ولا شكَّ أنَّ الزمن والوقت مما يمحوه الله تعالى ومما يثبته؛ وليس خارج قدرته ولا متحكما فيه حاشاه.
وتفصيل حقيقة “المحو والإثبات”، وعلاقته بالزمن، في فكر الأستاذ فتح الله، مما يجدر تخصيص بحث خاصٍّ به؛ وبخاصَّة أنَّ الأستاذ بديع الزمان النورسي نفسه، له خطرات ونظرات في هذا المعنى الجليل.
يقول فتح الله في مقطوعة رمزية، من كتابه “ألوان وظلال”، بعنوان “حقيقة الزمن”:
إلهيُّ المنشأ، كوني المصبّ…
لَوْلَبِيُّ المسير، إلى الأبد يسير..
ما هو بالمستدير، ولا بخطّ مستقيم..
يصعد تارة، وينزل أخرى…
فحقيقة الزمن لوح المحو والإثبات،
يمحو الله ما يشاء ويثبت…
ويرى فتح الله، على غرار “أينشتاين” أنه “لا يمكن التحدث عن الزمان وعن المكان بشكل منفصل، لارتباط أحدهما بالآخر”. وبيان ذلك “أنَّ الزمن يملك وجودًا اعتباريًا (اسميًّا)، والمكان هو الذي يجعل الزمان بعدًا للأشياء وللحوادث، بدون المكان لا يكون للزمان وجودٌ”. أمَّا ما نطلق عليه اسم “المكان” فهو عبارة عن عالم المادة، أي عالم الذرَّات. لذا فعندما تتم البرهنة على عدم أزلية المادة، يظهر أمامنا عدم أزلية المكان والزمان، وأي شيء لا يملك صفة الأزلية لا يمكن أن يكون خالقًا ولا أن يظهر للوجود بنفسه تلقائيًا”.
ولقد عالج فتح الله “مفهوم الأزل والأزلية”، و”الأبد والأبدية”، هل هما داخل الزمان، أم أنهما من بعد آخر خارج الزمان؛ ذلك أنَّ لهذه الصورة والمفهوم أثرا في العقيدة، وبخاصة في الذات الإلهية سبحانه، وذلك حين نقول: “هو الأول والآخر”، وأنه “أزلي أبدي، لا أول له ولا آخر”، أو حين نقرأ قوله سبحانه(: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (الإخلاص:3، ولتفصيل هذا المعنى يقول الأستاذ: “لنبين أولاً بأنَّ الظاهر هو أنَّ الذين يقولون بأزلية المادة لا يعرفون معنى الأزلية. فلو وضعت أصفارًا بعدد رمال جميع الصحارى في الأرض أمام الرقم واحد، لعدّ هذا الرقم الهائل صفرًا بالنسبة للأزل. وكذلك الأمر بالنسبة لأكبر عدد يمكن أن يتفتق عنه ذهن الإنسان أو يستطيع التفكير فيه أو تخيله فهو أيضًا يعد صفرًا بالنسبة لمفهوم الأزل، لأن الأزل يعني اللانهاية، والشيء الأزلي يتصف بما يأتي:
والنتيجة أنَّ الزمن خلق من خلق الله، وهو مثل المكان حقل للعمل الصالح، وهو محلُّ سؤال من الله عز وجل يوم القيامة، يتحرك بشكل حلزونيٍّ له مركز ومرجع
لا يكون مركبًا،
ولا يتركب،
بل يكون بسيطًا وغير قابل للتجزئة،
لا يتغير أبدًا،
ولا يمكن التدخُّل فيه،
يكون خارج الزمان والمكان، أي يكون خارج كلِّ حركة متعلقة بالزمان والمكان،
يكون أبديًّا، لأنَّه في جميع الأحوال خارج الزمان،
ولكون الأزل والأبد خارجي الزمان، فهما يلتقيان في نقطة واحدة بوجه من الوجوه، ولا توجد أيُّ خاصية من هذه الخواص في المادة؛ فالمادة متغيرة، ولا يمكن تصورها خارج نطاق الطاقة حسب ما يقرره قانون الديناميكية الحرارية (الثيرموديناميك)، كما أنها صالحة لكلِّ نوع من أنواع التراكيب.. ثم إنها موجودة تحت قيد الزمان والمكان”.
