الحمد لله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(الأَعْلَى:2-3)، القائلِ لنبيِّه الكريم، في محكم تنزيله الحكيم، بيانًا وتبيينًا: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(فَاطِر:19-22).
والصلاة والسلام على صاحب القول الفصل في حقيقة “الله، والإنسان، والكون”، سيدِنا محمَّد، “شجرةِ الوجود”، و”العلَّة الغائية لكتاب الكائنات”؛ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ مَن أُرسِل للحائرين التائهين، سراجا ونورا مبينا، ليخرجهم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(الأَحْزَاب:43).
البشرية الحائرة
وبعدُ، فإنَّ أصدق وصف يليق بحال البشرية اليومَ هو وصف “الحيرة”؛ إذ بعدما عرفت قرونا من “الوهم” و”الغرور” و”الادعاء”، وجرَّبت شتى “النظريات”، و”الأيديولوجيات”، و”الفلسفات”، تيقَّنت أنها تسير مهرولةً نحو حثفها، وتستعجل عنوةً خرابها ودمارها؛ وتأكَّدت أن لا شيء من محاولاتها البائسة يستطيع اجتثاتها من براثن الشقاء والهلاك والدمار.
فما كان من العقلاء اليوم إلاَّ أن دقُّوا ناقوس الخطر، وألقَوْا بالمنشفة البيضاء على أرض الحلبة، معلنين أنهم في “حيرة”، وأنهم ينتظرون مَن يُنقذهم، ويُخرجهم من حالهم إلى حالٍ أفضل وأحسن، وأكثر طمأنينة ويقينًا… ولكنَّهم للأسف لم يُسلِموا قيادهم “للوحي”، ولم يعترفوا بالإمارة والقيادة والهداية “للأنبياء”… وعلى رأس الأنبياء جميعِهم خيرُ الخلق محمدٌ عليه السلام.
ألا ما أشبه حيرتهم هذه بحيرة قريش أوان كان سيد الأنام في “غار حراء”، يُصنع على أعين الله تعالى، ويربَّى في صفوف مدرسة “عشق الإله، وعشق الحقيقة”؛ هنالك تعلَّم كيف “ينكر ذاته”، وكيف “يسحق أناه”؛ ليحمل همَّ “البشرية الحائرة” فردًا فردًا، بلا استثناء، في جميع الأزمنة والأمكنة، ولا يزال، إلى أن يُبعث يوم الحشر، فداه أمِّي وأبي، وهو ينادي بأعلى صوته: “أمَّتي أمَّتي”.
ولقد أصدرت “منظمة المؤتمر الإسلاميِّ” ما عُرف بـ”إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام”؛ وأكَّدت فيه على أنَّ دور المسلمين اليوم هو “هداية البشرية الحائرة”. ورد في ديباجة الوثيقة “التأكيدُ على الدور الحضاري والتاريخيِّ للأمَّة الإسلامية، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان”؛ والذي يُؤمَّل هو “أن تقوم هذه الأمَّة اليومَ بهداية البشرية الحائرة، بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة”.
لكأنَّ إعلان الفيزيائيين عن فشل “نظرية كلِّ شيء” قبل بضع سنين، إثر سقوط “نظرية الأوتار الفائقة”؛ كان عنوانا للإعلان عن فشل الإنسان في إسعاد أخيه الإنسان، واعترافا ضمنيا منه بالحاجة إلى مصدرٍ متجاوزٍ متعالٍ، يقول قوْلته، ويأخذ زمام التحكُّم من جديد.
ولقد هدَّت “الحيرةُ” الشرقَ والغربَ على السواء، فعبَّر كلٌّ منهما بطريقته وحسب ظروفه؛ وأصدق عنوان لهذا التعبير هو كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، للمفكر المسلم، علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله.
وفي مقال بعنوان “طويلا بكينا”، نقرأ دلالةً معبِّرة عن تكلم الحيرة، يقول فيه الأستاذ محمد فتح الله كولن: “إنَّ الغربيَّ الذي حسِبنا أنَّ لديه مصباحَ حياتنا، كان قد ارتمى على مصطبة النعش قبلنا بكثير. إنَّه مات في ذلك اليوم الذي هبَّ فيه “نيتشه” ليُردِي الإلهَ لباسَ الموت معلنًا في وهمه أنه “مات الإله”.. إنَّ الميت لم يكن سوى الغربيِّ نفسه، وإنسانِنا المسكينِ معه.. إنسانِنا الذي غرق في المستنقع من حيث ظن أنه خرج من السجن ناجيًا.. إنسانِنا العابث المتفلِّت الذي تمرد على كلِّ شيء، وأنكر كلَّ شيء”.
وفي مقال بعنوان “تمشيط الوحش على النحو الذي يحلو به”، لـ”إنجليك دل راي”، نقرأ هذه الحسرة من تلكم “الحيرة” في قوله: “إننا نعيش حقبةً مظلمة، نختبر خلالها تناثر الممارسات والأفكار والمعتقدات التي كانت تحدِّد إلى الآن وتيرة مجتمعاتنا”.
