جُبِلت الأعينُ على النظر إلى الجانب الظاهر من جبل الثلج، واعتادت الألسن وصف مظاهر الأشياء والتغنِّي بها؛ إذ قلَّ من العقول ما ينقِّب في الأسباب، وندر من القلوب ما يتعلَّق بمسبِّب الأسباب؛ ولقد أنَّب الله تعالى علماء بني إسرائيل، بأنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الرُّوم:7). بل إنَّ الله سبحانه، تعليما لنا وتربية، هدانا إلى اتباع الأسباب، فقال عن سيدنا ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (الْكَهْف:84-85)، وقال عن الشجرة الطيبة، وعن الفرع الزكي: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إِبْرَاهِيم:24).
ولقد قال الشاعر الحكيم:
ما طابَ فرعٌ أصلُه خَبيثُ ولا زَكا مَنْ مَجْدهُ حديثُ
ونسب لابن دريد قوله:
ما طابَ فرعٌ لا يطيبُ أصلهُ حمى مؤاخاةَ اللئيمِ فِعْلُهُ
لطالما زارت الوفود مشاريع الخدمة، وخطَّت كلمات صادقة، ومقالات بديعة، في بيان تميُّز هذه النقلة الحضارية عن غيرها، مبنًى ومعنًى؛ ولطالما أبهِرت الجموع بالسعة والعدد والجودة والدقة… فلهجت الأفئدةُ بالدعاء للمولى الجليل أن يحفظ القائمين عليها، ويجزل لهم المثوبة والأجر، وأن يكتب انتشار تلكم الآثار في ربوع الإسلام مشرقا ومغربا.
ولعلَّ أكثر الأسئلة تردُّدا من قبل الزوار، هو: “كيف يمكن أن نستفيد من الخدمة، فكرا وفعلا؛ وهل يمكن أن نستنسخها، أم الواجب هو تكييفها؟ وكيف يتمُّ ذلك؟”
من لم يعرف علاقة الأستاذ كولن بالعلم والتعليم، لا يدرك حقيقة الأستاذ ولا دلالة الخدمة.
ولعلَّ الجواب يكمن في أنَّ الشجر، والتراب، والماء، والهواء… لا يمكن نقلها من بلد إلى بلد، وأنَّ الذي يمكن نقله هو “الإيمان”، و”المعرفة”، و”الحكمة”، و”الخرِّيتية”، و”العلم”، و”المنهج”، و”الخلق”… أي إنَّ الذي يمكن نقله هو من طابع “عرفاني، معرفي، معنويٍّ” محض، وليس من طبيعة مادية صلبة صلدة مصمتة؛ وإلاَّ لَما أمكن نقل الإسلام بين عصر وعصر، ولا بين مصر ومصر؛ وما انتشر الإسلام إلا بما يحمل من المعنى، وبما يرشح به من أبعاد إنسانية، روحية، إيمانية، عميقة.
ولقد قال قائل عن الأستاذ فتح الله: “من لم يعرف ليل الأستاذ لم يعرف الأستاذ”؛ ويصدق أن نضيف: “ومن لم يعرف علاقة الأستاذ بالعلم والتعليم، لم يدرك حقيقة الأستاذ، ولا دلالة الخدمة”. ونختصر الخدمة في تعريف موجز، فنقول: “هي الحياة، حين تتبدَّى في صورة: مدرسةٍ للوحي المبين، والخلق المتين، والعلم الرصين”. ومن ثم صدق أن نقول: إنَّ الحياة في عرف الأستاذ مدرسةٌ، وإنَّ المدرسة حياةٌ؛ لكن ليس ذلك خطابة ورصًّا للكلمات؛ ولكنها الحقيقة حين تلامس خط الزمن.
والحق أنَّ الصفة التي لا تنفك عن الأستاذ هي صفة “المجدِّد”؛ وإذا ما رمنا تفصيلا قلنا إنه مجدِّد في الدرس والتدريس، مجدِّد في الفكر والمعرفة، مجدد في المنهج والطريقة، مجدِّد لأمر الدين والتديُّن… ولكنَّ أكثر المجالات التصاقا بحياته هي مكابدة العلم، والصبر فيه وله؛ لكأنَّه تمثَّل قولة سيدنا موسى عليه السلام، للخضر عليه السلام: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(الكهف:69).