وبهذا يوضّح فتح الله خلل نظرية التطور، وكذا كل النظريات التي تحاول من خلال رؤية كونية طبيعية موضوعية مادية، أن تخضع الغيب، وبالخصوص “ذات الله عز وجل” إلى قوانين الكون والطبيعة والنطور؛ جهلا منها بحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الزمان.
صورة الزمن، من الرؤية الكونية إلى الفعل الحضاري
كلُّ علم لا ظلَّ له في خط الحياة، ولا امتداد له إلى ما بعد الممات، هو من فضول العلم، وهو ترفٌ وتشدُّق، لا حاجة إليه، والأمَّة تئنُّ وتترنَّح، متشوِّفة متشوِّقة إلى بصيص الأمل، وإلى الغد المشرق الوضَّاء؛ ومن ثمَّ وجب أن يكون الحديث عن “صورة الزمن” طاعة للحقِّ، نفعا للخلق؛ فالسؤال الجوهريُّ إذن، هو: ما علاقة صورة الزمن بالعمل الصالح المرتقب، والفعل الحضاريِّ المروم؟ وهل تناول العلماء والمفكِّرون -ومنهم إقبال وكولن- هذا الموضوع من باب السياحة العقلية العابثة؟ أم أنَّ لهم مقاصد وغايات أخرى، وجب الكشف عنها؟
الحقُّ أنَّ صورة الزمن تشكل الرؤية الكونية لدى أيِّ شخص، عالِما كان أم دون ذلك؛ وتركِّب النماذج الإدراكية عند كلِّ أمَّة، متمكِّنة كانت أم متخلفة؛ ثم إنَّ الرؤية الكونية، والنموذج الإدراكي يصنعان الحكم، والحكم يتبلور إلى موقف، ثم الموقف ينزل إلى أرض الواقع فعلا، وعملا، وحركية… فيكون بالتالي ظلا لأصله، وثمرة لغرسه؛ وبهذا الاعتبار تؤثر “صورة الزمن” في عمل الإنسان سلبا أو إيجابا؛ من حيث يعلم أو لا يعلم.
فالذي يرى الزمن “دائرة” تعيد نفسها، يكون تفكيره أقرب إلى “الجبرية”، وإلى سلب إرادة الإنسان، ذلك أنها لا تستطيع أن تخطو خطوة مخلتفة، أو ترقى مرتقى أعلى؛ ومعلوم أنَّ اعتقاد الجبر قاتل للمبادرة، مبيد للحركية، مولِّد للسكون؛ فيذكر أحدُ علماء الاجتماع -مثلا- أنَّ المجتمعات البدوية الرتيبة، تنظر إلى الزمن من هذا المنظور، ولذا فهي تدخل في “دائرة فاسدة”، كلُّ يوم فيها يشبه الآخر، وأيُّ حديث عن المستقبل أو عن التطور، ما هو إلا تمرُّد، وهو خروج عن المألوف. فالسكون هنا هو سيد الموقف.
أمَّا من يرى إلى الزمن على شاكلة الخطِّ المستقيم، فهو يلغي أيَّ تشابه بالماضي أو الحاضر، ومن ثم كانت اللحظة التي يقف عليها هي المبدأ وهي المنتهى، فهو أقرب إلى الوجودية المفرطة، منه إلى أيِّ نموذج إدراكيٍّ آخرة. ونظريات التطور -وكذا النظريات الدرامية- جميعها تستقي من هذا النبع، وتجد في الزمن الخطي تفسيرا لمذاهبها. وكذا الفيزياء المعاصرة التي تؤمن بالسببية، وبتلازم السبب والنتيجة، وتبني مشروعها العلمي على “السببية” وحدها (causality)؛ علما بأنَّ هذا المفهوم نفسه قد عرف اهتزازا على يد علماء ما بعد النسبية، أي أصحاب نظرية الكم، ومَن والاهم من أمثال: هايزنبرغ، وبور.