ومن ثم يحسُن بنا اليومَ أن نعلن، في هذا المؤتمر العالميِّ الحاشد، وفي هذه المناسبة الفريدة، من موقع هذه المدينة العريقة، وفي هذا البلد الضارب جذوره في الحضارة الإنسانية والإسلامية المجيدة؛ يحسن بنا أن نعلن عن “فشل الأيديولوجيات”، وعن “موت الموت” و”موت القاتل” على إثره، وعن “نهاية النهايات”، وعن ضرورة البحث عن “ما بعد المابعد”.
نعلن أنَّ الذي بقي بعد كلِّ هذه الأعاصير هو وجهُ الله الكريم: “ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام”، ثم كلام الله الحكيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(الحجْر:9)، وكذا رسوله الرحيم: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(الْمَائِدَة:67)؛ ثم إنَّ الذي لا يزال ينبضُ حياةً وحركيةً هو “الإنسان”، و”المجتمع”، “والكون”، و”المعنى”، و”الإمكان”، “والمستقبل”، و”الخير”… فإذا ما التحمت هذه بتلك، وتعلَّقت هاته بهاتيك، صدق أن نتلو قول الله تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً(الْكَهْف:46) وفي آية: وَخَيْرٌ مَرَدًّا(مَرْيَم:76).
وبيان ذلك مفصَّلا، فيما يلي:
أولا: فشل الأيديولوجيات
لو أنَّ أحدا سئل عن أزمات هذا العصر، في شتى المستويات، السياسيةِ منها، والاجتماعية والنفسية، والاقتصادية… وغيرِها، ثم ادَّعى أنَّ الحلَّ لها لن يكون إلاَّ في “أيديولوجية” من “الأيديولوجيات” العريقة، لاتَّخذه عامة الناس، بله العلماءُ، مسخرةً ومهزلة، ولتيقَّنوا أنه يحيا منفصما عن زمانه ومكانه، وأنه أقربُ إلى عالَم الخيال منه إلى عالم الواقع. ذلك أنَّ جميع “الأيديولوجيات” قد جُرِّبت، ولعدَّة قرون خلت، فما أورثت البشريةَ إلاَّ شقاءً وجحيمًا، ولم ينجُ من لظاها الشرقُ ولا الغرب، الأغنياءُ ولا الفقراء، المستعمِرون ولا المستعمَرون؛ جميعُهم كان ضحيةً بشكل أو آخر لتلك “الأيديولوجيات”.
كتب “جون زيغلر” رفقة “إريَل دار كوستا” مؤلَّفا بعنوان “إلى غد يا كارل، حتى نخرج من نهاية الأيديولوجيات”، والدلالة تعني بلا شكٍّ توديعَ “كارل ماركس” بأسلوبٍ ساخر، ومن خلاله “الماركسية” باعتبارها “أيديولوجية”؛ كما أنَّ “فانسون بابَن” قد تحدَّث عن “نهاية الأديولوجيات واختراع الرؤية الإيجابية للمستقبل”. وينقل الصحفي “فيكتور فييلفولت” في مذكراته، التي عنونها بـ”مذكرات الجنديِّ المكسيكيِّ المسلَّح”، أنَّ والده كان يحذِّره من كلِّ الكلمات التي تنتهي باللاحقة “isme”، يقول: “في كلِّ مراحل مراهقتي كنتُ أسمع والدي يحذِّرني من الكلمات التي تنتهي بـ”إيزم”، فإنها جميعا تُقصي، وتفرِّق، وتتسلَّل إلى الأقوال والأفعال فتنثر فيها بذور الشقاق”.
فلا مكان إذن، اليومَ “للإيديولوجيات”، سواء في ذلك ما كان في حقل العلم مثل “الداروينية” (Darwinisme)، أو في مجال الفنون مثل “مذهب التعبيرية” (Expressionnisme)، أو في الاقتصاد مثل الرأسمالية (Capitalisme)، أو الفلسفة والأبستمولوجية، مثل الأنثوية (Féminisme)؛ وفي السياسة مثل الشيوعية (Communisme) والعلمانية (Laïcisme).
بل، وحتى ما يعرف في الأدبيات الإعلامية المعاصرة بالإسلاموية (Islamisme)، ومنه الإسلاموي (Islamist) أو حتى “الإسلامي” عادةً؛ ما هو إلاَّ توظيفٌ مغرض يُراد منه تشويهَ صورة الإسلام، وعرضه على نمطٍ “أيديولوجيٍّ”، وبالتالي دفعُ المستمع إلى التقزُّز من النسبة إلى الإسلام.