والكتابة عن حلق الدرس في تراث الأستاذ يستدعي ملازمة ومعاينة طويلة، ولا أعرف مقالا واحدا، بله أن يكون بحثا أو دراسة باللغة العربية، تناولت هذا الركن من فكر الأستاذ؛ ولولا مقال لأحد تلامذته الملازمين له لسنوات، والذي نشر في مجلة الأمل الجديد، وترجمنا معانيه إلى العربية، لَما أمكن أن نخطَّ هذه الفقرات في بيان منهج الدرس والتدريس عند الأستاذ فتح الله كولن.
ولقد ارتأينا أن نعرضه على شكل نقاط، لا على شاكلة مقال مسترسل، لتعذُّر ذلك، آملين أن ينبري من يتولَّى مهمَّة اكتشاف الجانب المخفيِّ من جبل الثلج، وأن يبدع في عرض البذور والجذور والأسباب، التي بها اكتمل صرح “الخدمة”، وبغيرها لا يكون للخدمة رَوْح ولا ريح:
1-غاية العلم: الغاية من الدرس والتدريس عند الأستاذ تتمثل في “إيصال الإيمان إلى أفق المعرفة، وتعميق المعرفة بالمحبَّة”، فهي إذن نيل رضا الله تعالى، والاستجابة لأمره بالدعوة والإرشاد، وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنَّ الحياة في عرف الأستاذ كولن مدرسةٌ، وإنَّ المدرسة حياة، لكن ليس ذلك خطابة ورصًّا للكلمات، ولكنها الحقيقة حين تُلامِس خط الزمن.
2-الإقليم الروحيُّ: يذكر صاحب المقالة أنَّ ما يتميز به جو الدرس من روحانية وواردات وفيوضات يجعل مجرَّد الوصف الأدبي قاصرا عن إيفاء التجربة حقها ومستحقها، ولذا يصدق أن يقال عنها: “من ذاق عرف”؛ فحلقة الأستاذ ليست قسما كلاسيكيا، يملي المعلومات، ويعرض النظريات، ويجري الامتحانات، وكفى. ولكنها إقليم روحيٌّ، ومعبدٌ حقيق، وميدان للشحن والشحذ القلبي والعقلي على السواء.
3-الامتداد العثماني: تضرب حلقة الأستاذ جذورها في التراث الإسلامي بعامَّة، والتراث العثماني بخاصَّة.
4-تطوير المنهج التقليدي: مِن أصول فكر الأستاذ فتح الله أنَّه يحترم الماضي، ويرنو للمستقبل، ويعمل في الحاضر؛ وهو يبغض الاجتثات من الجذور، ويمقت التهوين من تراث الأمَّة في جميع مراحلها؛ وهو مع ذلك لا يتحجَّر، ولا يقبل التنميط في الوسائل والمناهج والآليات؛ ففي منهج الدرس، إضافة إلى استفادته من المدارس العثمانية، طور تقنيات عديدة، وأضاف مصادر جديدة، وأحدث أساليب مفيدة؛ ولقد استفاد من مناهج التربية والتعليم المعاصرة أيما استفادة، ولم يقف منها موقف المنبهر، ولا موقف الناقم.
5-التواضع والخلق الحسن: من فرط تواضع الأستاذ أنه لا يستعمل ألفاظا تنمُّ عن الفرق بين العالم والمتعلم، وإنما يقول: “إننا نتذاكر مع الإخوة”، ثم إنَّ نقده لأيِّ رأي لا يأتي بأسلوب مباشر، لكن بصيغة متأدبة غير متكلفة.
