إن القول بنهاية حركة الخدمة قول يتعارض مع فلسفة هذه الحركة الغارقة في الفكر والحركة من أجل العلم بالأسباب والمسببات والأخذ بها، ولا أجدني مبالغا إذا قلت بأن العارف بفكر ومنهج مؤسسها الأستاذ “فتح الله كولن”، يساوره الشك في ظاهر الأمر بخصوص إيمانه بالأسباب وعمله بها. ذلك بالنسبة لمن علم حاله الصوفي وتوكله اللامنتهي على الله تعالى، وتفويضه في كل صغيرة وكبيرة. لكن الذي تشرَب منهج الرجل وخالط تلاميذه، فضلا عن مخالطته شخصيًّا، سيهوله تعلق الرجل كما أصحابه بالأسباب إلى درجة الشك في الإيمان؛ إنها فلسفة هذه الحركة.
لذلك وأنا أتأمل في قانون العِلَية والأسباب، استغربت لأمر هذه الحركة التي تدفع أي عاقل للتساؤل: إذا كانت أفعال الإنسان العاقل لاتخرج عن كونها عللا وأسبابا تنتج عنها نتائج وآثار قد توافق أهدافه أوتقترب منها أو تخالفها وذلك بحسب انضباطها وصحتها؛ فمعلوم أن موضوع العلية أو السببية، إضافة إلى كونه موضوعا عقديا بالنسبة للمسلم، يعتبر موضوعا فلسفيا ضمن فلسفة العلوم، التي ترصد العلاقات بين السبب والأثر في الظواهر العلمية. وقد فصل العلماء وخاصة الفلاسفة في هذه العلاقات، حتى جعلها أرسطو أربعة أنواع؛ علة مادية وعلة غائية تشمل علتين؛ علة صورية وعلة فاعلة. وهي علل وأسباب كلها خالطت فلسفة حركة الخدمة، وبثت في برامجها. ولولا علم السببية لما استطاع الإنسان الوقوف على قضايا وقوانين العلوم الطبيعية وظواهرها الكونية. وكما قال الفيلسوف “كارل بوبر” فإن مبدأ السببية يفترض أن للطبيعة قوانين مطردة لا تتخلف. وبفضلها فهم الإنسان قوانين هذا الكون الفسيح بالرغم من العجز عن إمكانية البرهنة على بعضها، كما هو حال القوانين التي كانت تعمل منذ نشأة هذا الكون. وبفضل هذه الافتراضات الفلسفية استطاع الإنسان التعرف على كثير من العلوم.
لذا فإن قانون السببية، الذي يكاد يكون هاجسا بالنسبة لأعضاء حركة الخدمة، إذا كان كما يراه “كارل بوبر” وخلافا للظواهر العلمية، لايقبل التكذيب ولا يمكن الاستغناء عنه، فكيف يمكن التفكير في نهاية حركة الخدمة بله القول به. لكن درني ومن يفكر بذلك، ولنتأمل بعضا من منهج حركة الخدمة في موافقة ومسايرة هذا القانون الكوني العام والصارم، وذلك من خلال سنة التدافع في منهج حركة الخدمة.
إن استصحاب سنة التدافع يعد أحد مميزات حركة كولن. إذ بها تزن قدرتها التنافسية من أجل تقديم البدائل. وبها وهو الأهم، تنوب عن المسلمين لتبرهن للعالمين صلاحية هذا الدين لكل مكان وحين.
قبل التعرف على سنة التدافع في رؤية حركة الخدمة وملهمها فتح الله كولن، وكيف أعارها من الاهتمام ما يشد الألباب؛ أُفضل التوطئة بالإشارة إلى أن التدافع كما في لسان العرب والقاموس، من الدفاع والدفع. وهو المزاحمة والإزاحة، وتدافع الناس دفْع بعضهم بعضا. ودفع الشيء نحاه. والتدافع بين الحق والباطل وبين المشاريع والمناهج يعني المزاحمة والإزاحة.
ومن سنن الله في كونه، سنة التدافع؛ التي اقتضت حكمة الرب القدير، فيها تدافع المخلوقات للبقاء وتدافع الحق مع الباطل، وتدافع الناس مع بعضهم لتحقيق أهدافهم. قال الله في سورة الحج: {وَلَوْلاَ دفاع ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} قال ابن كثير رحمه الله: “أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف”. وقال الآلوسي رحمه الله: “فدافع بالنبيين عن المؤمنين وبالمؤمنين عن الكافرين وبالمجاهدين عن القاعدين بغير عذر”.