ثانيا: موت الموت
أطلق نيتشه مقولته الذائعة الصيت: “لقد مات الإله” بالألمانية (Gott ist tot)، ثم تحوَّلت إلى حقلٍ للتفسيرات والتطبيقات؛ وبغضِّ النظر عن حقيقة الدلالة، هل هي إخباريةٌ أم تقريريةٌ، فإنَّ الفكر الإلحاديَّ حوَّل هذه العبارة إلى “إنجيل” وحوَّل “نيتشه الإنسان”، وكذا “إنسانَ نيتشه”، إلى إله ورمزٍ للعصر وللمعنى. ولم يتوقَّف نيتشه في هذه المرحلة، بل راح يعمل على إزالة ما أسماه بـ”ظلال الإله”، واقتلاع كلِّ آثار الإله على الأرض؛ ليفتح المجال واسعا أمام “الإنسان الأعلى”، قصد الانطلاق نحو المستقبل بأسلوبٍ دراميٍّ.
وعن آثار هذه الفلسفة الإلحادية يقول نضال البيابي: “لاقت هذه الفكرةُ صدًى واسعا عند قائدي الثورات، وحاصدي أرواح الشعوب، ومَن مسَّه مسٌّ من جنون العظمة، كـ”هتلر” و”ماوتسي تونغ”، وللأخير مقولة شهيرة في هذا السياق، جاء فيها صراحةً وصلفا: “إذا ما كنَّا عظماءَ بما فيه الكفاية، حتى نُنهي سيطرة الإله علينا، ألا نصبحُ نحن أنفسنا آلهة. ببساطة لأننا جديرون -فيما يبدو- بذلك؟”.
لكن، للأسف تنطوي دلالة “موت الإله” -كذلك- على العديد من النتائج المدمِّرة، منها: “موت الحقيقة”، و”موت المعنى”، و”موت الميتافيزيقا”، و”موت الأخلاق”؛ إلى أن تنتهي بحلول “الإنسانيِّ” في “الماديِّ”، فتُخضع الإنسانَ لمعايير المادَّة، ومن ثمَّ يتمُّ الإعلان عن “موت الإنسان”.
يقول الدكتور أحمد عبادي: “نيتشه الذي أعلن عن موت الإله، هو في حقيقة الأمر أعلن عن موت الإنسان”.
واليومَ، على مشارف الألفية الثالثة، نسجِّل بصوت جهور موت “فلسفة الموت” أو “موت الموت”، بعدما أودت بالبشرية في مهاوي لا قعرَ لها؛ ثم على إثر ذلك “مات القاتل” نفسُه، وبقي ذكره عبرةً ولعنةً في جبين القرن الماضي، لما خلَّفه من دمار وخراب، ومن فتن وحروب، أبدع فيها حامل هذه الأوهام أيما إبداع، في سُبل التقتيل والتنكيل، والاستدمار وهتك الحرمات، ولم يكن الطرفُ المقابل، قادرا ولا جاهزا للمواجهة؛ فصدق في ذلك قوله تعالى: إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(الأنفال:73). ولقد عجزنا فلم نفعل ولم نوقف النزيف، فكانت الأرض -نتيجةً لذلك- مستنقعًا للفتن، وساحة للفساد الكبير، ولا تزال.
أمَّا الذي بقي بعدَ هذا الانتحار الفظيع، فهو -ولله الحمد والمنَّة-: “الحياةُ”، و”واهبُ الحياة” سبحانه، و”السراج النبويُّ” المنير؛ أي بقي “الأملُ”، و”المستقبلُ”، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(الصَّف:8).
ثالثا: نهاية النهايات
يعرِّف عبد الوهاب المسيري رحمه الله، في “الموسوعة” “نهايةَ التاريخ”، بأنها: “عبارةٌ تصف اللحظة التاريخية التي تسودُ فيها الواحدية (الروحية أو المادية) في بساطتها واختزاليتها، التي تحوِّل الإنسان إلى شيء طبيعيٍّ/ماديٍّ، فلا يبقى سوى المبدأُ الواحد، الذي يستوعب الإنسانَ تمامًا، فتختفي كلُّ الثنائيات، ويختفي الزمانُ والتدافع، ويختفي معها الإنسان المركَّب، بل الحيزُ الإنسانيُّ ذاته. وبما أنَّ ما يسود في العصر الحديث هو الواحدية المادية، فإنَّ عبارة “نهاية التاريخ” تعني، في واقع الأمر، نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي. وفي العصر الحديث ترتبط فكرةُ نهاية التاريخ باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية وبالفردوس الأرضيِّ، وبفكرة العودة إلى صهيون”. فهي بالتالي تفارق الواقع، وتتنكر للإله، وتلغي الفردوس الأخروي.
وليس كتابُ “نهاية التاريخ” لـ”فرانسيس فوكوياما”، هو الوحيد الذي بشَّر بالنهاية، وصوَّح بها؛ وإن كان هو الأشهرُ والأكثرُ تداولا في الإعلام وفي الدوائر العلميَّة والسياسية؛ يقول “لوسيان سيف” في مقاله “إنقاذ الجنس البشري، وليس فقط الكرة الأرضية”: “لقد باتت مراكمةُ الرأسمال أكثر فأكثر من دون هدف. وما نعيشه هو الفشل التاريخي لطبقة احتكارية باتت من دون هدف تمدينيِّ، تدَّعي أننا محكومون بـ”نهاية التاريخ” هذه، إنه “موت المعنى” المنتشر في كلِّ مكان عبر النظرة المتوحِّشة للربحية… حيث لا يمكن لأيِّ مشروع بشريٍّ أن يجد متنفَّسا له”.