6-رغبة الطالب، وفراسة الأستاذ: العلم من أرفع أنواع الحبِّ والعشق؛ فمن أحبَّ تعلَّق، ومن عشق تبحَّر؛ ولذا يحرص الأستاذ دوما على أن “يقدِم الطالب إلى الدرس ببعاعث من عنده، وبتوجُّه من قلبه”، وهو في ذلك يراعي أحاسيس الطلبة، ويتحسَّس نبضات قلوبهم، وخطرات أفئدتهم، بفراسته التي تحيِّر معاشريه. وفي الأثر: “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”(رواه الترمذي).
7-اختلاف الرأي: يعبِّر الأستاذ عن رأيه للطلبة المشاركين في دروسه، منبّهًا أنه يمكن أن توجد آراء ووجهات نظر مختلفة لا تتعارض مع القواعد الأساسية للدين، بل لا بد أن توجد؛ ويعلِّل ذلك بأنَّ كلَّ شخص يعتبرُ ابن الزمان من وجهٍ؛ ثم إنَّ لكل زمان واردات هامَّة حسب الفترة والظروف التي يحيط بها في تفسير جوانب الدين القابلة للتفسير (التأويل)، من جهة أخرى. والواجب على كلِّ مسلم أن يدرس ظروف زمانه الذي يعيش فيه، حاملا معه وارداته، وأن يطبق القيم التي يؤمن بها في الواقع.
8-حرمة العلماء: يرفض الأستاذ كلَّ تنقيص أو خدش في العلماء الفطاحل، ولا يسمح بأيِّ قول ينال منهم، أو يستخفُّ بهم، كأن يقال فيهم “إنهم لم يفهموا هذه المسألة” أو غيره. ومن ذلك أنه “كثيرًا ما يؤكِّد على وجوب التأدُّب تجاه أقوال ووجهات نظر العلماء في دراسة أصل من الأصول الإسلامية؛ وإلى جانب ذلك يعبر عن رأيه في المسألة، بشرط أن يوافق محكمات الدين ولا يناقضها قائلاً -مثلا-: “الإمام ابن كثير هكذا قال، إلاَّ أن هناك -قاصدًا نفسه- لابن قليل وجهة نظر”، أو “للفقير والقطمير أيضًا تعليق وملاحظة”، هكذا كان يعبر عن وجهة نظره في غاية التواضع.
حلقة الأستاذ ليست قسما كلاسيكيا، يملي المعلومات، ويعرض النظريات، ويجري الامتحانات، وكفى. ولكنها إقليم روحيٌّ، ومعبدٌ حقيقي، وميدان للشحن والشحذ القلبي والعقلي على السواء.
9-التحضير للدرس: قال العقاد عن مؤلفاته: “إنها ليست مروحة للكسالى”؛ ويصدق أن نقول عن مجالس الأستاذ: “إنها ليست صالونا للكسالى”؛ ولذا فإنَّ الطالب الملتحق بحلق الأستاذ يصل الليل بالنهار، ولا يلتفت إلى تعب ولا مرض ولا داع للنفس والهوى؛ ومن ذلك أنه “يذاكر الطالب جيدًا قبل المجيء إلى الدرس، وقد يستغرق ذلك سواد الليل كله؛ حيث يحلل العبارات ويحاول فهمها، مستعينًا بالمنجد، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، وتاج العروس بدايةً، ثم بسائر الكتب من الفقه، والتفاسير، والشروح، وسائر المصادر والمراجع التي يحتاج إليها الطالب، ويبذل قصارى جهده في تحضير الدروس”. وأثناء الدرس يقدِّم الطلبة مادتهم في حضرة الأستاذ، وهو يقوم من آن لآخر بتوضيح ما خفي، ويجيب على الأسئلة، ويضيف وجهة نظره وتعليقاته على آراء العلماء الذين يقرأ لهم، بأدب واحترام بالغين”.
10-تمرُّس المعاجم والقواميس: يعوِّد الأستاذ طلبته على استخدام المعاجم لتعلم اللغة بطريقة صحيحة، وضبط الكلمات مع فوارقها الدقيقة. ويذكر أنَّ بديع الزمان النورسي كان يحفظ من القاموس المحيط عن ظهر الغيب أكثر من ألفي صفحة، حفظا متقنا.
