الملخص:
في هذه الدراسة إطلالة فكرية وفلسفية عامة للعلاقة الجدلية بين السلطة الحاكمة والعلماء المدنيين، وكيف تستغل السلطة الدين في هذا الصراع لتشويه الشخصية المعنوية للعلماء، أو الاستعانة بتلك الشخصية لتخطي حدود الشريعة أو ممارسة حكمها الشمولي، وما يترتب على ذلك من فساد ديني وسياسي وأخلاقي. بدأ الكاتب بنظرة خاطفة إلى التقاليد العلمية التي نشأ عليها العلماء، وخلص إلى أن الإطار المرجعي الفكري للعقل الإسلامي اليوم ينتمي إلى ما قبل القرن السادس الهجري، وأن المجتمعات الإسلامية استطاعت رغم أزمة الجمود الفكري أن تحافظ على وحدتها واستمراريتها الثقافية والسياسية والاجتماعية عن طريق اضطلاع العلماء المدنيين بدور قيادي في الحد من الأزمات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية. ثم ختم بالمقاربة بين هذه الإطلالة، والصراع الحاصل الآن في تركيا، وكيف استغلت السلطة الشؤون الدينية المنخرطة في السلك البيروقراطي في حملتها ضد الأستاذ كولن وحركة الخدمة لإصدار تقرير يشوه الصورة المعنوية والفكرية الإيجابية للأستاذ كولن ومن ثم خلق أرضية للفتوى بتكفيره من خلال ادعاءات زائفة.
المقال:
إن الأستاذ فتح الله كولن عالم ومفكر وناشط مسلم، وأكثر ما دار الحديث حوله هو:
١- نشاطه المتواصل في مجال المؤسسات التربوية التي تأسست على مستوى العالم مسترشدةً بتحفيزاته العلمية والفكرية.
٢- بالإضافة إلى خطابه المؤكِّد على الحوار الفكري من أجل مكافحة العنف.
والدافعُ الأساسي للقيام بهذه الدراسة التحليلية العامة الموجزة هو حملات الافتراء والتشويه والإبادة المنظمة التي تنفّذها -على صعيد عالمي- حكومةُ حزب العدالة والتنمية التي تزعم أنها “حكومة إسلامية” ضدَّ شخص الأستاذ كولن وحركةِ الخدمة. وواحدة من تلك الحملات ذلك التقرير الذي أعدته رئاسة الشؤون الدينية مؤخرًّا -بتعليمات من السلطة الحاكمة- ضد الأستاذ فتح الله كولن(1).
وبالنظر إلى محتوى التقرير يُلاحَظ أن الذين أعدوه قد استهدفوا من ورائه أمرين:
أولهما: -وقبل كل شيء- هو خلق أنواع من الشكوك والريبة حول الشخصية العلمية والمعنوية والفكرية الإيجابية التي يحظى بها الأستاذ كولن لدى الرأي العام، بغية فتح باب النقاش حول مصداقيته الاجتماعية. وثانيهما: تأسيس أرضية للفتوى بتكفير كولن وإخراجه عن دائرة الإسلام، من خلال ادعاءات زائفة.
تحريف لجنة الشئون الدينية التركية لنصوص الأستاذ وتشويهها وتوجيهها نموذج فريد للتزوير، فهو صادر عن ممثل رسمي ديني، مما يشي بما انحط إليه التصور الديني الرسمي في تركيا مؤسسيًا وعلميًّا وأخلاقيّا.
إن هذا النوع من المخططات الذي يُنفَّذ عن طريق استغلال الدين بأسلوب غير منصف، يحكي تاريخًا قديمًا وينبئ عن قصة طويلة، فمنذ عصر التابعين وإلى الآن لم تزل السلطات الحاكمة تستغل الدين للمساس بالسمعة الدينية والروحية التي كان العلماء المدنيون(2) يتمتعون بها، كما أنها اعتَبرت ذلك أداة لإضفاء الشرعية على سلطتها السياسية. ويَرى البعضُ أن السبب وراء ذلك هو عدم نجاح المسلمين على مدى تاريخهم في تطوير نظرية حول معارضة سياسية ذات مشروعية قانونية، ومن ثم فقد قامت السلطة العلمية والأخلاقية والاجتماعية التي يتمتع بها العلماء المدنيون بسد هذا الفراغ الذي حصل في النظرية السياسية من بعض الوجوه. ولذلك لوحظ أنه قد تكرر بين الحين والآخر في التاريخ السياسي الإسلامي أنْ حدث مثل هذا القبيل من التوترات بين السلطة السياسية والعلماء المدنيين، وهذا الطرح وإن كان صحيحًا من بعض الوجوه، لكن لا يمكن اعتباره صحيحًا بالكلية؛ لأن قراءة تقاليد العلوم الإسلامية وتاريخ علمائها على أساس جدلية السلطة الحاكمة والعلماء المدنيين (المعارَضة)، ومعالجتَها في هذا الإطار العام ربما تسهِّل الأمر على من يريد تحليلها، ولكنها في الوقت ذاته ستؤدي إلى مشكلة دينية وأخلاقية وعلمية ومنهجية. ولكن من المؤكد أيضًا أن استخدام السلطات الحاكمة لكل ما لدى الدولة من أدوات القوة والعنف في حملاتها المنظَّمة ضد العلماء المدنيين، قد أدى إلى فساد ديني وسياسي وأخلاقي خطير في التاريخ الإسلامي والمجتمعاتِ الإسلامية.
وسنتطرق في الفقرات الآتية إلى هذا الفساد الخطير عندما نتحدث عن الحملة التي أطلقتها رئاسة الشؤون الدينية “في تركيا” ضد الأستاذ فتح الله كولن. ولكن قبل الدخول في ذلك الموضوع من المفيد أن نلقي نظرة تحليلية موجزة على التقاليد العلمية الإسلامية التي ينحدر منها الأستاذ فتح الله، لأن ذلك سيساعد -من جانب- على مزيد من التعرف على شخصية الأستاذ الدينية والأخلاقية والفكرية، كما سيمنحنا الفرصة -من جانب آخر- للاطلاع على أسباب لجوء السلطات الحاكمة في التاريخ إلى استهداف السلطة المعنوية التي كان يتمتع بها العلماء المدنيون، الأمر الذي أدى إلى إفساد المجتمعات دينيًا وأخلاقيًّا.
ولا شكَّ أن التقرير الذي نشرته رئاسة الشؤون الدينية التركية ستكون له عواقب خطيرة من الناحية العقدية والأخلاقية والعلمية والمجتمعية، لأن الفساد الديني والمجتمعي الذي سيؤدي إليه كل واحد من هذه الأمور على حدة من الخطورة بحيث يستحق أن يؤلَّف فيه كتاب كامل. ولكننا بدلاً من التركيز على الافتراءات التي يسردها التقرير للنيل من مكانة الأستاذ وتشويه سمعته، أردنا أن نتطرق في هذا المقال إلى شخصيته العلمية والأخلاقية والمعنوية، حتى نُبرز للعيان -ولو بعض الشيء- هذه الشخصية العلمية التي تتمتع بنصيب وافر من الدين والأخلاق والعلم، على الرغم من محاولة كاتبي تقرير الشؤون الدينية تعتيم هذه الشخصية من خلال تحريف أقواله وكتاباته.
ينبغي لمن يريد متابعة آثار التراث الفكري للإسلام أن يقنفي أثرها في شخصية العالِم الاجتماعية والثقافية ودورِه في هذا المجال. فلا يمكن أن نحلل جهدًا فكريًّا ولا اجتماعيًّا في التراث الإسلامي بمعزل عن العالِم.
ولكننا قبل الخوض في ذلك نريد أن نلقي نظرة خاطفة على كيفية نشوء التقاليد الّإسلامية العلمية والعرفانية ونشأة العلماء على مدى التاريخ الإسلامي.
التقاليد العلمية ونشأة العلماء
إن الإسلام ظهر وحيًا ودعوةً، وبلغ حدودُ تأثيره في فترة قصيرة من الزمن تقدَّر بربع قرن إلى أراضي أذربيجان، كما أنه في وقت قصير بلغ أراضي شاسعة من إفريقيا الشمالية إلى أسبانيا، ومن إيران وخراسان إلى جميع مناطق ما وراء النهر، ومن بلاد الروم إلى بلاد الترك. وكلما اتسعت رقعة الإسلام زادت الحاجة إلى مزيد من الوسائل العلمية لنقل نظامه العقدي إلى الأجيال الجديدة، والدفاع عن نفسه ضد ما كانت تواجهه في تلك الأراضي الجديدة من أنظمة المرجعيات الثقافية والدينية الأجنبية.
ولذلك لوحظ أنه بدأ في فترة قصيرة من الزمن نشاطٌ محموم في كل الساحات العلمية، وكانت هذه الأنشطة تَصبُّ من جانب في الحفاظ على التراث الإسلامي، بينما كان هذا التراث يتم مَنهجته وتنظيمه في الحلقات العلمية. وبنهاية القرن الأول الهجري كان الفكر الإسلامي قد تشكَّل من جميع جوانبه تقريبًا. وفي القرون الثلاثة-الأربعة التالية كان التراث الإسلامي قد وصل إلى مستوى من القوة بحيث يستطيع أن يقدم نظامًا فكريًّا وفلسفيًّا ينظم الرؤية الإسلامية بكاملها.
ووفقا للقبول الفلسفي، ظهرت في تقاليد الفكر الإسلامي ثلاثة أنظمة مرجعية أساسية تتمتع بإطار أبستمولوجي وهي: البيان، والبرهان، والعرفان.
وبناء على هذا الطرح فإن جميع العلوم الإسلامية تقريبًا مندرجة في نظامِ مرجعيةِ “البيان”، في حين أن العلوم الفلسفية والعقلية تندرج في نظام مرجعية “البرهان”، كما أن التصوف يندرج تحت مرجعية “العرفان”.