و”نهاية التاريخ” تعبير عن نهايات أخرى منها: “نهاية الإنسان”، و”نهاية المعنى”؛ ولفوكوياما كتاب آخر هو بالأصل مقالة منشورة في مجلة “ناشيونال انترست” صيف عام 1999، بعنوان “نهاية الأنثروبولوجيا”.
واليومَ، رغم أنَّ الدوائر الرسمية لا تزال وفية لنظريات “النهاية”؛ إلاَّ أنَّ الواقع العالمي، والإنسان/الإنسان؛ تيقنا أن لا معنى للنهاية، بالمدلول الذي طرحه قساوسة العلم في هذا العصر، ذلك أنَّ المشاكل اليومية ما انفكت تتعقَّد، وأنَّ مثل هذه الطرحات كانت خلفية للحروب الجديدة، التي خاضتها دول قوية على دول أخرى ضعيفة؛ وأننا لو واصلنا على هذه الوتيرة سوف لن نحقق “الفردوس الأرضي” كما يدَّعون كذبا وزورًا، بل سنغرق جميعا في الجحيم الأرضيِّ… إن لم يكن اليومَ، فغدًا.
رابعا: ما بعد المابعد
المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة “post” والتي تعني حرفيًّا “بعدَ”، ولكنَّها تعني في واقع الأمر “نهايةً أو تَحوُّلا جوهريًّا كاملا” مثل: post-modern بمعنى “ما بعد الحداثة”، و post-industrial بمعنى “ما بعد الصناعي”، وpost-capitalist بمعنى “ما بعد الرأسمالي”؛ و post-historical بمعنى “ما بعد التاريخ” التي تعني في واقع الأمر “نهاية التاريخ”.
وأحسن وصف لمدلول “ما بعد الحداثة”، مقولة رئيس الجمهورية التشيكية، الكاتب المسرحي الشهير “فاكلاف هافل”، التي وصف فيها أمله في “عالم ما بعد الحداثة” باعتباره واحدا مبنيا على أسسٍ علمية، ولكن المفارقة فيه “حيث كلِّ شيءٍ ممكن، ولا شيء مؤكدٌ تقريبا”.
ومصطلح “ما بعد الحداثة”، في جلِّ استخداماته يصف الاتجاهات التي يُنظر إليها على أنها نسبية، أو مضادة للتنوير، أو المناوئة للحداثة؛ لاسيما فيما يتعلق بنقد العقلانية، أو الكونية، أو العلم. كما أنها أحيانا تُستخدمُ لوصف الاتجاهات في المجتمع الذي يُنظر إليه أنه نقيضٌ للنظم التقليدية للأخلاق.
وليست كلُّ مقولات “ما بعد الحداثة” خاطئةً، بخاصَّة ما كان منها نقدا للحداثة؛ غير أنَّ أسلوب ردَّة الفعل الذي لازم إيقاع “ما بعد الحداثة” جعلها تنحرف انحرافا شديدا، فعوض أن تعالج الداء بالدواء، راحت تداوي الداء بداءٍ أشدَّ فتكًا؛ وهذا دليل آخرُ على الحيرة، وعلى العجز عن إيجاد الجواب الشافي، والترياق المعافي، لما آلت إليه البشرية منذ أمد طويل.
مِن أين المخرج؟!
تقف البشريةُ اليومَ، بشقيها الغربيِّ والشرقيِّ على السواء، أمام العديد من الخيارات:
- إمَّا أن تواصل الكدح في حيرتها قرونا أخرى،
- أو تبحث عن جواب (أو أجوبة جديدة) ضالَّة مضلَّة،
- أو تهتدي إلى معنى “المعقولية”، و”الحقِّ”، و”الصواب”… وهو المأمول بحول الله تعالى.
ألَّف “مراد هوفمان” كتابا بعنوان “الإسلام كبديل”، ولم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، وإنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكريةُ والحضاريةُ، وصاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ ومما جاء في كتابه: “إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمةٌ من سماته على مرِّ التاريخ، وذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزَّل على قلب المصطفى r”. وقال في موطن آخر: “الإسلام دينٌ شاملٌ وقادرٌ على المواجهة، وله تميُّزه في جعل التعليم فريضة، والعلمِ عبادة… وإنَّ صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب!!”.
والعالم “مراد هوفمان” يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل والخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، وأنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، وأشار بوضوح إلى شرط تحقُّقه، وقال: “لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة: “يأتي النور من الشرق” صالحةً … إنَّ الله سيعيننا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام”.