11-العلاقة بالكتاب: ليس مثل الكتاب مدرِّسا ومعلِّما؛ ومن ثمَّ حرص الأستاذ على ربط طلبته بأمّهات المصادر، إضافة إلى مدارستها في الحلق؛ فحين يجد الأستاذ أنَّ ثمة كتابا جديرا، وهو ليس مما قرِّر في الحلقات، يأذن لطلبته بتلخيصه، ثم عرضه على المجموع؛ وبهذا عالج معضلة كثرة الكتب وندرة الوقت.
12-اختيار الكتاب: عندما ينوي الأستاذ تدريس كتاب في مجال ما يقول لطلبته: “هناك كتب حول هذا الموضوع بهذه المميزات، وبإمكانكم أن تختاروا واحدًا منها ثم ندرسه”، وأحيانًا يوجه الإخوةَ إلى كتاب معيّن لما رآه مهمًّا، ذاكرًا لهم مميزاته. وهو حريص على أن يُظهر الطلبة شوقهم لمطالعة هذا الكتاب، ومن ثم يتخذه مقررًا لهم يدرَّس في الحلق. وقد يتوافق أحيانًا اختيارُ الطلبة والأستاذ لكتاب واحد.
13-منهج التلخيص: يصل حجم المادة الملخَّصة إلى عُشر الكتاب عادة، لا يزيد على ذلك، وقد ينقص؛ ويتم العرض أمام الطلبة الآخرين، ويردفه الأستاذ بملاحظات، أو إضافات، أو يثير حوارا حول مسألة معينة؛ حتى يكون الجميع قد استوعب روح الكتاب الملخَّص، دون أن يضطروا إلى مطالعته كلية.
14-علم السؤال: الأستاذ فتح الله سؤول، محبٌّ لإعمال العقل في استثارة أسئلة جديرة؛ وهو يدفع طلبته إلى ذلك، ويشجّعهم في ذلك؛ ويؤكد على أن تكون الأسئلة المطروحة “مفيدة، عميقة، مناسبة للسياق”، كما أنَّه يتمعَّض من تكرار نفس السؤال، وهو دوما يستشهد بالأثر الذي جاء فيه: “حسن السؤال نصف العلم”.
الأستاذ كولن يبغض الاجتثات من الجذور، ويمقت التهوين من تراث الأمَّة، وهو مع ذلك لا يتحجَّر، ولا يقبل التنميط في الوسائل والمناهج والآليات.
15-مواعيد الدرس: تعقد جلسات الدرس عمومًا بين صلاتَي الفجر والظهر، وفي أحايين كثيرة تعقد بعد الظهر أيضًا. وفي فترات كان الدرس يبدأ بعد الفطور بقليل ويستمر حتى الظهر، وفي أخرى يبدأ بعد الفجر مباشرة حتى الفطور ويستمر بعده. وقد سبق أن عُقدت مجالس للدروس قبل صلاة الفجر بساعة، واستمرَّت حتى الأذان، فكتاب “تحفة الأحوذي” مثلاً، قد تمت قراءته في هذه الفترات التي قبل صلاة الفجر بساعة وحتى الأذان. ولقد تمت قراءة كتاب “كنز العمال” بجميع أجزائه في رمضانٍ واحد، في المجالس التي بعد صلوات الفجر والمغرب والتراويح والسحور، ولقد تستغرق الجلسة ساعات طويلة.
16-الخطأ في الدرس: كيما يتفادى الطالب الخطأ في قراءة النص المكلَّف به فإنه يذاكره بحيث لا يخطئ إعرابيًا أو ينطق الكلمات خطأً، ولذا يستعين بالكتب التي ألِّفت في هذا المجال عند اللزوم، إذ إنَّ قراءة نصوص القرآن فالحديث النبوي وتلفُّظ أسماء الرواة صحيحًا خاليًا من الخطأ من الأمور التي يشدِّد عليها الأستاذ كثيرًا، ويعبِّر عن اهتمامه بها بقوله: “قد تخطئون في قراءة نصوص عربية، ولكن لا تخطئوا في قراءة الآيات”. وإذا ما أخطأ الطالب صحَّح الأستاذ الخطأ في غاية الرفق والخجل؛ حيث يهمس بالصحيح همسًا.