ومن الطبيعي أن يتعرض هذا التصنيف للنقد من جهات عدة؛ فلقائلٍ أن يقول: ما المانع من اعتبار علم الفقه والكلام والأصول في “البرهان” أيضًا، وبالأخص إذا كان الفقه والأصول شكلاً من أشكال التعقل الخاصة بالإسلام؟ ويمكن أن تأتي اعتراضات أخرى من هذا القبيل.
ولكننا عندما نتحدث عن التقاليد الفكرية الإسلامية نكون في الأساس متحدثين في الوقت ذاته عن نظام مرجعي من الناحية الفكرية والمعرفية، وبالتالي بإمكاننا أن نقول: إن العقل الإسلامي قد تكوَّن في ثلاثة أنظمة مرجعية مختلفة. ولا ضير في ذلك، وانطلاقًا مما ورد في حديث جبريل المشهور من المفاهيم الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان، يمكننا أن نعرِّف العقل الإسلامي في ضمن الأنظمة المرجعية الثلاثة التي هي: الكلام، والفقه، والعرفان.
إن الأستاذ كولن لا ينحدر من تقاليد مشايخ التكايا والزوايا، ولكن شخصيته العلمية وحياته الشخصية زاخران بالتجارب العرفانية التي ترجع إلى أعوام طويلة.
ومع أن الفلسفة الإسلامية والفكر الميتافيزيقي بصفة عامة يتمتعان بثقل نوعي عالٍ، فإنهما لم يضطلعا بدور فعال ومباشر في التحول الذهني والأخلاقي في التاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ولذلك حَصَرْنا الأمر في تلك المرجعيات الثلاثة التي هي: الفقه والكلام والعرفان.
إن الفلسفة الإسلامية قد ركدت في القرن الرابع-الخامس الهجري (العاشر الميلادي)، بحيث يصعب تتبع الخط الميتافيزيقي الفلسفي الممتد من ابن سينا إلى الملا صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في القرن السابع عشر الميلادي.
ولكن كما هو الحال في التصنيف الأول يمكن إيراد اعتراضات على هذا التصنيف أيضا من شتى الوجوه. فرغم أنه لم تكن للفلسفة الإسلامية مَظاهر وآثار اجتماعية وأخلاقية وسياسية مباشرة ومكثفة كشأن سائر العلوم الأخرى، فإنه لا يمكن معالجة وتفسير الميتافيزيقا الإسلامية بمعزل كليًّا عن هذا النظام المرجعي الفلسفي.
ولذلك نلاحظ أنه كما برز في ساحة العلوم الإسلامية نموذج “الفقيه”، و”المتكلم”، و”العارف”، ظهر إلى جانب ذلك نموذج “الحكيم” الذي يأخذ مرجعيته من النظام الفلسفي. صحيح أن هذا المصطلح كان في القرون الإسلامية الأولى يُطلق في الأغلب على الفلاسفة الذي يشتغلون بعلم الفلسفة، إلا أنه أصبح فيما بعدُ يعبِّر عن الشخصية التي لها سلطة في التصوف والعرفان إلى جانب التخصصات الإسلامية الأخرى. ولكن بعد القرنين السادس والسابع للهجرة أصبح هذا المصطلح يحمل مفهومًا ميتافيزيقيًّا يتمحور حول علم الكلام-الفلسفة-التصوف.
وهنا يمكن الحديث عن تراث عقلي مختلف يأخذ مرجعيته عن دعوة الرسول e وعن جانبه السياسي-الإداري؛ كأن نعبر عنه بـ”العقل السياسي الإسلامي”. والسبب في استخدامنا الدولة والسياسة بشكل متداخل هو أن مبدأ الدعوة والتبليغ في الحياة العملية للرسول e هو أهم مبدأ يحفز جميع أنشطته. فمبدأ الدعوة والتبليغ بصفته واحدًا من الأهداف الأساسية للإسلام قد أصبح مؤثرًا نوعًا ما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في جميع الأنظمة المرجعية للإسلام.
وقد ذكرنا آنفًا مدى صعوبة البحث عن الآثار الفكرية للتراث الفلسفي الإسلامي من خلال الخط الممتد من ابن سينا حتى الملا صدرا في القرن السابع عشر الميلادي. ورغم عدم وجود فجوة معرفية كبيرة مع التراث الإسلامي، فإن الواقع هو أن هذا الجهد الفكري قد عانى من أزمة الاستمرارية. وإذا كانت متابعة الآثار الفكرية للنظم المرجعية الثلاثة الأخرى أمرًا ليس سهلاً فإنه لم تزل للفقه والكلام والتصوف آثار اجتماعية وسياسية وأخلاقية عميقة على المجتمعات الإسلامية.
وبناء على ذلك، يمكن القول: إن الإطار المرجعي الفكري للتراث الإسلامي اليوم ينتمي تقريبًا إلى ما قبل القرن السادس الهجري؛ بمعنى أنه ينبغي لأولئك الذين يبحثون عن آثار الملحمة الفكرية للعقل الإسلامي أن يعلموا أنه قد تم إنشاء الإطار المرجعي الرئيسي لهذا العقل في تلك الفترة التاريخية.
جميع التخصصات الإسلامية تقريبًا مندرجة في نظامِ مرجعيةِ “البيان”، في حين أن العلوم الفلسفية والعقلية تندرج في نظام مرجعية “البرهان”، كما أن التصوف يندرج تحت مرجعية “العرفان”.
وقد يسأل سائل: هل يعني هذا أن هذا الحكم يشمل علم الفقه والكلام والفكر العرفاني إلى جانب الفكر الفلسفي أيضًا؟ والجواب: نعم، من بعض النواحي. ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف استطاعت المجتمعات الإسلامية رغم هذه الأزمة المبكرة أن تحافظ على وحدتها واستمراريتها الثقافية والسياسية والاجتماعية؟ إن هذه النقطة هي التي نريد أن نؤكد عليها باهتمام وإصرار.
روح العالِم في التاريخ الإسلامي
لقد أظهر التاريخ عادة أنه لم تستطع أي حضارة أن تحافظ على كيانها لمدة طويلة على الرغم من تجمد مواردها الفكرية وانسدادها واستنفادها، أما الحضارة الإسلامية فرغم أن تراثها الفكري قد فقد إنتاجيته وروحه التجديدية في وقت مبكر جدًّا وبدأت تُكرر نفسها فإن شخصية العلماء التي لعبت دورا اجتماعيًّا وفكريًّا نشطًا حالت -على الأقل- دون تحوُّل هذا الجمود إلى أزمة مجتمعية وأخلاقية وفكرية.
صحيح أن الفكر الإسلامي لم يستعد ذلك النشاط الحيوي الذي كان يتمتع به في القرن الثالث إلى القرن السابع الهجري، لكنه مع ذلك لم يقع في أزمة الانعدام الكلي والاستمرارية.
ولذلك نقول: إن العالِم هو شخصية فكرية اضطلع بدور قيادي في الحدِّ من الأزمات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية في التاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي. بل نستطيع القول بأن العالِم هو السلطة الوحيدة التي حققت التحول الذهني والأخلاقي بالمعنى الحقيقي في المجتمعات الإسلامية.
ولذلك ينبغي للذين يريدون متابعة آثار التراث الفكري للإسلام وجردَها وفهرستها أن يبحثوا عنها في الشخصية الاجتماعية-الثقافية للعالم ودورِه في هذا المجال. فمن غير الممكن أن نتناول ونحلل جهدًا فكريًّا ولا اجتماعيًّا في التراث الإسلامي بمعزل عن العالِم.
الخصومات بين العالِم المدني والسلطة
إن أكثر المؤسسات التي أدت إلى الفساد الاجتماعي والأخلاقي في التاريخ الإسلامي هي في أغلب الأحوال السلطة الحاكمة والقوى السياسية. وأما المقاومة المعنوية والأخلاقية تجاه هذا الفساد فإنما جاءت في معظم حالاتها من العلماء المدنيين، وبالتالي فلم يزل هناك توتر متكرر بين السلطة الرسمية والعلماء المدنيين.
لقد قام العالِم المدني من جانبٍ بمناقشة مشروعية السلطة الحاكمة دينيًّا وأخلاقيًّا، ومن جانب آخر قام بدور اجتماعي-فكري من أجل الرقابة على نزوع السلطات وميلها نحو ممارسة حكم شمولي على المجتمعات.
وما كان للسلطة الرسمية على مدى التاريخ الإسلامي أن تتخطى حدود الشريعة وتمارس حكمًا سلطويًّا على المجتمع إلا بالدخول في معركة مع شخصية معنوية مدنية، أو بالاستعانة بتلك الشخصية.
وفي الفترات التي كانت سلطة المذاهب الدينية فيها في مرحلة النشوء، عاش أئمة المذاهب توترات من هذا النوع مع أصحاب السلطات الحاكمة. فقد كانت السلطة الحاكمة تعرف جيدًّا مدى ما يتمتع به “العالِم المدني” من سلطة معنوية واجتماعية على المجتمع، فكانت لذلك تريد تعزيز شرعيتها من خلال ترويضه وضمه إلى الكوادر البيروقراطية. وبالتالي متى نجحت السلطة الحاكمة في تحقيق هذا الأمر وتحويلِ العالِم إلى أداة لإضفاء الشرعية على البيروقراطية السياسية، والقضاء على دوره باعتباره وسيطًا مدنيًّا، فإنها تتمكن من إحكام قبضتها السياسية على الرعية من دون أن ينازعها أو يجادلها أحد.
لقد نشأت تقاليد “العالِم المدني”، في البدايات على أرضية مجتمعية مدنية كليًّا، وعلى هذه الأرضية انتظمت قيادته الفكرية والاجتماعية، إلا أنه بمرور الزمن اندمج في الهيكل البيروقراطي للنظام. ولكن القبول العام هو أن العلماء عندما اندرجوا في الدولة وبيروقراطية السلطة الحاكمة، فقدوا سلطتهم المدنية المستقلة وكفاءتهم الدينية والفكرية، فأدى ذلك إلى التخلف الاجتماعي، والجمود الفكري.