كما كتب “هوستن سميث” مؤلَّفا بديعا، بعنوان “لماذا الدين ضرورة حتمية؟!”، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية والعلموية المعاصرة، ونهايةُ النفق هي بالضرورة موصولةٌ بالوحي الإلهي، وقد اعتمد المؤلف على “البرادايمات” وعلى أسلوب “التمثُّل” ليعالج موضوعه، وهو وإن لم يؤكِّد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحيَ والمدد الرباني لبلوغ السعادة، وبغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري، وفي حيرتها اللامتناهية.
أمَّا الأستاذ محمد فتح الله كولن، فيقول في مقالة “رسالة الإحياء”، من كتاب “ونحن نبني حضارتنا”: “إنَّ أمَّتنا أوَّلا وبالذات، ثم الإنسانيةَ جمعاء، بحاجة ماسَّة إلى فكر سامٍ يقوِّي إراداتنا، ويشحذ هممنا، وينوِّر أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرِّضنا للخيبة مرَّة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكارٍ وغايات وأهداف سامية، ليس فيها فجواتٌ عقلية أو منطقية أو عاطفية، وتكون منغلقةً أمام السلبيات التي وسمت البشريةَ أوان حيرتها، وصالحةً للتطبيق كلَّما سمحت الظروف”.
إذن، ثمة اتفاق أنَّ كلَّ الظروف ملائمةٌ، وكلَّ الأسباب متوفِّرة، لأن تهتدي البشرية إلى الصراط المستقيم. لكنَّ السؤال الجدير هو: هل ستتشكَّل هذه الظروف وحدها، بلا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد؟!
هنا يأتي دور العلم ودور العالِم على إثر السراج النبويِّ، بدلالاتٍ ومراحل، هي نفسها دلالات ومراحل ما بعد “غار حراء”:
- العلم: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ(العَلَق:1).
- الخلُق: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(القَلَم:4).
- الدعوةُ (أي قيام النهار): يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ(الْمُدَّثِّر:1-2).
- التبتل (أي قيام الليل): يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً(الْمُزَّمِّل:1-2).
- الضرب في الأرض، والجهاد في سبيل الله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ(الْمُزَّمِّل:20).
أمَّا ذكرُ الله تعالى، وتلاوة كتابه الحكيم، فملازمٌ لكلِّ المراحل، وذلك بموجب ما ورد في جميع الآيات والسور، وباستقصاء سيرة النبيِّ الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فالسراج النبويُّ إذن، قام على هذه الركائز، وعمادُها جميعا: “الإيمان بالله”، و”اليقين في الله”، و”صبغة الله”…
فكلُّ عالِم، مهما كان تخصُّصُه، ومنصبه، ومسؤولياته، ومستواه، ومكانته… وجب عليه أن يتحرك على إيقاع هذه المعاني، وأن لا يحيد عنها قيد أنملة، وإلاَّ كان وبالا على البشرية، وزادها شقاء إلى شقائها، وحيرة إلى حيرتها.
وبناء على هذه المقدمات نحدِّد جملة من مهامِّ العالم، وأمثلة من أدواره المنوطة، على إثر السراج النبوي، وهي كالآتي:
دور العالِم
علم موصول بالسماء
تعالج “الرؤية الكونية” ثلاث علاقات هي العلاقة “بالله، وبالإنسان، وبالكون”؛ فكلُّ عِلم، وكل عالِم، لم يربط معارفه، ورؤاه، وتصوُّراته، ومفاهيمه، ومناهجه… بالخالق وبالوحي؛ فإنَّه يتحوَّل إلى “تقنيٍّ” في العلم، صاحب تفاصيل وجزئيات، قد تكون نافعة آنيًّا، لكنها ستكون مضرَّة مهلكة ولو بعد حين. ولا يُستثنى من هذا الحكمِ العلومُ الطبيعية والرياضية والفزيائية، وغيرها مما لا يتعامل مع الإنسان مباشرة، إذ إنه في جميع الأحوال يعود بالنفع أو بالضر إلى الإنسان وحده.
ومن منطلق قوله تعالى لنبيه الكريم اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ(العَلَق:1)، نستنتج اليوم أنَّ المخاطَب بالقراءة هم المسلمون؛ ذلك أنَّهم صاروا -والأسفُ ملء الجوانح- أقلَّ الأمم اهتماما بالعلم، وبالقراءة، وأضعف الشعوب صلة بالفكر، وبالعقل؛ أمَّا أمرُ الله تعالى أن تكون القراءة بِاسْمِ رَبِّكَ فالمخاطَب -بالدرجة الأولى- اليومَ هم الذين يقرأون، ويُنتجون المعرفة، ويتبحَّرون في العلم؛ لكن بغير اسم الله، بل في الغالب اتسمت هذه القراءة بمحاربة كلِّ الأديان، بغير استثناء؛ والانتقام من جميع القيم والغايات؛ وفي هذا السبيل ولدت نظريات “الموت”، و”النهايات”، و”الصدامات”، والصدمات”.
ولو أنصف العلم في عصرنا، لأدرك أننا لم نخلق إلاَّ “لنعرف الله ونعرِّفه”، “فالعيش بمقتضى القصد الإلهي هو سرُّ خلقتنا”.