17-القراءة التحقيقية: لا تقرأ المصادر أثناء الدرس قراءة رتيبة جافة؛ فالأستاذ أثناء المطالعة يحلل، ويقارن، ويحقق، وينقد… فيعطي للنص المقروء نفَسا جديدا؛ وهو يعلِّم طلبته فقه التنزيل جنبا إلى جنب مع فقه التأويل؛ ولقد يستدعي مرجعا أو أكثر للتدقيق في مسألة عنَّت، أو إشكال حصل. وهو مع ذلك يستحثُّ فكر طلبته، ويدفعهم للحرية في التعبير عن الرأي بأدب جمٍّ. ويحرص على أن يتم تنقية واردات العصر من خلال هذه المصافي، والوصول بها إلى تأويلات جديدة.
18-لكلّ فنٍّ منهجه: درَّس الأستاذ اللغة بفروعها، والفقه والأصول، والتفسير والحديث… وغيرها؛ وهو في كلّ فنٍّ يبدع منهجا لائقا به، معتبرا في ذلك نوعية المصادر، وملكات الطلبة، والحاجة العملية، والسياق الزماني والمكانيِّ… وغير ذلك.
19-فوائد مطالعة أمهات المصادر في حلق الدرس: لا شكَّ أنَّ قراءة النصوص التراثية، والمكابدة في فهمها، يكسب الطالب ملكات عديدة، منها: تغلب الطالب على مخاوفه إزاء النصوص، وتعوُّده على المصادر؛ وتطوير ملكات القراءة السلسة المنسابة؛ والتمكُّن الطالب من التبحر في الكتب الأساسية أكثر فأكثر.
20-الدعاء والدرس: للأستاذ مع الدعاء في حياته نفحات؛ ومن ذلك أنَّه لا يغادر الدرس ابتداء وانتهاء؛ فهو يستهلُّ درسه بالدعاء الملحِّ، وبالتضرُّع إلى الله أن يفتح عليه وعلى طلبته بالفهم واليقين؛ ولقد حُفظت العديد من الأدعية التي ألفها هو بنفسه، واعتاد على قراءتها أول الدرس. من ذلك قوله: “الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهمَّ ربنا زدنا علمًا وإيمانًا ويقينًا وتوكلاً وتسليمًا وتفويضًا وثقةً واطمئنانًا واعتمادًا عليك، وإخلاصًا ووفاءً وصداقةً ومعرفةً ومحبةً وعشقًا واشتياقًا إلى لقائك، وعفةً وعصمةً وفطانةً وحكمةً وحافظةً دائمةً، وصحةً دائمةً كاملةً، وعافيةً دائمةً كاملةً، وقلبًا سليمًا. اللهمَّ حولاً وقوةً من حولك وقوتك، يا أرحم الراحمين”.
الأستاذ كولن عندما يريد أن يعبر عن وجهة نظره كان يقول بأدب: “الإمام ابن كثير هكذا قال، إلاَّ أن هناك لابن قليل -قاصدًا نفسه-وجهة نظر أخرى”.
21-وصية الأستاذ لطبته: نُقل عن الأستاذ أنه قال لبعض طلبته: “أنا ليس لي عليكم من حقٍّ، وإن كان لي ذلك كنت طلبتُ منكم أن تقوموا بمهمَّة تدريس الطلبة حتى تقبض أرواحكم..”. فمهما كبر الطلبة وأصبحوا أساتذة كان يوصيهم الأستاذ بأن يبقوا طلبة دوما، وذلك بذكره مثال نور الدين الهيثمي الذي تتلمذ على يد شيخه زين الدين العراقي طوال حياته. وأحيانًا كان يقول مداعبًا الطلبة: “إنَّ الملائكة تقبض أرواح طلبة العلم بمناولتهم العسل والقشدة، ومن غير أن تؤلمهم” حاثًّا إياهم على أن يبقوا طلبة دائمًا، وعلى شوق التعلم ولهفه أبدا. ثم على أن يلازموا التعليم وتنظيم حلق الدرس طول حياتهم؛ حتى لا ينقطع حبل العلم والخير بحول الله تعالى.