أما في العصر الحديث، فلم ينشأ في العالَم الإسلامي -للأسف- لا شخصية علمية وفكرية تتمتع بذلك المستوى من الكفاءة الدينية والفكرية، ولا مَن وصل إلى تلك الدرجة من الاستقلال الفكري، إلا بضعة أشخاص قلائل، ويبدو أن الفائز في هذا الصراع الخفي بين السلطة الفكرية والاجتماعية للعالم المدني وبين السلطة الرسمية للجهات الحاكمة كان دائمًا هو السلطة الحاكمة التي تمتلك إمكانات الدولة الضخمة وتحتكر أدوات العنف.
بنهاية القرن الأول الهجري كان الفكر الإسلامي قد تشكَّل من جميع جوانبه تقريبًا. وفي القرون الثلاثة التالية كان قد قَوِيَ بحيث يستطيع أن يقدم نظامًا فكريًّا وفلسفيًّا ينظم الرؤية الإسلامية بكاملها.
فالذي يريد أن يبحث عن الخلفية التاريخية للجمود الفكري والفساد الأخلاقي الذي يعاني منه العالَم الإسلامي اليوم فعليه أن يتلمس ذلك في نزوع السلطات الحاكمة واندفاعها إلى بسط الهيمنة على المجال المدني بأكمله وفرضِ سيطرتها عليه تمامًا.
إن العلماء المدنيين لم يخوضوا مثل هذه الصراعات بدافع الحصول على القوة، بل كان همهم الأساسي أن يحموا الدين والمجتمع من بأس تلك السلطات التي كانت تَعتبر الدين والمجتمع تهديدًا لوجودها.
ورغم هذه الحقيقة التاريخية، فإن السلطات الحاكمة في التاريخ الإسلامي غالبًا ما توهمت وجود سلطة فكرية مدنية مجتمعية، فأدى بها ذلك الوهم إلى الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
وأحيانًا كانت السلطات الحاكمة تتصور في العالِم تهديدًا يبلغ بها إلى درجة الوهم، فكانت تتصور أن المَخرج هو أن تلجأ إلى اتخاذ تدابير من شأنها أن تُثير الشكوك حول سمعته المجتمعية ومصداقيتِه وسلطته المعنوية. ولكن في الحالات التي لم تكن هذه التدابير كافية للقضاء على سمعة العالِم ورصيده لدى المجتمع، تلجأ إلى استخدام ما تملكه الدولة من وسائل العنف العملاقة مثل القمع والاضطهاد والتهجير. وكثيرا ما استُخدم العلماء الرسميون والمؤسسات الدينية الرسمية في هذا الصراع باعتبارها واحدة من أدوات العنف والقمع التي بيد الدولة، من أجل التشكيك في تدين العالِم وتصوراته الدينية وعقيدته وأفكاره.
وقد أدى هذا التشارك بين السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية في بعض الأحيان -للأسف- إلى دمار الأخلاق الإسلامية والقيم العلمية الأخلاقية، وتسببت في انحطاط شامل ومتجذر في تدين المجتمع، وأحيانًا وصلت هذه الأزمة الأخلاقية إلى مستوى من الشمول والعمق بحيث إنه لو كانت لدينا حضارة راقية لدمرتها هذه الأزمة.
ولا شك أنه إذا تم تناول العلاقة بين الدين-السلطة-المجتمع باستخدام مصطلحات العلوم السياسية ومناهجها، فحينئذٍ يمكن الحصول على جردٍ يُحصي بشكل واضح مدى الفساد الناجم عن هذا التوتر بين السلطة الحاكمة والعالِم المدني. ولكننا في هذه العجالة أشرنا بنظرة موجزة وسريعة إلى الآثار الدينية والتاريخية لهذا الفساد.
الوضع الحالي
في يومنا هذا أيضا يتكرر في العالَم الإسلامي التوتر بين السلطة الحاكمة وبين العلماء المدنيين، ولا تزال السلطة الحاكمة تتحرك بردة الفعل التاريخية فتحافظ على نفس ما وقع في التاريخ من الانحطاط الديني والأخلاقي والمجتمعي. ولا يختلف الوضع بحسب توجهات السلطة، التي نشأت وتأسست إمَّا على أسس تزعم أنها إسلاموية، أو على أسس علمانية. إن السلطة الحاكمة هي المسؤولة المباشرة وغير المباشرة عن كل أنواع الفساد. وليس الوضع في تركيا مختلفًا عن هذا.
ففي الغرب تتستر السلطة الحاكمة وراء عديد من الأدوات والمعاني الرمزية، ولذلك فإنَّ فَضْح مراكز القوة والسلطة هناك يتطلب مزيدًا من الجهد الفكري والفلسفي، أما في تركيا فإن السلطة الحاكمة والدولة لا تشعر بالحاجة إلى إخفاء ميولها نحو ممارسة العنف، بل تقوم بفظائعها بشكل مباشر وبلا استحياء. وها هي حكومة حزب العدالة والتنمية التي تصنِّف نفسها إسلامية وتحكم البلاد منذ خمس عشرة سنة، تصر على مواقفها المتهورة وتعلن عنها على مرأى ومسمع الملايين ممن يتابعون من الرأي العالمي، على لسان رئيس حزبها أو رئيس حكومتها أو رئيس جمهوريتها، من دون أن تشعر بأي حرج في ذلك.
وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الفساد المالي والإداري والممارسات الظالمة والمؤامرات والعنف والقسوة والانحطاط الديني والأخلاقي لا تزال سلطة حزب العدالة والتنمية تحكي بحالتها هذه وضعَ ديكٍ يجوب شوارع القرية مرفوعَ الهامة لكنَّ ساقيه مغمورة بالقاذورات.
ومهما كان القائمون على هذا الحزب منحدرين من تقاليد إسلامية محافِظة إلا أنهم قد تسببوا بشكل فظيع في خرم العلاقة بين الدين والدولة، والدين والمجتمع، والدين والأخلاق. لأنهم بمرور الأيام أصبحوا يبتعدون عن الواقع السياسي الحقيقي الذي تعيشه تركيا والعالم، وظلوا يلهثون وراء طموحاتهم السياسية وعُقَدهم الرومانسية الإسلاموية.
لقد أنفق أردوغان في العقْد الماضي من حكم حزب العدالة والتنمية معظم جهده السياسي لإشباع نهمه العميق في سبيل تغذية نزعته القيادية، وقد استَخدم كل أدوات السلطة والقهر غير القانونية من أجل خلق صورة عن “القائد الإسلامي القوي” لدى الرأي العام داخل البلاد وخارجها.
سلطة حزب العدالة والتنمية تُوزِّع على الجماعات الإسلامية ما تغتصبه ظلمًا من ممتلكات المواطنين الأبرياء، فتجعلها مدمنة على المكاسب غير المشروعة التي لم يحصلوا عليها بعَرَق جبينهم.
ولذلك نقول: إنه لا حاجة هناك إلى بذل جهد فكري وذهني جادٍّ من أجل الكشف عن الأسس السياسية والفلسفية والأيديولوجية للسلطة الحاكمة في تركيا، فإن السلطة الحاكمة تفشي نفسها بنفسها بأسلوب فظ وغليظ بكل أسسها المؤسسية والبيروقراطية، وهي لا تلجأ إلى المعاني الرمزية إلا من أجل إخفاء نفسها، بل للإشعار بقوتها، لذلك لا يوجد في العالم الإسلامي جهد فكري وفلسفي تراثي يهدف إلى التنقيب عن مصادر القوة والسلطة والعنف والشمولية. وإنما يوجه العالِم والمفكر كل جهده ونقده الفكري والفلسفي إلى ما يَظهر من الوجه الاجتماعي والأخلاقي والسياسي للسلطة.
وإذا نظرنا من هذا المنظور نلاحظ أن حزب العدالة والتنمية لم يتعرض في فترة حكمه في تركيا لأي انتقاد جادّ، بل يمكن القول إنه وصل إلى يومنا هذا بمباركة من شتى الأطياف والأطراف، وقد أدى هذا بالفعل إلى تدهورٍ ديني وسياسي وأخلاقي تطوَّر بشكل خفي قلَّما نجده في التاريخ الإسلامي.
وليست المشكلة في تركيا منحصرة في ما بين السلطة الحاكمة وبين المفكرين والمثقفين فحسب، بل إنها في إشكالية مع قطاع عريض من المجتمع أيضًا، فإن كل من يتعارض مع الكاريزما الشخصية لأردوغان يُعتبر عدوًّا له، وكل من ينتقد سياسات أردوغان أو كاريزماه القيادية الشخصية فإنه إما سيقبع في السجون أو يغادر البلاد بغض النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها سواء كانت فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
تقرير رئاسة الشؤون الدينية
والآن تعالوا بنا نَرجع بعد هذه المقدمة إلى الغرض الأساسي من كتابة هذه المقالة، وهو الحديث عن حملة الافتراءات التي أطلقتها سلطة حزب العدالة التي تزعم أنها تستند إلى تقاليد الحركات الإسلاموية، حيث لا زالت تستخدم كل أدوات القوة ووسائل العنف من أجل تشويه حركة الخدمة والأستاذ فتح الله كولن.