كما اقتضت سنة التدافع أن الغلبة والبقاء للأصلح. جاء بتفسير المنار في قوله تعالى (إن الله لا يصلح عمل المفسدين): “وهذه قاعدة عامة مبينة لسنة الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد”. وقال فيها الآلوسي رحمه الله:”لايديمه بل يزيله ويمحقه ولا يقويه ولايؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معدومًا”. وفي قوله تعالى بسورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ قال: “وظاهر الآية يشمل كل مواجهة مع العدو المادي والمعنوي، كما في المجاهدة والأذى الذي يلحقه أهل الباطل بأهل الحق في خصوماتهم”.
إن الحديث عن سنة التدافع في منهج وفكر حركة الخدمة حديث لا ساحل له. إذ أن السيد “فتح الله كولن” منذ صباه رضع فكر التدافع وآمن بسنة الله في ذاك. فبعدما هزته الفواجع التي عاشتها تركيا من ظلم وتشرذم، طوع فكره ما عاشه مع الشيخ النورسي رحمه الله من قساوة واضطهاد. وما كاد المجاهد الكبير سعيد النورسي يلحق بالرفيق الأعلى حتى تكونت لدى الأستاذ فتح الله قناعات راسخات ورؤية واضحة من أجل التدافع لمتابعة مسيرة الإصلاح ومواجهة النازلات التي تعددت مع مرور السنين. فسطر من أجل ذلك قواعد ذهبية للسير وحدد خططا ورؤى قاصدة للمسير. يقول الأستاذ كولن:” الحركة والنهوض للحملة أهم عمق للصيرورة والتواجد. السكون اسم رديف للانحلال والموت.” وهو يسطر هذه القواعد للنهوض ومواجهة الواقع، لم يفته التفكير في أبعاد رؤيته ووجهته التي يقصدها، والتي تتطلب الشعور بحقيقة المسؤولية حيث يقول: ” أما ارتباط الحركة بالمسؤولية فهو البُعد الإنساني الأول لها. ولا يمكن ادعاء الكمال في حركة أو نهوض لحملة من غير ضبطها بالمسؤولية”.
إن الوعي الكبير بسنة التدافع هو الذي جعل حركة الخدمة في شخص الأستاذ محمد فتح الله، تشعر بنوع من الاحتلال الجديد للبلاد، الشيء الذي يضعها أمام مسؤولية جسيمة للمساهمة في الدفاع عن تحرير الوطن.
هذا الشعور بالمسؤولية لدى حركة الخدمة، نجم عن المعاناة والمكابدة التي عاشتها البلاد زمنا طويلا، إلا أن الأستاذ كولن لايغيب عنه الواقع الذي يترنح فيه الناس ويتدافعوا من أجل التمكين لمشاريعهم وتوطين رؤاهم. فتأملوا قول الرجل الذي لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا سجلها: “أكثر الناس يسعون حثيثا إلى مقاصد وغايات مختلفة. فإذا عمل طلاب المنافع، الدائرة أعينهم كالرحى طمعًا وحرصًا، من غير توان وكلل، وخطب السياسيون في الأرجاء خطبًا سحرية، وهَرّج الإعلام في برامج الأخبار والحوار والمنوعات الأخرى، وتنفست جهاتٌ هواءَ الابتذال أيام السنة كلها، وهرول رجال يكتسون أردية الدين نحو حق التمتع بلا فتور، واستيقظت سوق الأوراق والصرف على التوقعات وباتت مع التوقعات، وبذلت بعض دوائر الدولة الفرص لبعض الأيديولوجيات”
إن منطق سنة التدافع وبروح المسؤولية، يدب في عروق هذا الرجل منذ أمد بعيد. وهو قابع في خلوته، لاتفوته خطب السياسيين ولا هرج الإعلاميين، ولا طواحين هواء المحسوبين على الدين، ولا رجال المال والأعمال الذي يميلون مع التوقعات ويؤثرون في صنع الأحداث؛ كما لم يفته ميل الدولة نحو ترجيح كفة بعض المحظوظين. إن الرجل وهو يتابع كل ذلك يعي جيدا منطق سنن التدافع، وكأنه به خبير، حيث قال في نهاية وصفه لهذه المشاهد الدرامية لتدافع الناس: “وتطلَع أهل الدراية من غير اهتمام في ذهول على كل ما يقع من عظائم الأمور، ومعنى ذلك أن من يسحق يغنم، ومن ينسحق يمضي في سـبيله مبرراً الحال “بالانتخاب الطبيعي!” ومستسلمًا وراضخًا لكل شيء باعتباره طبيعيا…”
إن حركة الخدمة وهي ترقب هذا الواقع المرير، تتجرع آهات المعاناة التي يعيشها المواطن جراء تزامن آلام الوخز من كل جانب. آلام الفقر وآلام الجهل وآلام الفرقة ثم آلام التسلط. وذلك ما نقله إلينا الرجل في هذا المشهد المؤلم حين قال:” كان الجهل والفقر والتفرق والتعصب وما يشبه ذلك، هم أعداؤنا في زمن ماض. واليوم زيد عليهم الخداع والتسلط والسفاهة والخلاعة واللامبالاة وضياع الهوية. وليعذرني هذه المرة الذين يحملون في جنباتهم قلق النـزاهة الدينية والصفوة الفكرية والحماسة “الملّيّة”، إذ أقول بأن أجيال الشباب وقسما من أنقياء السـريرة من الشيب يضَلَّلون منذ مدة طويلة بالحماس البريء النقي، ويعيشون غـدر وعذاب الشخصية الصدوق-المنخدعة، ويُغرَّرون بأيديولوجيات منحرفة ما فيها إلا الكلمات المنمقة. ومهما انحصرت الظاهرة في شرائح معينة من الشعب، فإن هذا الانحراف الفكري والتحول والانـزلاق في الشخصية يعني احتلال هذا الوطن المبارك تارة أخرى”.