قائمة الكتب التي درَّسها الأستاذ
لا شكَّ أنَّ حصر جميع الكتب التي درَّسها الأستاذ، على مدى عقود، وفي أفواج متعاقبة، يكاد يكون أمرا مستحيلا؛ غير أنَّه يسجَّل أنَّ الكثير منها درَّسه الأستاذ مرات عديدة، على أفواج مختلفة؛ ثمَّ إنَّ الأستاذ -لولا مراعاته لملكات وقدرات طلبته- لكان الشأن غير هذا الشأن، ولكَم عبر عن رغبته في تدريس جميع ما اشتهر في فنٍّ من الفنون، من جميع المذاهب والمشارب والأعصار والأمصار؛ لكن الظروف لا تسمح.
ثم إنَّ القارئ لقائمة مؤلفات الأستاذ قد يتوهَّم أنَّه تراثي صرف، إلاَّ أنَّ الصواب هو التذكير بأنَّه قد التهم مصادر في الفلسفة والفكر، وحتى الكثير من كتب الفيزياء والكمياء وغيرها؛ وهو كلما وجد كتابا ذا شأن في علم من العلم، حوَّله إلى أحد طلبته ليلخِّصه في الحلقة الدراسية؛ وبهذا جمع بين الالتزام التراثيِّ المكثف، والانفتاح العصريَّ الممنهج. ولعلَّ من المناسب -بعد هذا العرض لمنهج الدرس عند الأستاذ- أن نورد قائمة أولية لِما درَّسه الأستاذ في حلقه، داعين من الله تيسير السبل لغربلتها، وإنما يكفي أن تُعطَى صورة شفافة عن الواقع، لا أن تصاغ صورة مثالية لما قد يحتاج إلى بحث متخصص، من عالم متخصص. والقائمة، حسب الفنون، هي كالآتي:
التفسير وعلوم القرآن
- تفسير الجلالين (1 مجلد)، جلال الدين المحلّي، وجلال الدين السيوطي.
- أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2 مجلد)، نصر الدين عبد الله بن عمر البَيضاوي (685هـ/1286م).
- روائع البيان تفسير آيات الأحكام (2 مجلد)، محمد علي الصابوني.
- مختصر تفسير القرآن العظيم (3 مجلد)، تأليف: ابن كثير، اختصار: محمد علي الصابوني.
- مقدمة الكشاف، الزمخشري (1144).
- في ظلال القرآن (6 مجلد)، سيد قطب (1966م).
- كلّيات رسائل النور (14 مجلد)، بديع الزمان سعيد النورسي (1960م).
- تفسير حَقْ دِيني قُرآن دِيلِي (Hak Dini Kur’an Dili) (10 مجلد)، أَلْماليلي حمدي يازير.
- الإقناع في القراءات السَّبْع (2 مجلد)، أبو جعفر أحمد بن علي بن أحد بن خلف الأنصاري (540م / 1145م).
- تأويلات أهل السنة، الإمام الماتريدي (944).
- مناهل العرفان (2 مجلد)، الزرقاني.
الحديث
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله r وأيامه (صحيح اليخاري).
- عمدة القاري في شرح البخاري (20 مجلد)، بدر الدين العيني (855 هـ/1451 م).
- فتح الباري شرح صحيح البخاري (14 مجلد)، ابن حجر العسقلاني (852 هـ/1448م).
- المسند الصحيح (صحيح مسلم) (5 مجلد)، أبو الحسين مسلم بن حجاج (261 ه/874 م).
- السنن (سنن أبي داوود) (4 مجلد)، أبو داوود السجستاني (275 هـ/888 م).
- بذل المجهود في حلّ أبي داوود (10 مجلد)، خليل أحمد السهارنفوري (1346 ه/ 1927م).
- المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داوود (10 مجلد)، محمود محمد خطاب السبكي (1352 ه/1933م).
- الجامع الصحيح (سنن الترمذي).
- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (10 مجلد)، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (1353 هـ/1934م).