ولا يمكن تناول التوتر الحاصل بين الأستاذ فتح الله كولن وبين السلطة الحاكمة على أنه من نوع تلك التوترات التي وقعت في التاريخ الإسلامي الطويل بين العلماء التقليديين وبين السلطات السياسية الحاكمة آنذاك؛ لأن تلك التوترات كانت تحصل في حدودٍ سياسية وأخلاقية، في حين أن الحملات التي تُمارَس ضد حركة الخدمة والأستاذِ فتح الله كولن لم تَبْقَ لها أي حدود دينية ولا أخلاقية بل ولا إنسانية. فأردوغان يستخدم منذ سنوات جميع ما يمتلكه من الإمكانيات البيروقراطية العملاقة المستنِدة إلى القوة والعنف، في سبيل ممارسة ما يشبه الإبادة الجماعية ضد المنسوبين إلى حركة الخدمة وعائلاتهم ومحبيهم وشخص الأستاذ فتح الله كولن.
ويبدو أن كل هذا القمع والظلم المادي والجسدي لم يشف غليله وحقده، حتى لجأ إلى استهداف شخصية الأستاذ العلمية والعرفانية والمعنوية، وقد أدى به هذا التهور إلى أن يضيف أخيرًا إلى طابور حملة الافتراء المنظَّمةِ رئاسةَ الشؤون الدينية التي هي مؤسسة دينية، فأوصل حملته إلى مرحلة مختلفة. ورغم أن دور إدارة الشؤون الدينية هو تنسيق الأحوال المرتبطة بالدين، إلا أنها بانخراطها في طابور حملة الافتراءات والإمحاء هذه بنزوة واندفاع قد جَعلت نفسها عرضة للنقد والمراجعة.
إن أردوغان الذي ذاع صيته في السنوات الأخيرة بالفساد في علاقاته المالية والأسرية والسياسية والتجارية، وبدأت سمعته الدولية تهبط إلى الحضيض، قد طلب من المؤسسة الدينية أن تكتب تقريرًا ضد الأستاذ فتح الله كولن من خلال البحث عن مثالبَ وثغرات في كتب الأستاذ ومحاضراته الصوتية، لأن الطريق الوحيد لمواصلة أردوغان لخدعته السياسية في داخل البلاد هو أن يُدَعِّم أكاذيبه وافتراءاته بأكاذيب جديدة، فطبيعة الكذب الاجتماعية لا تتمكن من الصمود إلا بمساندة الكذبة الواحدة بعدد آخر من الأكاذيب. ومن ثم قامت الشؤون الدينية بوصفها مؤسسة رسمية، بتشكيل “هيئة علمية” تم تكليفها بتنفيذ هذا العمل تلبية للأمر الصادر لها من رأس الهرم.
وبعد صدور التقرير فوجئنا بكم عجيب وغريب من المغالطات والتحريفات التي تنبئ عن مستوى من الفساد الديني تفوَّق على الفساد المالي والسياسي الذي تتخبط فيه البلاد. فما قامت به اللجنة من تحريف نصوص الأستاذ وتشويهها وتوجيهها لهو نموذج فريد للتزوير، خاصة وأنه صادر عن ممثل رسمي ديني، مما يشي بما انحط إليه التصور الديني الرسمي في تركيا مؤسسيًا وعلميًّا وأخلاقيًّا.
لم تزل السلطات الحاكمة -منذ القدم- ترى العوامل الدينية أدواتٍ للمساس بالسمعة الدينية والروحية التي كان العلماء المدنيون يتمتعون بها، كما اعتَبرت تلك العوامل وسيلة لإضفاء الشرعية على سلطتها السياسية.
إن التعليقات والتفسيرات التي علَّقَت بها اللجنة في تقريرها على الاقتباسات المقتطعة من كلام الأستاذ فيها تجنٍّ متعمد وتحريف مقصود ظاهر وواضح للعيان، يبرز في ثناياه لكل من يمعن النظر فيه مدى الموقف العدائي الذي يجنح إليه أعضاء هذه اللجنة في صياغة التقرير.
إن موضوع النقاش إذا كان أمرًا دنيويًّا عاديًّا أو فكريًّا بحتًا فقد يمكن تفسيره تفسيرًا مختلفًا بما يتوافق مع الأغراض الشخصية، وهذا رغم تنافيه مع المبادئ والقيم لكن قد يُعثر له على مُبَرِّر، أما أن ينبري أناس لإعداد تقرير من أجل التشكيك في إيمان شخص وأخلاقه ورؤاه وتأثيره الاجتماعي والروحي لتعبئة الرأي العام ضده، وخاصة إذا كانوا منسوبين إلى هيئة دينية يفترض فيها أن تكون على رأس منظومة القيم التي تدعو الناس إلى الالتزام بها فإن هذا أمر لا يمكن تفهُّمه على الإطلاق بأي شكل من الأشكال، لا من الوجهة الأخلاقية ولا الدينية ولا الإنسانية. إذ كيف تناسى هؤلاء وهم يضعون توقيعهم على مثل هذا التحريف والتشويه اليومَ الآخِرَ والوقوف أمام الديان يوم العرض عليه ، ومن أين واتتهم الجرأة على الإقدام على عمل تحت عباءة إدارة الشؤون الدينية ليس له سابقة من قبل، إن هذا التقرير لا يمكن وضعه إلا تحت عنوان “الفجور العلمي”؛ فلم يَسبِق لهذه المؤسسة أنْ لجأت إلى مثل هذه اللامبدئية العلمية والأخلاقية حتى في أيام الانقلاب العسكري والأحكام العرفية، بل ظلت محافِظةً على جديتها ووقارها، وتحاشت طوال تاريخ الجمهورية الانخراط في النشاطات التي تبعث الشكوك حول عقيدة أي شخص أو علمه أو عرفانه أو وجوده الاجتماعي. وليت شعري ماذا تردَّى بهذه المؤسسة إلى أن وقعت في أيدي سلطة تزعم أنها إسلاموية إلى هذا المستوى من الانحطاط الديني والأخلاقي؟!
وهناك حقيقة وهي أنه في ظل سلطة حكومة العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة انتشر بين الناس نوعٌ من التدين الفضفاض، يجعل الناس يتصرفون وكأنه ليس هناك يوم حشر يحاسَبون فيه على أعمالهم، تديُّنٌ تطورت فيه مَظاهر دينية ذات أُبَّهَة ولكنه ضعيف لا يحرص على الاستناد إلى أساس أخلاقي.
إن سلطة حزب العدالة والتنمية لا تتوقف عند حدود التحكم في المواقف والسلوكيات الدينية والأخلاقية للجماهير الدينية بل تجعلهم يفقدون الحساسية حيال الحقوق الإسلامية والقيم الأخلاقية من خلال المِنَح والتبرعات غير المشروعة، بل إنها تُوزِّع على الجماعات الإسلامية ما تُصادره وتغتصبه ظلمًا من ممتلكات آلافِ المواطنين الأبرياء، فتجعل تلك الجماعاتِ مدمنة على المكاسب غير المشروعة والِمنح والتبرعات التي لم يحصلوا عليها بعَرَق جبينهم.
إن سلطة العدالة والتنمية اخترعت قيادة إسلامية ترفع مستوى سيطرتها على هذا التدين الشكلي الذي لا يحتاج إلى بذل مزيد من الجهد وتحمُّل المعاناة، وعلى الرغم من أن هذا الشكل القيادي لا يتمتع بتأثير ملموس في المنطقة، إلا أنه يمكن القول بأن له نوعًا من التأثير على الجماعات الإسلامية في تركيا “وبعض الجماعات المسيَّسَة في أنحاء العالم الإسلامي”.
فهذه القيادة الإسلامية التي تم تطويرها في طبيعة أردوغان اللامبالية وكاريزماه الشخصية، تُزرَع في لاوعي الجماهير من خلال رسائل غير مباشرة ضُمّنت في المسلسلات المحلية التي تُموَّل من ميزانية الدولة. فمن جانبٍ تُعالَج هذه القيادة السياسية بشكل ضمني من خلال أمثال هذه المسلسلات التي ترعاها الدولة من أمثال “قيامة أرطغرل، والسلطان عبد الحميد الثاني” وغيرها من المسلسلات، ومن جانب آخر يتم التسويق لما تم تطويره في السنوات الأخيرة من هوية إسلامية قوامها شخصية فظَّة متنمرة. والحقيقة أن لكل هذه الجهود معنى رمزيًّا أبعد من ذلك، وهو إنتاج أحلام جديدة نحو الخلافة والعثمانية من خلال الرسائل المبطنة غير المباشرة، من ضخ صورة “رئيس شجاع وقوي” إلى أذهان العالم الإسلامي، وبالتالي فعندما نشاهد -بين حين وآخر- جماهير الناس وهم يتدفقون إلى الشوارع ملوِّحين بالأعلام التركية أو لافتات الجماعات الإسلامية، تحت شعار الاحتجاج ضد انقلاب ١٥ يوليو أو النضال من أجل الديمقراطية، فإنما يحملون في مخيلتهم مثل هذه الرمزيات والأحلام حيال الخلافة والعثمانية. والحال أن هذه الجماهير كانت إلى الأمس القريب تعارض بشدة الخطاباتِ التحررية والديمقراطية. فهذه هي النقطة التي وصل إليها التدين في غضون خمسة عشر عاما بأيدي سلطة حزب العدالة والتنمية الذي يزعم أنه إسلاموي، وهذا هو نتاج فهمهم للتدين.
والقارئ للتقرير الذي أعدته رئاسة الشؤون الدينية والذي تزعم أنه “علمي”، سيلمس في أسلوبه هذه اللغة الفظة التهميشية والإقصائية.
التحريف الذي قام به مُعدُّو التقرير
إن أبرز ما يلفت النظر في التقرير هو أن الذين أعدوه ركزوا في معظمه على مقالات الأستاذ فتح الله كولن ودروسه التي تحتوي على مصطلحات ومفاهيم صوفية؛ ومن المعلوم أن أبرز سمات المفاهيم الصوفية هو أن كلماتها ومصطلحاتها تُستخدم في أكثر من معنى واحد، إذ يلجأ أصحابها في عباراتهم كثيرًا إلى المجاز والتشبيه والاستعارة والرمز والإشارة والإبهام. ومن ذلك على سبيل المثال مصطلح: المعية والحضور والقرب والمحبة والمشاهدة والسر ونحوها، فهذه الكلمات إلى جانب معانيها اللغوية قد اكتسبت -من خلال التجربة العرفانية الإسلامية- معنى وعمقًا عرفانيًّا خاصًّا؛ ولا شك أن الأستاذ يستخدم هذه المفاهيم مراعيًا لمعانيها الصوفية.