فعلى العالِم المسلم، المستنير بالوحي وبالسراج النبوي، أن يحمل على عاتقه مهمَّة تصحيح “الرؤية الكونية”، فمن واجبه إحلال “الرؤية الكونية التوحيدية” بديلا عن “الرؤية الكونية المادية الإلحادية” في الدوائر العلمية المختلفة؛ أي من واجبه إعادة العلاقة بين “الله، والإنسان، والكون” إلى نصابها؛ وذلك “بإعادة التأسيس للنظرة الكوزمولوجية (Cosmologist)، (علم الكونيات) التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون” عوضا عن النظرة “الواحدية” التي “أغرقت العلومَ في خضمِّ المادة، وأصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أحادي”.
وعلمٌ نافع للخلق
كان نبينا الأواه r “إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً”(رواه ابن ماجه).
على ضوء هذا السراج النبوي الوهَّاج، يكون الهدف من العلم هو “النافعية” لا “النفعية”، ونعني بالنافعية الأثرَ الماديَّ والمعنويَّ، الدنويَّ والأخرويَّ معًا؛ فكلُّ علم لا يتحوَّل إلى فعل وحركية، ولا يسهم في إسعاد البشرية دنيًا وآخرةَ، ولا ينفع خلقَ الله، هو لغو وعبث وردٌّ.
أمَّا “النفعية”، التي تعني المصلحةَ، والأثر الآني، والمقابل المحسوبَ المباشر، فليست مطلوبةً ولا هي مستساغةٌ. بل هي محرَّمة شرعا، مرفوضة عقلا.
لبديع الزمان أبي العزِّ إسماعيل بين الرزاز الجزري كتابٌ بعنوان “الجامع بين العلم والعمل النافع، في صناعة الحيل”؛ هو موسوعة علمية، وخزانة للاختراعات والاكتشافات البديعة، حوت ما يزيد على خمسين اختراعا في شتى المجالات، بالتحليل وبالصور الهندسية؛ وهو مع ذلك يفتتح مشروعه الذي لا نجد له مثيلا لدى علماء العالم الإسلامي اليومَ، بقوله: “الحمد لله المبدِع صنعه في السمائيات، المودع أسرار حِكمه في الأرضيات، فهي نسخة من عالم ملكوته، ودليل قاطع على جبروته، أحمده على ما علَّم، وأستزيده من فواضل النعم، وهي مطلوبات الحكم، حمدا يماثل بعض إحسانه، وجزيل امتنانه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف نوع الإنسان، وعلى آله والتابعين له بإحسان”.
وما محنة هذا العصر إلاَّ لكون من يكتشف ويخترع، وينفع العباد -آنيا على الأقلِّ- بالأدوية، والآلات، والوسائل، والتقنيات، والأطعمة، والأشربة، ووسائل الاتصال والتواصل… وغيرها. هو في الغالب ممن يتنكَّر للخالق، ويلحد بالله؛ أمَّا من يدعو الناس إلى الصلة بالله، وينادي البشرية إلى الخير، فهو لا يزال -واحسرتاه- بعيدا عن التأثير المباشر، من إعمار الكون، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض.
ولن تعرف البشرية فجرها الجديد، إلاَّ على يد علماء ربّانيين، يصدق فيهم حديث المصطفى r: “الخلْق عيال الله، أحبُّكم إلى الله أنفعكم لعياله”(رواه البخاري). فالعالم الذي لا ينفع خلق الله إذن، بجميع أنواع النفع… العالِم الذي يعزل نفسه بين أفكاره، ويحيا مثل الأرضة على صفحات أوراقه؛ ويخاطب الناس بما لا يفهمون، هو أبعد ما يكون عن السراج النبويِّ، وهو ليس مؤهَّلا ولا أهلا لينال حبَّ الله ورعايته وعنايته.
وصدق مالك بن نبي في قوله: “إنَّ الماء لا يستقي الأرض التي تعلوه”. فإن أردنا أن نهدي البشرية الحائرة، على ضوء السراج النبويِّ، علينا أن نكون أرفع منها مستوًى، وأعلى منها قدرًا، وأكثر منها نفعًا، وأزكى منها صدقًا؛ وإلاَّ اعتَبرَت خطابنا مجرَّد “ادعاء فارغ”، و”كلام لا يصدِّقه العمل”.
التبليغ، غاية الغايات
في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال رسول الله r: “إنَّ العلماء ورثة الأنبياء. وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر”(رواه أبو داود والترمذي)؛ فالحديث لا يعني أنَّ العلماء يرثون المعلومات والمعرفةَ فقط، ولكنَّهم يرثون كذلك غايةَ وجودهم، وحقيقة مسمَّاهم، وتبعات رسالتهم؛ يرثون مهمَّة “التبليغ والهداية”، و”الإرشاد والدعوة”، و”الإنذار والتبشير”.
