إن المتأمل في الأحداث الدولية المتسارعة في عالمنا اليوم، يهوله ما نشاهده وما نسمعه من أخبار ، وفي كثير من الأحيان يعجز عن فهم دواليبها وأسبابها ومراميها. هكذا خيم على فكري موضوع حركة الخدمة وما تعانيه هذه الحركة من ظلم ومن مضايقات وضربات موجعة في بعض الأحيان. ذلك ما جعلني أفكر وبعمق في بعض ما يروج حول مصير ومستقبل هذه الحركة من تساؤلات منها: هل انتهت حركة الخدمة؟

وأنا أحاصر أفكاري لمحاولة الفهم، انقدح في ذهني ما نقرأه ونسمعه كثيرا من كلام الله تعالى حول سننه في هذا الكون؛ وكيف أن هذه السنن لا تتخلف و لا تحابي أحدا. و كيف أن من احترمها أعطته ومن تجاهلها داسته.

حينها قلت لنفسي لا وألف كلا، لايمكن لحركة الخدمة أن تنتهي وذلك لأسباب عديدة ومتداخلة. و لأن هذه الحركة وفق ما علمته وما درسته عن فلسفتها ومنطلقاتها وأهدافها بل ومناهجها في تنزيل ذلك وتحقيقه،  كله يتناغم ويساير سنن الله تعالى في هذا الكون {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}.

إن قانون السببية في خلق الله ومخلوقاته، يشي بأن هذه الحركة مقبلة على دورة من دورات الزمن، ينبغي أن تحصد من خلالها ما زرعته من فسائل كثيرة وفي كل مجالات الحياة. فسائل لم تستثن بلدا ولا مجالا من بركة رزعها.

إن سيرورة الحياة كما أرادها خالقها وباريها سبحانه، منضبطة إلى قوانين وسنن لاتتخلف ولا تحابي أحدا. سنن كما هي واضحة في الدين أكدها العلم وبينها العلماء في كل مجالات الحياة. ومن هذه السنن: سنة الله في الأسباب والمسببات، وسنته في التغيير، وسنته في الابتلاء، وسنته في التدافع، وسنته في الظلم، وسنته في الطغيان، وسنته في بطر النعمة، وسنته في الاستدراج…

بعد هذه الخواطر الحارقة  بدا لي أن كتابة هذه السطور ، وتسجيل هذه الشهادة قد تكون من واجبات الوقت التي يعد التخلف عنها تقاعس أو إثم لاقدر الله. وعليه فإن ما يسمى “قانون السببية” ليس إلا وجها من وجوه تلك السنن الكونية وذلك القانون العام الذي يحكم الوجود كله. والذي أظهره الله جلت قدرته في كتابه المنظور، فخضعت له المخلوقات، وانضبطت إليه الأرض والسموات. وهو الذي رسمه القدير سبحانه بعلمه وحكمته في كتابه المسطور، من خلال آيات لايتسع المقام لذكرها، منها قوله تعالى اسمه: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}. وقوله:{ كلوا واشربوا هنيئا بما اسلفتم في الأيام الخالية} وقال سبحانه:{ومن يتق الله يجعل له مخرجا}.

إن قانون السببية ضمن سنن الله في ملكه وملكوته يقضي بأن حركة الخدمة حركة ناجحة بكل المقاييس. إن قانون السببية في خلق الله ومخلوقاته، يشي بأن هذه الحركة مقبلة على دورة من دورات الزمن، ينبغي أن تحصد من خلالها ما زرعته من فسائل كثيرة وفي كل مجالات الحياة. فسائل لم تستثن بلدا ولا مجالا من بركة رزعها؛ حتى غدت نجوم من بلدان العالم تتنفس عبق نسيم هذه الفسائل، بل وأحيت موات عوالم لايعلمها كثير من الناس.

كيف لمن يحاكي تراب الأرض الطيبة والذي يحتضن ويغذي كل بذرة من بذور الخير عبر العالم أن ينتهي؟ كيف لمن عد نفسه ماء يتحمل كل الأجواء ويتجاوزه كل العراقيل، ليروي فسائل الخير المنتشرة عبر العالم أن ينتهي؟

ولعمري إنها جهود مضنية و تضحيات جسيمة، في مجالالت عديدة، حتى أشاد بها الأدعياء قبل الأولياء. تضحيات أثمرت نتائج مهمة وساهمت في خلق مشاريع تنموية نوعية، أضحت مثالا يذكر به الحاضر الغائب، ويتحدث عنه الناس ويستشهد به الباحثون ويستدل به الدارسون. وما كان لكل تلكم الجهود أن تثمر هذه النتائج الطيبة وتنجح وتتألق لولا موافقتها  للسنن الكونية و انضباطها لقانون السببية الذي لايتخلف أبدا. فمن جد وجد ومن زرع حصد. قال الله تعالى في سورة الكهف:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَع سَببًا}. قال الإمام الزمخشري: ” السبب، ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة”. وقال سعيد بن جبير: سببا أي علماً. وقال مجاهد: منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب. وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها.

 وإني زعيم أن أبناء حركة الخدمة تأسيا بأستاذهم، لم يتركوا بابا من أبواب تلك الأسباب إلا فتحوه ودخلوه، فكيف لايمكنهم الله تعالى. قال ابن تيمية رحمه الله في مدارج السالكين: “وليس في الدنيا  والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات”. فليس في هذه الحياة مكانا للصدفة، بل كل شيء  يقع وفق قانون السببية، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. والسنن الكونية لاتحابي في ذلك أحدا.

يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن مؤسس حركة الخدمة وملهمها: “يعيش قسم من البشر، من غير ممارسة للفكر، وقسم آخر منهم يفكر ولكن لا يعكس فكره على واقع الحياة قط. أما ما ينبغي، فهو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطًا فكرية جديدة للعيش فيتفتح على آفاق مُركّبات فكرية مختلفة. والذين يعيشون من غير فكر، هُم دُمى تُمثّل فلسفة حياة للآخرين.” نعم هذا هو فتح الله الذي فتح الله على يديه كثيرا من المغاليق. فهو رجل يعيش مهموما ويفكر مهموما ويبتكر مهموما، ويحمل هموم كل الدمى التي ترقص من أجل تحقيق رغبات الآخرين.

فكيف لحركة هذه فلسفتها أن تنتهي؟ وكيف لفريق يعتقد أن الفكر والحركة والابتكار هو نسغ الوجود، أن ينتهي؟ إن “هؤلاء الذين يحيون حياة كهذه، و يجعلون أعمارهم مزارع لأشجار الفكر، سَمُّوهم إن شئتم أهل الحكمة، أو أبطال الفلسفة ذوي الهدى، وعرِّفوهم كما تشاؤون، لكن اعلموا بأن رجال النور الذين يحيكون التاريخ برقةِ نسيج الحرير وظرافته، قد ظهروا دائمًا من بين هذه الأرواح العالية، على مر الزمان الممتد من العوالم القديمة إلى عصرنا الحاضر”.

كيف لمن يحاكي تراب الأرض الطيبة والذي يحتضن ويغذي كل بذرة من بذور الخير عبر العالم أن ينتهي؟ كيف لمن عد نفسه ماء يتحمل كل الأجواء ويتجاوزه كل العراقيل، ليروي فسائل الخير المنتشرة عبر العالم أن ينتهي؟                (يتبع)

Leave a Reply

Your email address will not be published.