جميع التخصصات الإسلامية تقريبًا مندرجة في نظامِ مرجعيةِ “البيان”، في حين أن العلوم الفلسفية والعقلية تندرج في نظام مرجعية “البرهان”، كما أن التصوف يندرج تحت مرجعية “العرفان”.
إن لغة الأستاذ وأسلوبه يتغذيان من لغةٍ وثقافةٍ ثرية تحتوي وتمزج بين جميع البِنَى الأساسية للعلوم الإسلامية وعالَمها المفاهيمي وتصوراتها المستقبلية؛ فالأستاذ من العلماء الذين لهم باعٌ طويلٌ في جميع هذه التخصصات تقريبًا ومن ثمَّ فمن غير الممكن لمن يتجاهل المصطلحات وقواعدَ الخطاب لهذه العلوم أن يفهم ويناقش العبارات التي تُستخدم فيها هذه اللغة بشكل عميق وعلى نطاق واسع. ولكن العجيب هو أن أعضاء اللجنة العلمية التابعة للمجلس الأعلى للشؤون الدينية، الذين درسوا في التخصصات الإسلامية، في حين أنهم يزعمون أنهم أعدّوا تقريرًا علميًّا، لم يتجشموا -على أقل تقدير- عناء الرجوع إلى الأسس الاصطلاحية والمفاهيمية لتلك العلوم الإسلامية، فبدلاً من أن يوجهوا نقدًا علميّا إلى خطاب الأستاذ الزاخر بهذا الكم الكبير من العبارات المستنِدة إلى المفاهيم والمصطلحات، نراهم اقتربوا منها منحصرين بلغة يستخدمها العوام في الخطاب اليومي. وبطبيعة الحال قد أدى هذا الصنيع بالدراسة إلى تشويه الخطاب الصوفي والعرفاني الذي يستخدمه الأستاذ، وهذا يعني أن هدف أعضاء اللجنة من التأكيد على ما في خطاب الأستاذ من المفاهيم الصوفية والعرفانية هو سهولة تحريف المفاهيم التي تستخدمها اللغة العرفانية على لسان العوام وأذهانهم.
والحال أن كثيرًا من علماء الصوفية وعرفائهم، بمن فيهم السَّرَّاج والقُشيري والحجوري والكلاباذي وأبو طالب المكي والإمام الغزالي، قد ألفوا كتبا تشرح التجربة الصوفية ومصطلحاتها، من أجل حماية التجربة الصوفية ومصطلحاتها من “عبث” علماء “الظاهر” ومن بساطة لغة الكلام اليومي وتحريفاتها.
غاية ما أقوله هو أن أعضاء اللجنة على الرغم مما تراكم في هذا المجال من حصيلة ألف عام من المصطلحات والأدبيات والتراث، نراهم قد تغاضوا عنها وتعمَّدوا الخيانة العلمية تجاه التقاليد العلمية الإسلامية، من أجل تحريف تجربة الأستاذ الصوفية والعرفانية والتلاعبِ بها في نطاق اللغة اليومية.
والحال أن هناك تأليفًا موسوعيًّا جادًّا ومطبوعًا ألفه الأستاذ وتناول فيه العالَمَ المفاهيمي للمصطلحات الصوفية، وهذا الكتاب المسمى “تلال القلب الزمردية” يتناول تلك المواضيع التي يتهمون الأستاذ بها. ولكن من الغريب أنهم لم يقتبسوا ولو كلمةً واحدة من هذا الكتاب الضخم “البالغ أربع مجلدات”، لأن هذا الكتاب بالإضافة إلى رصانته وأسلوبه العلمي ينم عن مدى الاطلاع الواسع على الساحة، كما أنه تم تأليفه وإعداده بالاستناد إلى معاناة وخبرة عرفانية طويلة دامت أعوامًا طويلة مما جعله يتأبَّى على التشويه والتلاعب بسهولة. ويُلاحظ أن أعضاء اللجنة قد تهيبوا وتحاشَوا بأنفسهم -قصدًا- عن الخوض في غمار هذا الكتاب الجادِّ الذي بُني على قواعدِ أهل السنة والجماعة الرصينة وأُسُسِ علم الفقه والأصول والكلام والعقيدة. وهذا هو السبب في أن هذا التقرير برز عرضة للنقد من كل جوانبه، ونموذجًا واضحًا على الافتراء المتحيز والمتعمد، ومستنِدًا على الأحكام المسبقة والنوايا العدائية، والتحيز والعداء.
الأسس المفاهيمية العلمية والصوفية للأستاذ فتح الله كولن
أ- الإطار الذي تتمركز حوله شخصيته العلمية
ذكرنا آنفا أنه يوجد في تقاليد العلوم الإسلامية والعرفان الإسلامي والفكر الإسلامي ثلاثةُ أنظمة مرجعية ذات إطار إبستمولوجي، ولا شك أن الأستاذ فتح الله كولن شخصية علمية يمكن تعريفه من خلال هذا المركب الثلاثي من تقاليد العلوم الإسلامية.وبعبارة أخرى، فإن النظام المرجعي المعرفي الذي يقابل شخصيته العلمية في التصنيفات الثلاثية التي أجريناها هو صورة “العالِم والعارف والحكيم”، لذلك فكل كتاباته ودروسه ومحاضراته مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بهذه التقاليد المعرفية ونظامها العقدي والأخلاقي والعلمي واللغوي والمفاهيمي. فهو في كل مَواقفه وخطاباته يظل تابعًا لأصول هذه العلوم الثلاثة “الفقه والكلام والعرفان” على الأقل، ويراعي قواعدها التعبيرية والفكرية بدقة فائقة وبالتالي فليس من الممكن إخراج أقواله وكتاباته إلى خارج نطاق القواعد الأساسية للإسلام السني وتقاليده المعرفية، وتعريضُها لتشويه واضح أو تفسير شخصي يحرِّفها عن سياقها ومسارها.
وقلّما نجد في الشرق أو الغرب من الذين نشأوا في واحدة أو أكثر من الأنظمة المرجعية المعرفية للفكر الإسلامي مَن يستطيعون أن يستخدموا في جميع خطاباتهم وكتاباتهم الأسسَ العقدية والكلامية والأخلاقية والفقهية والعرفانية لهذه العلوم بكل دقة وحذر. وليس من الميسور لكل أحد أن يستخدم هذا الكم من التقاليد المعرفية بهذا المستوى من الدقة والحذر ضمن نظام خطاب بشكل شمولي وبهذه السهولة؛ فخطاب الأستاذ يستمد غذاءه من هذه المجموعة الواسعة من التقاليد الفكرية.
ويمكن الكشف عن هذا النظام المرجعي الواسع من خلال نبشٍ أثري ودراسةٍ فكرية مفصلة حول اللغة التي يستخدمها الأستاذ ونظام خطابه، ويمكن لكل من له دراية بالخطابات الفلسفية-الفكرية إذا تسنى له الاستماع لبضع دقائق إلى إحدى محاضراته، أن يلتقط ما يحمله خطابه من الأسس الفلسفية والفكرية والأخلاقية، ويفهمَ مدى اطلاعه على هذه المجالات.
ولكن بطبيعة الحال إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه إلى جانب هذا كله شخصية تنحدر من تقاليدِ القيادة الاجتماعية والروحية والموعظة “بالمعنى السائد الذي يعني مجالس التزكية والمحادثات التثقيفية والتربية الروحية”، فعلينا أن نعلم بأن جميع محادثاته التي يلقيها لا تجري بأسلوب فلسفي وفكري بحت. فمن الممكن أن نلمس في خطاباته انعكاسات لمعظم أدوات الخطابة والموعظة التقليدية الإسلامية.
ومن دواعي الأسف أن أعضاء اللجنة عندما تناولوا أحاديث الأستاذ وكتاباته بطريقة مغرضة ومنظور عدائي، تجاهلوا قواعد التفسير والاجتهاد المتعلقة بهذه التخصصات الثلاث، ولم يراعوا المعايير العلمية والأخلاقية حتى في أدنى حدودها، كما أن هؤلاء الأعضاء بما قاموا به من التحريف وسوء الظن، لم يأخذوا بعين الاعتبار أيَّ أداة من أدوات “الوعظ” المستخدَمة في تقاليد الخطابة والوعظ.
ب- الإطار الذي تتركز عليه شخصيته الصوفية
إن الأستاذ لا ينحدر من تقاليد مشايخ التكايا والزوايا، ولكن شخصيته العلمية وحياته الشخصية زاخران بالتجارب العرفانية التي ترجع إلى أعوام طويلة، وقد عاش في أيام شبابه -على الأخص- تجارب عرفانية طويلة وعميقة، فالذين يعرفونه عن قرب يعلمون أنه إلى جانب معرفته العلمية الواسعة يتمتع بشخصية معنوية عميقة ومكثفة بمعنى أنه عندما يتحدث عن العالَم المفاهيمي للصوفية لا يتكلم من خلال الأدبيات المتعلقة بهذا المجال فحسب، بل يتحدث منطلِقًا من تجربة روحية طويلة مرهقة ومليئة بالمعاناة.