فالعالِم اليومَ، ينبغي، مهما كان تخصُّصه، أن لا يقتصر على غايات دنيَّة، مثل الشهرة، والحظوة، والذكر، والمال، والمنصب؛ وإنما واجبه، اهتداءً بالسراج النبوي، أن يجعل غايته القصوى إرشاد الناس إلى الحقِّ، ووزعَهم عن الباطل…
فالتبليغ الذي يعني “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، يجب أن يتخذه العالم، من منطلق عمله، مهمَّةً لا وظيفةً، رسالةً وأجرا لا منصبا وأجرة.
لكن، ينبغي كذلك، في عصرنا هذا، أن لا نقصر هذه المهمَّة في الصور المعتادة للتبليغ والدعوة، مثل الخطابة، والكتابة، والوعظ، والتدريس؛ مع أهميتها؛ وإنما الواجب يقضي -إضافةً إلى ذلك- أن ينبري العالِم لمعالجة “الرؤى الكونية”، و”تصحيح المفاهيم”، وخوض غمار حرب “مراكز التفكير”، و”اكتشاف أبعاد “التخطيط والتخطيط الاستراتيجي العميق”، ومعالجة “ما ينتج المعادي للإسلام وللبشرية من فلسفات، ومغالطات، ونظريات” من مثل نظريات “التطور”، و”صدام الحضارات”، و”موت المؤلف”، و”البنوية”، و”الفوضى”، و”الحروب الناعمة”… الخ.
فإن لم يكن العالم اليومَ دليلا رائدا لا يكذب أهله، لمثل هذه المخطَّطات التي تعدُّ بعناية فائقة، فمن ذا الذي يتكفَّل بهذا الثغر الخطير؟!
الهمُّ والاحتراق والشفقة
“عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروحُ عذابًا، والذهنُ همًّا، فلا تتكلم!… وإلاَّ فلن تجد أحدًا يصغي إليك. عندما لا يملأُك الشعور بأنّ دعوتك هي قلبُ الكون، وروحُ الوجود، وأنها ميزانُ العالم، وصمَّام أمنٍ وأمانٍ له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كلِّه؟!”.
نقرأ معاني هذا الاحتراق، في العديد من الآيات القرآنية التي تعرض حال رسول الله r مع قومه، وهو يعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويرشدهم؛ وذلك بعد أن تلقَّى الأمرَ من السماء، فأخذه على محمل الإيمان، وأخلص له، وفي سبيله ارتعد وارتعش، ثم تدثَّر وتزمَّل؛ حتى نزل عليه وحيا من العليم الحكيم: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(الْمُدَّثِّر:1)، ويَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(الْمُزَّمِّل:1).
ولم تخبُ جذوة الحسرة والهمِّ عند الرسول عليه السلام طرفةَ عين، حتى كان ربُّه الرحيم يواسيه، ويهدِّئ من روعه، ومِن ذلك قوله تعالى: فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ(فَاطِر:8)، وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(النَّحْل:127)، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(يُوسُف:103).
ولقد كانت الشفقة سمة الدعوة عند الرسول الحبيب r، فكان قلبه ينبض على وقع البشرية قاطبةً، يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها؛ مِن أبسط إنسان مكانة إلى أرفعهم قدرًا؛ ولقد قال نفديه بأرواحنا ومُهجنا: “إنَّما أنا لكم مثل الوالد”(رواه أبو داود والنسائي). بل قد يحدث أن يقسو قلبُ والد على ولده، ولكنَّ المصطفى r لا يغلُظ قلبُه شرو نقير. كيف لا، وهو الذي نزل فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(التَّوْبِة:128).
بالله عليكم، كم من العلماء والمرشدين اليومَ يحملون “ذرَّة” من هذا الهمِّ على البشرية الحائرة؟! وكم منهم يمارِس علمه رسالةً وجهادا واجتهادا، لا وظيفا وحِرفة ومصلحة؟! بل، كم منهم يبكي ليل نهار، بالغدو والآصال، شفقة على جماهير ألقِي بها بين مخالب الذئاب وأنياب السباع، تَنهش منها، وتغتال فيها المعنى، والقيمة، والخلق، والغاية، والحقَّ؛ فتتركها تائهة حائرة، شقيَّة هائمة، تبحث عن الدليل الخرِّيت ولا تجد؟!
أليس دورُ العالم أن يكون لها ملاذا، ومرشدا؟!
أليس مِن الحريِّ على كلِّ عالم أن يكون من الناس، يحمل همَّهم، يحترق لأجلهم، ويذوي شفقة عليهم؟!
احتمال الأذى، وتحمُّله، والصبر عليه
قال الرسول r لأمِّنا عائشة رضي الله عنها: “لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ”(متفق عليه)؛ لا شكايةً وضجرًا، ولكن إخبارًا وتربيَّةً؛ وما ذلك إلا ليتلقَّف العلماءُ والمرشدون في كلِّ زمان ومكان هذه الدلالة الملازِمة لمهمَّة العالم والمرشد، فيحتمِلوا الأذى، ويتحمَّلوه، ويصبروا عليه.