فقط الصورة الحلزونية، المستقاة من القرآن الكريم والسنّة الطاهرة، هي التي تجمع بين إعادة التاريخ نفسه باعتبار، ووجود الحركية نحو الأفضل باعتبار آخر، أي بين الجبر والاختيار؛ فالتاريخ يشبه نفسه حين يعاود الناس ذات الأسباب؛ فالذي يتكرر إذن هو “السبب والسنة والناموس” المتكشل على شاكلة “النتيجة، والأثر، والواقع”؛ أما الأسماء والأشكال والظروف، فلا تتكرر ولا تتردَّد؛ وهنا يقف الإنسان موقفا إيجابيا من “قانون تلازم السبب والنتجية”، فيحرص، لو أراد إعادة زمن ما، على أن يعيد أسبابه، فيعود بروحه، ومعناه، لا باسمه ومبناه.
وثمة مرحلة ثالثة، ومقام أسمى، ألا وهو ربط مقام التعلق بخالق الزمن والمكان، وهو سبحانه خالق الإنسان؛ فلو أراد امرؤ أن يعلو فوق الزمن، وأن يتحكم فيه، وأن يسخِّره ويضبط ناصيته، ويروِّضه ترويض الفرس الجموح أو الحرون؛ فما عليه إلا أن يرتبط ارتباطا وثيقا مباشرا بـ”صاحب الزمن ومالكه وخالقه” سبحانه وتعالى، يقول فتح الله:
فإن أردت أن يخضع لك الزمان وينقاد…
فإلى “صاحب الدهر جل جلاله” اسْتسلم،
وإلى حقيقة الزمان تَنبّه…
ولعلَّ هذا من معاني قوله تعالى في الحديث القدسي «أنا الدهر بيدي الأمر»، وفي رواية: «لا يقولن أحدكم “يا خيبة الدهر”، فإني أنا الدهر، أقلّب ليله ونهاره، فإذا شئتُ قبضْتُهما»؛ سبحانه وهو القائل في محكم تنزيله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)، ولقد فسر عليه السلام هذه الآية تفسيرا جامعا مانعا: «يغفرُ ذنبًا ويكشفُ كربًا ويرفع قومًا ويضع أخري» (رواه ابن ماجه)؛ وهذا مدلول قول البعض: “سبحان الذي يُغيّر ولا يتغيَّر”.
والنتيجة أنَّ الزمن خلق من خلق الله، وهو مثل المكان حقل للعمل الصالح، وهو محلُّ سؤال من الله عز وجل يوم القيامة، يتحرك بشكل حلزونيٍّ له مركز ومرجع، يتعلق بالأزل والأبد باعتبار، ويتحرر عنهما باعتبار؛ ولا يمكنه اعتبار الأزل والأبد داخل هذه الحركة، وإنما هما فوق الزمن؛ وفي الإمكان التحرر من قيود الزمان والمكان، بالارتباط بربِّ الزمان والمكان؛ سبحانه (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آلِ عِمْرَان:40)، (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرَّعْد:41)، وهو (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2-3). وما على المرء إلاَّ أن يغتنم حركة الزمن، ويشكر نعمة الوقت، ويعمره بالعلم النافع والعمل الصالح؛ فإنه يوم القيامة، حين يغير الزمان شكله وصورته، بأمر من الله تعالى، سيكون ثمة خلود إلى الأبد، إما نعيم مقيم، أو جحيم دائم؛ ويومها فقط سندرك الكثير مما خفي علينا في دنيانا، ومنها صورة الزمن على حقيقتها.
فاللَّهُمَّ علِّمنَا ما ينْفَعُنا، وانْفَعْنا بمَا علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلمًا وهُدًى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: من كتاب “الزمن والوقت”
Leave a Reply