ومن المعلوم أن العرفان الإسلامي يتكون من جانبين هما: الجانب النظري والجانب التطبيقي، وهذا يعني أننا عندما نتحدث عن “التصوف الإسلامي” فإنما نقصد به التجربة العملية المعنوية التي يعيشها الشخص في عالَمه الداخلي والمعنوي وفي شُعيراته الدموية، بالإضافة إلى الجانب المفاهيمي اللفظي والتخصصي الذي يعبِّر عن هذه التجربة في منهجية علمية. ولكن هذه الساحة بالنسبة لكثير من الأكاديميين المتخصصين في التصوف عبارة عن مجرد تخصص علمي يركز على الجانب اللفظي فقط، لأن الجانب العملي العميق من التصوف -للأسف- يكاد يكون من الأمور التي عفا عليها الزمن، وصار جزءًا من التاريخ.
ينبغي لأولئك الذين يبحثون عن آثار الملحمة الفكرية للعقل الإسلامي أن يعلموا أنه قد تم إنشاء الإطار المرجعي الرئيسي لهذا العقل إلى ما قبل القرن السادس الهجري.
وعلى الرغم من أن التجربة الصوفية قد حافظت على وجودها من خلال تقاليد الطرق الصوفية إلى العصر الحديث، فإنه لا يمكن الحديث بسهولة “في تركيا بالأخص” عن تجربة طريقة صوفية ثرية قادرة على استخدام جميع البنى التحتية المفاهيمية التي اطلعنا عليها من خلال ما وصل إلينا من الأدبيات الصوفية. ومن الممكن مناقشة مدى كفاية كثير من المشايخ والمرشدين الذين يواصلون تقاليد التكايا والزوايا “في تركيا على وجه الخصوص”، كما أنه من الصعب الحديثُ عن اطلاعهم الواسع وأهليتهم في العلوم الظاهرة والباطنة، فهناك المئات من المشايخ “في بلادنا” غافلون عن العلوم الظاهرة، بل إن منهم من يعجزون عن تفسير الفاتحة بل قراءتها قراءة صحيحة، ناهيك بممارستهم ومعاناتهم لتلك التجارب الروحية العميقة الواسعة المرهقة، بل إنهم ليس لديهم اطلاع واسع حتى على الجانب النظري والحرفي من هذه الساحة.
وليس في كلامي هذا ما يشير ولو ضمنا إلى شخصٍ بعينه ولا إلى طريقة صوفية بعينها بأي شكل من الأشكال، ولكنَّ إلقاء نظرة عابرة إلى ما وقع في سوق اليوتيوب من مقاطعِ الفيديو المتضمنة لحلقات الذكر والدرس التي ينظمها هؤلاء المشايخ، سيكون كافيا لإعطاء فكرة عن الأزمة الروحية والأخلاقية التي سقطت فيها مؤسسة “الطريقة” في عصرنا.
إن جميع الطرق تقريبًا في بلادنا “تركيا” من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا ترى بأسًا في أن تَعرِض مَحارمَها من حلقات ذكرها ومجالسها العرفانية على واحدة من أقسى أدوات السوق الرأسمالية الحديثة: “اليوتيوب”، ومن المفارقة أن اللجنة العلمية القيِّمة التابعة لرئاسة الشؤون الدينية والمكلَّفةَ بحماية الدين والعلوم الدينية وتطويرِها، تعمِد إلى دروس الأستاذ المطابِقة تمامًا للقواعد العلمية والأصول العرفانية، فتأخذ منها مقاطع مبتورة من سياقها لتجمع منها أفكارًا صوفية ضالة، في حين تظل صامتة تجاه ما تتعرض له هذه المؤسسات التاريخية والمحاضنُ التربوية الروحانية من ابتذال وتسويق في الأسواق الشعبية.
لقد كان الأستاذ يحاول في مقالاته التي كتبها لسنوات عديدة في مجلة سيزِنْتِي (Sızıntı) أن يتناول المفاهيم التي استخدمها الصوفية في مؤلفاتهم، ويعالجَها في ضوء قواعد العلوم الإسلامية وأصولها، ويشرحَها وفقًا لتجاربه وإحساساته الروحية، وقد نُشِرت هذه المقالات في سلسلة كتب تسمى: “تلال القلب الزمردية”. وقد استَوعب هذا العمل الموسوعي جميع المصطلحات الصوفية تقريبًا، ولكنه لم يَحصر تلك المفاهيم والمصطلحات في سياقها التاريخي فقط، بل مَزَجَها بما لديه من سطلة علمية واطلاع علمي واسع، بالإضافة إلى تجربة قريحته المعنوية وممارساته، فقام بتحديثها أيضًا إن صح التعبير.
ولو قُدِّر لهذا العمل أن يُنجَز قبل ثلاثة أو أربعة قرون، لكُتب عليه العشرات من الشروح والحواشي، لأن النصوص العرفانية قابلة بطبيعتها للشروح والحواشي. ولو أن اللجنة العلمية التابعة للشؤون الدينية بتركيا استطاعت أن تنأى بنفسها عن التحرك بدافع من الكراهية والافتراء، لِتقتربَ من الموضوع من منطلق علمي وأخلاقي، لاستطاعت أن تجد في هذا العمل الموسوعي ما يُلقي الضوء بكل وضوح على تلك المثالب التي تزعم أنها اطلعت عليها في دورس الأستاذ ومقالاته التي اقتطعتْها من سياقاتها وبتَرَتْها من فكرتها الرئيسية.
إن السمة الأساسية لهذا العمل هي أن المؤلِّف عندما عالج “العرفان الإسلامي” تَناوَله وشرَحَه من منظور كلي يشمل سائر التخصصات الإسلامية (وعلى وجه الخصوص الفقه والأصول والكلام)، بمعنى أن هذا العمل في هذا العصر وكأنه نسخة معاصرة للرسالة القشيرية للقشيري، واللُمَع للسرَّاج، والتعرف للكلاباذي، وكشف المحجوب للحجوري. فهو يؤصل للتجربة العرفانية الإسلامية من خلال الجمع بينها وبين سائر العلوم والتخصصات عند أهل السنة والجماعة. والسبب في مقارنتنا هذه معلوم لدى أهل الفن؛ فمن المعلوم أن التجربة الإسلامية الصوفية عاشت في تاريخها بين حين وآخر حالة فصام أخلاقي ومعرفي بينها وبين تخصصات العقيدة والكلام والفقه؛ فأصبحتْ في كثير من الأحيان مدار انتقادات واتهامات علمية بل وشعبية بدافع الحاجة إلى تصحيح بعض أفكارها وممارساتها التي اعتُبرت خارج الحدود المقبولة، فقد أُلفت الكتب التي سردنا أسماءها آنفًا من أجل إعادة إنشاء أدبيات “العرفان الإسلامي” الذي تَعرَّض للانحرافات المعرفية والأخلاقية والعقدية، حتى يتم تصحيح مساره وإعادةُ ربطه بفهم أهل السنة والجماعة وما لهم من النظام المعرفي الكلامي. فسلسلة “تلال القلب الزمردية”، هي أيضا قد أُلِّفت بالدوافع المشابهة لتلك، وأنا أستطيع أن أقول -باعتباري واحدًا ممن عاشوا وشاهدوا شخصيًا ملابساتِ كتابة بعض تلك المفاهيم: لقد تمت كتابة كل واحد من تلك المصطلحات في جوٍّ مشحونٍ بألفِ معاناة ومعاناة روحية، ونتيجةً لتأملات داخلية عميقة ودقيقة للغاية، ولقد عشنا مرارًا وتكرارًا في تلك الأيام التي كان الأستاذ يكتبها مدى انعكاس أجوائها على نفسية الأستاذ وأطواره وحالته الروحية، وكيف أنها كانت تُلْقِي بظلالها على أسلوبه في الجلسات الروحانية والحلقات العلمية التي كان يعقدها مع تلاميذه وأصحابه في نطاق ضيق.
وأعني بذلك أن الأستاذ عندما تناول هذه المفاهيم لم يتعامل معها بمجرد تفسيرها تفسيرًا حرفيًّا والوقوفِ عند حدود الألفاظ والتراكيب، بل فَسَّر كل مصطلح في جوٍّ مشحونٍ بمشاعر المراقبة الجادة والتأمل العميق. ولقد شاهدنا مرارًا بكاءه المتواصل لأيام عديدة جرَّاء تأثره بهذه المصطلحات فمهما كان هناك مصطلحات تبدو وكأنها مدخل من مداخل أيِّ موسوعة، إلا أنها بسبب كونها متعلقة بالصفات الإلهية وأسمائه وذاته العلية، كانت تثير في روح الأستاذ حالةً مثيرة للعجب من الحذر والانتباه الشديد واليقظة البالغة، وبالتالي فإنا نستطيع القول بأن هذا العمل يُقدِّم لنا صورة متواضعة ولكن حية عن “العرفان الإسلامي” المؤسَّس على قواعد سائر التخصصات الإسلامية الأخرى، ويقدم لنا نموذجًا يثبت مدى إمكانية تطبيقه بعمقه الكامل في العصر الحديث أيضًا.