وهكذا جميع الأنبياء عليهم السلام، وجميع الأفذاذ المجدِّدين عليهم شآبيبُ الرحمة، الذين رسموا بصماتهم على صفحة التاريخ، قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(الذَّارِيَات:52).
يقول بديع الزمان النورسي: “لقد افتديتُ دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع. لم أذق طوال عمري البالغ نيّفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا… قضيتُ حياتي في ميادين الحرب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد، لم يبق صنفٌ من الآلام والمصاعب لم أتجرَّعه، عوملتُ معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيت وغُرِّبت في أرجاء البلاد كالمشرَّدين، وحُرمت من مخالطة الناس شهورا في زنزانات البلاد، وسُمِّمت مرارا، وتعرَّضت لإهانات متنوِّعة، ومرَّت عليَّ أوقات رجحت الموتُ على الحياة ألف مرَّة، ولولا أنَّ ديني يمنعني من قتل نفسي فربما كان سعيدٌ الآن ترابا تحت التراب.. “.
أمَّا مالك بن نبي فيكتب في بعض دفاتره ومذكِّراته: “مرَّة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشكُّ في كلِّ شيء… إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا ربِّ، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصِّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب”.
وما يضير العلماء الربانيين الوارثين، أنهم أوذوا وصبروا، فلم يبدِّلوا ولم يغيِّروا؛ وكانوا أصحاب رسالة ومشروع وغاية؛ لا طامعي حُظوة ومكانة وأجر؛ فهؤلاء وأمثالهم يصدق فيهم أنهم استناروا بمشكاة النبوة، وساروا على درب الأنبياء؛ وما أشبههم بسحرة فرعون حين قالوا لفرعون: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(طَه:72-73) .
هكذا فليكن العالم، أو ليصمت!
العالِم أوان الفتن (خاتمة)
أشدُّ الناس امتحانا وزلزلةً أوان الفتن العلماءُ، ذلك أنهم مأمورون شرعا بالوقوف إلى جوار الحقِّ، من جهةٍ؛ ومأمورون من جهةٍ ثانية بأن يطفئوا تلك الفتن بالحكمة، التي غالبا ما لا يقبلها ولا يتقبَّلها الطرف الأقوى، بل والطائفتان جميعا، في بعض الأحيان؛ ولذا كان دورُ العالم أوان الفتن ابتداءً هو “فهمُها”، و”تحديدُ أسبابها الحقيقة”، والحذر من أن تتمَّ “مغالطته”، أو “التلاعبُ بمشاعره”، أو حتى “التشويشُ على مواقفه وخطابه”؛ ثم إنه لا يملك السكوتَ، والتفرُّج؛ ولقد كتبَ الدكتور عبد الرزاق قسوم، يوم كانت الفتنة بالغةً عنان السماء في الجزائر، كتابًا معبرا دالا عنوانه: “نزيف قلم جزائري!”، ضمَّنه مقالا بعنوان: “علماء الجزائر، ما لهم لا ينطقون؟!”.
ورغم أنَّ الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- (وهو من علماء الجزائر المشار إليهم بالبنان) قد ردَّ عليه بقصيدةِ “لا تُطل لومي”؛ إلاَّ أنَّ السؤالَ سيبقى عالقًا، والجوابَ سيغدو واجبًا؛ عالقًا في عنق كلِّ من أناره الله تعالى بنورِ العلم، واجبًا على كلِّ من تخذ النبيَّ الكريم أسوة وقدوة.
اليوم، والفتنُ تعصف أعاصيرَ هوجاء على جميع بلاد المسلمين؛ وهم في جميع الأحوال الضحيةُ الأولى والمتَّهم الأوَّل، لا يُنتظر الكثير من مدخل السياسة، ولا مِن باب حقوق الإنسان، ولا من أيِّ جهةٍ مهما كان شأنها؛ وإنما الطرف الوحيد الذي يملك مفاتيح الحلِّ، ويضع يده على فتيل السراج، هم العلماءُ الصالحون المصلحون، من كلِّ تخصُّص وفنِّ؛ فإن هم أدَّوا ما عليهم أمَّلنا الخيرَ للأمَّة، وإن هم تقاعسوا -لا قدَّر الله- فإنَّ الشقاء سيكون قدرها إلى أمدٍ بعيد.
وليس المطلوب من العالمِ أن يصف الدواء، ويكتب عنه، ولا أن يتحدَّث عن السراج، ويفتخر به؛ وإنما عليه واجب آخرُ هو النزولُ إلى الأرض، وحقنُ المريض بالجرعات اللازمة من الدواء، وحملُ السراج إلى المناطق المظلمة: من مدرسةٍ، وجامعةٍ، وبرلمانٍ، ومخبرٍ، وقناةٍ، وسوقٍ…وغيرها. وهذا ما يمكن أن نسميه “تحويل الفكر إلى فعل”، و”تجسيد العلم بالعمل”؛ مصداقا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(الْمَائِدَة:54). والله ولي التوفيق، وهو الهادي لسواء السبيل.
Leave a Reply