- الموطأ (2 مجلد)، الإمام مالك بن أنس (179 هـ/795م).
- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (5 مجلد)، منصور علي ناصف.
- عقود جواهر المنيفة (2 مجلد)، مرتضى الزبيدي.
- كنز العمّال (16 مجلد)، علي المتّقي (975 هـ/1567 م).
- رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (1 مجلد)، زكريا النووي (676 هـ/1277م).
- الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2 مجلد)، القاضي عياض (544 هـ/1149م).
- اللؤلؤ والمرجان (3 مجلد)، محمد فؤاد عبد الباقي.
- الباعث الحثيث (1 مجلد)، أحمد محمد شاكر.
- مقدمة التجريد الصريح في أصول الحديث (Tecrid-i Sarih Mukaddimesi) (1 مجلد)، أحمد ناعم-كامل ميراث.
الفقه الإسلامي
- المختصر (1)، القدوري (428 هـ/1037 م).
- الاختيار لتعليل المختار (1 مجلد)، أبو الفضل الموصلي (683 هـ/1284 م).
- الهداية (2 مجلد)، أبو الحسن برهان الدين المرغيناني (593 هـ/1197م).
- ملتقى الأبحر (1 مجلد)، إبراهيم بن محمد الحلبي (1459 – 1549).
- الهدية العلائية (في الفقه الحنفي).
- فتح القدير في شرح الهداية، ابن الهمام.
- الفقه الإسلامي وأدلّته (9 مجلد)، وهبة الزحيلي.
- الفقه الحنفي وأدلّته (3 مجلد)، أسعد محمد سعيد الصاغرجي.
- مرآة الأصول (1 مجلد)، ملاّ خسرَو (1480).
- الوجيز في أصول الفقه (1 مجلد)، عبد الكريم زيدان.
- الموافقات (4 مجلد)، الشاطبي (780).
- المدخل (1 مجلد)، سيّد بك (باللغة العثمانية).
التصوف
- الرسالة القشيرية في علوم التصوف (1 مجلد)، الإمام القشيري (1072).
- المكتوبات (2 مجلد)، الإمام الربّاني السرهندي.
- الرعاية لحقوق الله (1 مجلد)، الحارث المحاسبي (857).
- إتحاف السادة المتّقين في شرح إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (14 مجلد)، مرتضى الزبيدي.
- نفحات الأُنْس، عبد الله جامي (898/1492).
- الرياضة التصوفية، عبد الحكيم الأرواسي.
اللغة العربية
- أمثلة.
- بناء (في الصرف)
- مقصود (في الصرف)
- عِزِّي (في الصرف والنحو واللغة)، عزّ الدين عبد الوهاب بن إبراهيم الزنجاني (1257).
- عوامل (في النحو)، الإمام البِرْكِوِيّ (981/1573).
- الكفاية، ابن حاجب (646/1249).
- الفوائد الضيائية في شرح الكفاية (ملاّ جامي)، عبد الرحمن جامي (898/1492).
- النحو الواضح (2 مجلد)، علي جارم – مصطفى أمين.
- شرح ابن عقيل على الكفاية لابن مالك، بهاء الدين عبد الله بن عقيل (729).
- جامع الدروس العربية، مصطفى الغلياني.
- مبادئ الدروس العربية، محمد محي الدين عبد الحميد.
- المنتخب والمقتضب في قواعد الصرف والنحو (2 مجلد)، محمد ذهني أفَندي (باللغة العثمانية).
- تعليم اللغة العربية بطريقة حديثة (5 مجلد)، فتح الله كولن.
البلاغة
- تلخيص المفتاح، الخطيب القزويني (1338).
- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي.
- البلاغة الواضحة، علي جارم – مصطفى أمين.
علم الكلام
- شرح العقائد النسفية، سعد الدين التفتزاني.
- العقائد الخيرية، محمد وهبي أفندي.
- كليات رسائل النور، بديع الزمان النورسي.
المصدر: أرباب المستوى، حضور معرفي في فكر الأستاذ فتح الله كولن، د. محمد باباعمي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠١٢
Leave a Reply