بعض المفاهيم الصوفية التي بَتَرَها تقرير الشؤون الدينية عن سياقها وحرَّفها
إن أكثر المواضيع والمفاهيم التي تعرضت للتشويه هي الكلمات التي يستخدمها الأستاذ من المفاهيم العرفانية والمصطلحات المستخدمة في الأدبيات الصوفية، مثل: المشاهدة، الحضور، الكشف، الرؤيا، المعية، القرب، السر، الغيب، التجلِّي، الإنسان الكامل، الاتصال بالشخصية المعنوية للرسول e. وكما ذكرنا آنفا: إن التجربة الصوفية في معظمها تجربةٌ معنوية قلبية وحاليَّة، وبما أن لسان الظاهر لا يكفي في كل وقت للتوضيح والتعبير بشكل تام عن هذه التجربة العميقة، لجأت الصوفية في كثير من الأحيان إلى استخدام الوسائل الأدبية مثل الرمز والإشارة والتشبيه والمجاز والشعر، فعندما يقول جلال الدين الرومي: “إن لسان الظاهر هو العقل، ولسان الباطن هو الذوق” فإنما يعني أن هذه التجربة ممارسة حاليَّة وذوقية. ولم يزل الصوفيون منذ رعيلهم الأول يبحثون عن سبل لنقل التجربة التي عاشوها إلى الآخرين، لأن التصوف في فتراته الأولى لم يكن منهجيًّا ومنضبطًا مثل أي تخصص آخر، إذ كان لا يزال يعيش مشكلة المشروعية، بمعنى أن الصوفية كانوا من ناحية يبحثون عن حلٍّ لمشكلة المشروعية، ومن ناحية أخرى كانوا يريدون أن يصوغوا نظامًا تعبيريًّا يستوعب تجربتهم العرفانية ويمكِّنهم من نقلها إلى الآخرين بشكل مفهوم. وقد كان علماء الصوفية في القرن الرابع الهجري يتوخون من وراء مصنفاتهم التغلب على هاتين المشكلتين، فقد كتب السَّرَّاج، والقشيري، والحجوري، والكلاباذي مؤلفاتهم بأسلوب مفاهيمي حتى يتمكنوا من تأسيس مشروعية التصوف على قواعدِ أهل السنة والجماعة، بالإضافة إلى وضع تعبيرات يستطيعون من خلالها نقل هذه التجربة الحاليَّة والذوقية إلى الآخرين بلغة مفهومة.
إن أكثر المؤسسات التي أدت إلى الفساد الاجتماعي والأخلاقي في التاريخ الإسلامي هي في أغلب الأحوال السلطة الحاكمة والقوى السياسية. وأما المقاومة المعنوية والأخلاقية تجاه هذا الفساد فقد جاءت في معظم حالاتها من العلماء المدنيين.
والواقع أن التصوف على الرغم من تأخره قليلاً بالمقارنة مع سائر التخصصات الإسلامية الأخرى، لكنه مع ذلك نجح في تأسيس لغته ومنهجيته ونظامه المفاهيمي، ومن المؤكَّد أن لغة التجربة الصوفية وعالَمها الذهني والمفاهيمي لم تتوقف عند ذلك العصر، بل إن الصوفية من أمثال الغزالي وابن عربي وتلاميذهما قاموا بتطوير لغة هذه التجربة وتوسيعها، ووضعوا أوسع تجاربهم وإنجازاتهم في حقل “العرفان الإسلامي”.
وقد انتشر بعد الغزالي استخدام “العالم العارف” في الأدبيات الصوفية، بينما شاع بينهم وانتشر بعد ابن عربي شخصية “العالم العارف الحكيم”، وهذا يعني أننا نستطيع القول بأن الإسلام قد استقرت قواعده على ثلاثية: “العلم-العرفان-الحكمة”.
إننا لا نستطيع أن نفهم ونفسر العبارات والمفاهيم الصوفية الميتافيزيقية الصعبة المعقدة التي تكونت في مدة تزيد على ألف عام (من الرموز والإشارات والمجاز والتشبيه بل والشطح) إلا من خلال الاطلاع على هذه التقاليد والأدبيات، وعلى الرغم من أنها أدت أحيانًا إلى بعض الإشكالات، فإنه لم يتسن حل لغة التجارب الصوفية وفهمها إلا في قوالبِ تقاليدهم العلمية. ويمكن القول بأنه لو لم تكن لهذه التقاليد معالمها ورموزها العلمية والأخلاقية والعقدية واللغوية والذهنية لما أمكن السيطرة على التجربة الصوفية الواسعة والحفاظُ عليها في حدود مشروعية الإسلام السني، أما في عصرنا هذا فلم يعُد من الممكن ممارسة تجربة عرفانية صحيحة ولا التعريفُ بها مع تجاهل هذا التراث المعنوي الطويل.
إن الإنسان قد يعيش الإسلامَ في أدق تفاصيله ولكنه لن يستطيع أن يصف تجربته العميقة هذه بلغة ظاهرة إلا في حدود تقاليد الإسلام العلمية والعرفانية والحِكْمية؛ فأيُّ تجربة لا تتوافق مع تفسيرات هذه التقاليد وقواعدها التعبيرية فإن مشروعيتها ستكون معرَّضة للنقاش ومثارًا للشكوك.
وكذلك الأستاذ فتح الله من حيث إنه يتمتع -لا محالة- بشخصية “العارف” و”الحكيم” أيضًا فإنه يستخدم كل الوسائل المعنوية الذوقية والحاليّة واللغوية التي نشأت في النظام المرجعي للعرفان الإسلامي التقليدي، كما أن آفاقه العرفانية تستوعب كلاًّ من الجانب التطبيقي لهذا النظام المرجعي المعنوي، وبُعدِه اللغوي-الكتابي. صحيح أن الأستاذ شأنه كشأن سائر الخطباء صدرت منه حالات حماس وجيشان، وتعبيرات عاطفية متدفقة، ولكن لم تصدر منه قطعًا تعبيرات تُشَمُّ منها رائحة الحلول والاتحاد مثل ما كان يجري على لسان بعض الصوفية في الماضي من شطحات، بل إنه حتى في مثل هذه اللحظات الهائجة المائجة لم يتفوه بجملة واحدة تتصادم مع الكتاب والسنة وما تأسس عليهما من قواعد أهل السنة والجماعة العقدية والكلامية، والمبادئ الفقهية، والمعايير العرفانية. فهو شخصية “عالِمةٌ-عارفة-حكيمة” أخذت في كل ممارساتها ودروسها وخطاباتها أقصى درجات الحذر والحيطة بعين الاعتبار.
إن معظم الألفاظ التي تناولها “التقرير” ليست من قبيل المفاهيم الصوفية الخطيرة ذات الشحنة العالية، بل إنها مفاهيم وتعبيرات عرفانية يكاد عوام الناس يستخدمونها في لغة الحياة اليومية، بالإضافة إلى أن كلاًّ منها إما تفسيرات مستندة إلى نص قرآني صريح أو رواية نبوية وإما اقتباسات عن الأدبيات الصوفية السنية، ولكلٍ مِن تلك المفاهيم في تقاليدنا العرفانية تاريخ يستند إلى ما يقرب من ألف عام.
وهذا يعني أنه لا حاجة -من أجل فهم معاني تلك المفاهيم فهمًا صحيحًا- إلى تفكير عالٍ للرقي إلى عالَم رمزيات التصوف ومجازاته، ولا إلى بذلِ مزيد من الجهد لتأويلها أو تفسيرها.
أجل، كثيرًا ما تتكرر في خطابات الأستاذ وكتاباته المفاهيمُ الصوفية والعرفانية من أمثال: المشاهدة، القرب، المعية، السر، الحضور، الأنس، الوصال، الزهد، الفقر، المحاسبة، المراقبة، المحوية، التواضع، المسامحة؛ لأن الأستاذ كلما تطرق إلى موضوع فقهي أو اجتهادي أو حدث يومي أو مسألة علمية فإنه يتطرق إلى جانبه الأخلاقي والمعنوي، ولذلك يجد المستمع إليه في جلساته ودروسه دائما الذوقَ العرفاني الصوفي، وليس هذا محصورًا في طريقة حديثه وأسلوبه، بل هو طريقته وأسلوبه في الحياة أيضًا.
إن الأستاذ شخصية “عالمة-عارفة-حكيمة”، ونلمس دائمًا آثار هذه الأمور بشكل صريح أو ضمني في محادثاته وتصرفاته، ومنذ أربعين عامًا لايزال يتردد إليه عدد كبير من المثقفين والعلماء والمفكرين وشخصيات من عالم الأدب والفن، بل والسياسة. والأستاذ -كما عبر كثير منهم- ليس ذا يد طولى في العلوم الظاهرة فقط، بل إنه يتمتع بهوية روحية وأخلاقية وميتافيزيقية عميقة. وعلى العكس من ادعاءات لجنة الشؤون الدينية، لم يَدَّعِ أحدٌ ممن زاره من هذا العدد الكبير من زائريه أنه صدر منه قولٌ أو فعلٌ يتنافى مع الموازين العقلية والأسس العقدية والمبادئ الأخلاقية والإسلامية. كما أنهم لم يلمسوا فيه أي إيماءة تدل على الكبر والغرور، ولا بأي نوايا مبطنة حول ترؤس أي جمهور وقيادتهم. ولكن يا للمفارقة! لقد شعرت لجنة رئاسة الشؤون الدينية بما لم يشعر به الآلاف بل الملايين من الناس (بمن فيهم رئيس الشؤون الدينية)، وفاجأتنا باكتشافها عشرات من المثالب العلمية والعقدية والأخلاقية ونقاط الضعف الشخصية.
ولم يحدُث إلى الآن أن انزعج أحد أو تضرر من هذه اللغة وهذا الأسلوب العرفاني المعنوي المكثف، إلى أن جاءت هذه اللجنة فحكمت بتضرر الملايين من محبيه تضررًا معنويًّا وعقديًّا.
وهل كان لأفراد هذه الجماعة الضخمة البالغ أعدادهم الملايين أن يصبروا هذا الصبر الأخلاقي ويعكسوا هذا الكمال الإنساني تجاه ما انهالت على رؤوسهم من هذا الكم الهائل من أشكال الظلم والقمع والتعذيب والافتراءات والأكاذيب والمؤامرات التي حاكتها لهم البؤر السياسية العميقة، لولا أنهم تدربوا تحت إرشاد الأستاذ وتنورت عقولهم وأذهانهم بتوجيهاته العلمية والمعنوية والأخلاقية السامية؟!
إن لجنة الشؤون الدينية تحاول (وفقا للمهمة التي وُسِّدت إليها) أن تستخرج من هذا الكيان المتواضع والمعنوي فوضى معنوية وأخلاقية والأنكأ للجرح أنها إذ أدت مهمتها هذه قامت بتحريف المفاهيم العرفانية التي أنتجتها التجربة الصوفية الإسلامية التقليدية عن مسارها وسياقاتها.