إن حركة الخدمة وهي ترقب واقعنا المرير، تتجرع آهات المعاناة التي يعيشها المواطن جراء تزامن آلام الوخز من كل جانب. آلام الفقر وآلام الجهل وآلام الفرقة ثم آلام التسلط.
إن الوعي الكبير بسنة التدافع هو الذي جعل حركة الخدمة في شخص الأستاذ محمد فتح الله، تشعر بنوع من الاحتلال الجديد للبلاد، الشيء الذي يضعها أمام مسؤولية جسيمة للمساهمة في الدفاع عن تحرير الوطن. ومن عجيب الأقدار في منطق السنن الكونية، أن تعيش تركيا وضعا شبيها بالذي عاشه العالم العربي في السنوات الأخيرة. ومن أعجب العجاب أن تجد الأستاذ فتح الله كولن قد تكلم بلسان حال جميع الثورات العربية التي تدافعت من أجل الحرية والكرامة فيما سمي بالربيع العربي، بداية من سنة 2010؛ نعم تكلم بلسانهم بل سبقهم حتى في استعمال مصطلح”الربيع” كناية على التحرر. بمعنى أن الربيع التركي سبق الربيع العربي بسنوات. يقول الأستاذ كولن في أبريل من سنة 1996:” إبّان تزحزح العالم كله نحو الربيع في هذه الأيام، يتفق الجميع على أن المستقبل سيكون خيراً على الرغم من معوقاتٍ بسبب الوضع التاريخي. وجدير بنا أن نطلع على حال الذين يضغطون على هذا “التكوين” العالمي بعزم وإرادة وقدرة عالية. ولا شك في أن من واجب كل مثقف أن يفكر مليًّا في مستقبل وطننا وشعبنا.”
إن حركة الخدمة وهي تتدافع في الداخل لمواجهة المخططات المدمرة والبرامج المفروضة، لا تغيب عينها عن التخطيط والعمل الخارجي الضاغط والمؤثر على التوجهات والمشاريع بالداخل. إن استصحاب سنة التدافع يعد أحد مميزات هذه الحركة. إذ بها تزن قدرتها التنافسية من أجل تقديم البدائل. وبها وهو الأهم، تنوب عن المسلمين لتبرهن للعالمين صلاحية هذا الدين لكل مكان وحين. الشيء الذي لم تفلح فيه أي حركة معاصرة لحد الآن. إن حركة الخدمة وهي تدافع عن نفسها من خلال جودة مشاريعها، لم تثبت للعالم صواب رؤيتها وجذواها فحسب، بل أبانت على علو كعبها في إظهار جمال هذا الدين ومحاسنه، التي طالما انتظرها المسلمون.
بعد كل هذا، ألا يعتبر ذلك صكا مفتوحا لهذه الحركة يؤهلها دخول كل المنافسات الدولية بدون تدافع ولا مزاحمة. وذلك ليس لما تتصف به برامجها من الواقعية والإنسانية والعبقرية، بل لما يخالط ربان سفينتها وقادتها وروادها من مسحة الإخلاص الظاهر و التواضع الجم، والأمل الذي لاحدود له. يقول ملهم هذه الحركة ومؤسسها: “فإن هذا الشعب الذي يستيقظ مرة أخرى على استقامة خط النبي صلى الله عليه وسلم، يترنم بأنشودة الصيرورة والتواجد الجديد مع أنسام الربيع الغض، كالزنابق إذا انبثقت من الأرض رقعة فرقعة، وإذا استولت على الأرجاء ناحية فناحية… ورجائي أن يكون كل جهد وهمة، وكل قطرة دمع، بعد الآن كما كان من قبل، شفاءً لجروحنا التي بدت مستعصية على الدواء، وضياءً للمستقبل الذي بدا مظلما في عيون البعض منا.” قد يعجب الكثير من المهتمين بهذه الكلمات الرصينة العذبة، لكنهم ماذا يصنعوا حيال فراسة هذا الرجل حين يعلموا أنه دبج هذه الكلمات في سنة 1996. فلله درَ هذا الرجل. (يتبع)