من الغريب أن أعضاء اللجنة تحاشت التلال الزمردية “البالغ أربع مجلدات”، الذي بُني على قواعدِ أهل السنة والجماعة الرصينة وأُسُسِ علم الفقه والأصول والكلام والعقيدة، ولم يقتبسوا منه ولو كلمة واحدة.
وكان بإمكان اللجنة المكلفة بإعداد التقرير أن تكتفي بمراجعة الموسوعة التي أعدتها رئاسة الشؤون الدينية للاطلاع على المعاني الاصطلاحية التي تعنيها مفاهيم مثل: المشاهدة، القرب، الأنس، المعية، السر، الحضور، الوصال، في الأدبيات الصوفية، ناهيك بمراجعة المراجع الصوفية التقليدية، أو معاجم المصطلحات المتخصصة؛ فأعضاء “الهيئة العلمية” المحترمون عندما حرفوا هذه المصطلحات الصوفية التي استخدمها الأستاذ، تعمدوا أن لا يرجعوا حتى إلى الموسوعة التي أعدتها المؤسسة التي يتبعون لها، وبدلا من ذلك لجأوا إلى أسلوب سوقي مبتذل، بطريقة قراءة النوايا وتحميل عباراته معاني لم يقصدها، بشكل يتنافى مع المبادئ الأخلاقية والعلمية. فإذا تفضَّل القارئ المتحمس للحقيقة بالرجوع إلى الموسوعات والمعاجم المنشورة على الإنترنت للاطلاع على المواد ذات الصلة بالموضوع، فهم مدى الجهد الذي بذله أعضاء اللجنة في التزوير وقراءة النوايا بدافع من الفساد الديني والأخلاقي. والحال أن هذه المفاهيم هي من قبيل المفاهيم التي اندرجت في الأدبيات العرفانية في بدايات القرن الثاني الهجري التي كانت المفاهيم الصوفية حينها في أولى مراحل نشأتها ومعظم هذه المفاهيم تعابير معنوية وحاليّة وذوقية تفسر القرب من الله U في إطار العبودية الكاملة لله تعالى وحياة ٍمشحونة بالزهد في الدنيا ومتاعها. وإذا قمتم بتكييف التجربة التوحيدية التي يعيشها العارف وترجمتِها إلى لغة الذوق والحال، فإن المفاهيم التي ستخرج أمامكم هي: المشاهدة، والقرب، والأنس، والمعية، والحضور وأمثالُها وما يقابل كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو قولهم: “لا مشهود إلا هو”. فليس همُّ الصوفية مجرد أن يجعلوا اللسان يقر بكلمة التوحيد ويجعلوا القلب يصدّق بها، بل هدفهم -إلى جانب ذلك- أن يضعوا هذه الحقيقة في مركز تصورهم حول جميع الكون باعتبارها ذوقًا روحانيًّا.
ويمكن أن نلاحظ هنا أن الصوفية قد وصلوا إلى تصور ميتافيزيقي جديد وواسع حول الوجود، بمعنى أنهم لا يكتفون بما فعله الكلاميون في بيان العلاقة بين الله-الوجود-الإنسان، من وصف الله U بـ”الخالق” فحسب، فيقولون: “صحيح أن الله تعالى هو القدرة الخالقة الوحيدة، ولكنه في الوقت ذاته حقيقة كل شيء”. وهناك فرق بين أن يكون “خالقَ كل شيء”، وبين أن يكون “حقيقةَ كل شيء”. ويقول الصوفيون: “إنكم إذا قلتم: “إن الله حقيقةُ كل شيء” تكونون قد دخلتم في مجال العرفان الحقيقي والتوحيد الذوقي”. فهذا هو المعنى العرفاني الذي حمَّله الصوفيون على مفهوم التوحيد: أن تشاهد الله U بذوقك باعتباره حقيقة كل شيء، فما دام “السالك” حبيس حدود العقل والتوحيد الكلامي فلن يتمكن من الانفتاح إلى التوحيد الشهودي والذوقي، ولذلك ينبغي للصوفي أن يتخطى حدود الإدراك العقلي والحسي، ليتوصل إلى إمكانيات الإدراك الذوقي والعرفاني التي ليس لها حدود. فلا يمكن التوصل إلى الإدراك الذوقي والعرفاني بالاستدلال والاستخراج والاستنباط وأمثالهما من الأدوات العقلية والمنطقية، وإنما يمكن التوصل إليه بإمكانيات القلب والروح الشهودية.
فعندما تعاملت اللجنة المكلفة بإعداد هذا التقرير مع المفاهيم التي استخدمها الأستاذ من أمثال: المشاهدة، القرب، الأُنس، المعية، السر، الحضور، الوصال وأمثالها تجاهلت عمدًا المعانيَ اللغويةَ والاصطلاحيةَ والعرفانيةَ لهذه المفاهيم، ولكن الأمر الذي تجاهلته في الحقيقة هو كون هذه المفاهيم عرفانية أساسية بَنى عليها الصوفية تصورهم عن التوحيد، فلولا هذه المفاهيم لما كنا نتمكن من الفهم الحقيقي لمفهوم التوحيد ولا الذوق ولا الشهود ولا غيرها من الأفكار الأساسية في التصوف الإسلامي.
والحال أن جميع هذه المفاهيم تقريبًا قد استُخرِجت من نصوص القرآن وألفاظه، بمعنى أنها تعد مفاهيم قرآنية، فكل من له دراية بالأدبيات الصوفية يعلم أنهم عندما عبروا عن تجاربهم ووضعوها في القوالب اللفظية، قد استندوا في تصورهم عن الله U إلى تعبيرات قريبة ومألوفة وغير متعالية، بدلاً من تصور يتعذر الوصول إليه كما فعله أهل الفقه والكلام فإن الله تعالى قد وصف ذاته في القرآن الكريم بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد. فهناك قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(ق:16). وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(الحديد:4). وغيرها من عشرات الآيات التي استشهد بها الصوفية.
صحيح أن بعض هذه الآيات يمكن تصنيفها في ضمن الآيات المتشابهة وبعضها الآخر في ضمن التعبيرات المجازية، ولكن اللغة الصوفية قد طوَّرت أساليب وأدوات وأصولاً تستعين بها على تفسير هذه التعبيرات المجازية بشكل لا يتعارض مع المبادئ الكلامية والعقدية السنية. والحقيقة أنه ليس هناك صوفي يريد عندما يستخدم هذه التعبيرات أن يتصور الله تعالى بتجسيم ظاهر، بل إنه يحاول التعرف إلى الله تعالى والتعبيرَ عنه في حدود التشبيه والتنزيه ومبادئهما التي وَضع العرفان الإسلامي مناهجها.
إن علم الكلام انطلاقًا من شدة حرصه على التنزيه قد بالغ في الأمر فقام بتجريد “تصوُّر الإله وجعله أمرًا نظريًّا”، في حين أنه نشأ في صفوف الصوفية تيارات وشخصيات قدَّموا تصورًا عن الله U المتجلي في الوجود بعلمه وإرادته وقدرته وإحسانه.
ومع أن هذه الظاهرة تسببت في مناقشات لا زال لهيبها مشتعلاً في بعض التيارات إلى يومنا هذا فإنها بالمقابل أدت إلى نشوء أدبيات ضخمة للتأليف بين هذين المنظورين المختلفين (الظاهر-الباطن)، وإيجاد تصور وتفسير مشترك يوحِّد الكلمة بين هذين التيارين. ورغم كل هذه الأدبيات العملاقة التي تكوَّنت نتيجةَ الجهود الرامية إلى تقارب الرؤى وإيجادِ تفسير مشترك بين هذين التيارين لم يزل هناك مِن أصحاب السلطة العلمية مِن الفقهاء والمتكلمين مَن تعصبوا للحفاظ على ظواهر النصوص وحدودها، وبالمقابل كان هناك في صفوف الصوفية الذين كانوا يعيشون تجارب مبالغًا فيها مَن كانوا يتصرفون وكأنهم يتحدَّون ظواهر النصوص الشرعية فاستخدموا تعبيرات وقاموا بادعاءات تُوهِم بالحلول والاتحاد. وفي الخط الممتد من منصور الحلاج إلى ابن الفارض وابن السبعين، ومن النسيمي الشاعر إلى نيازي المصري، ومن السشتري وابن عربي إلى يونس أَمْرَه وجلال الدين الرومي قُدمت نماذج رائعة من الشعر الصوفي طُوِّر فيها فهم توحيدي مختلف مشحون بمشاعرِ العشق والفناء. ومع هذا الضغط الكبير لاقى التصوف الإسلامي قبول الأمة الإسلامية(3).
.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) نشرت رئاسة الشؤون الدينية التركية في ١٤ يوليو ٢٠١٧ تقريرًا بعنوان “تحليل أربعين عاما لحركة كولن” امتلأ بمزاعم عديدة ضد حركة الخدمة ورائدها الأستاذ فتح الله كولن خلال الأربعين عاما الماضية. تزامنا مع الذكرى الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة، وقد صدر هذا التقرير بناء على تعليمات رئاسية صدرت من رئيس الجمهورية إلى رئاسة الشؤون الدينية، ضمن الحملة الموسَّعة التي بدأها أردوغان ضد حركة الخدمة في كافة القطاعات منذ عمليات الفساد في ديسمبر 2013، ثم زادت وتيرتها وتصاعدت حدتها عقب محاولة الانقلاب المشؤومة في يوليو/تموز 2016م. (المحرر)
(2) يقصد بالعلماء المدنيين أو العالم المدني في المقال العلماء المستقلون عن السلطة، أو العلماء غير الرسميين وغير المنخرطين في الإدارة أو السلك البيروقراطي. (المحرر)
(3) الترجمة عن التركية: صالح جمال أوغلو.
Leave a Reply